الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلما قال الله -تبارك وتعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة البقرة:190] إلى قوله -تبارك وتعالى- في الآية السابقة التي سبق الكلام عليها: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194]، قال بعد ذلك: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:195].
وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا أمر من الله -تبارك وتعالى- بالإنفاق في سبيله، وسبيله -تبارك وتعالى- من أهل العلم من قال: إنه إذا أطلق في القرآن فالمقصود به الجهاد.
وبعض أهل العلم عممه فقال: يحمل على كل نفقة في طاعة الله -تبارك وتعالى- ووجوه البر والإحسان والمعروف.
وقال بعده: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ هنا نهي عن الإلقاء إلقاء الأنفس بالتهلكة وذلك يشمل صورًا متعددة كما سيأتي في الكلام على الهدايات التي تستخرج من هذه الآية.
وَأَحْسِنُوا هذا أمر بالإحسان مطلق بجميع وجوهه وصوره وأشكاله، الإحسان بالمال، والإحسان بالقول قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [سورة البقرة:263]، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [سورة البقرة:83]، فهذا مما أمر الله -تبارك وتعالى- به، وكذلك أيضًا الإحسان إلى القرابات والمحتاجين، والإحسان إلى المسيئين وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سورة فصلت:34]، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:195] فهذا فيه إثبات صفة المحبة لله -تبارك وتعالى- محبة أهل الإحسان هنا.
هذه الآية: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذكر أبو أيوب الأنصاري سبب نزولها، وذلك في القصة المعروفة حينما كانوا يحاصرون القسطنطينية فخرج صف من المشركين عظيم، فخرج رجل من المسلمين من غير درع ودخل في صفهم ثم خرج، يعني أغار عليهم وشق صفهم ثم خرج إلى المسلمين بعد ذلك، فقال قائلون: سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة، يعني أنه قد غامر وأنه دخل في صف الكفار من غير درع وعرَّض نفسه إلى القتل، فقال أبو أيوب الأنصاري : "نزلت فينا معشر الأنصار، وذلك أن الله تعالى لم أعز دينه ونصر رسوله قلنا فيما بيننا: إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتى فشا الإسلام"، يعني الأنصار أهل زروع وحروث ونحو ذلك فتركوها واشتغلوا عنها بالجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى سبيله فيقول: "قالوا في أنفسهم قالوا فيما بينهم: إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتى فشا الإسلام، ونصر الله نبيه فلو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا فأقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195]"[1].
فعلى هذا التهلكة صارت بترك الجهاد في سبيل الله وإنفاق الأموال في طاعته ومرضاته، هذا سبب نزول الآية، وهو مستند من قال: بأن المراد بقوله: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في الجهاد في سبيله، وأن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو بترك الإنفاق في سبيل الله كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما[2]، ومنع النفقة ثم بعد ذلك يقوى العدو فيجتاح المسلمين ويأخذ ما بأيديهم، ويكونون في حال من الضعف؛ لأنه كما هو معلوم لا قيام للمصالح الدينية والدنيوية إلا بالمال، فإذا لم يحصل الإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك مؤذن بقوة العدو وضعف أهل الإسلام، فهذه التهلكة.
ومعلوم أن النفقات والجهاد في زمن النبي ﷺ كان على إنفاق المحسنين، فإذا كفوا عن ذلك فإن ذلك يؤدي إلى ضعف وتراجع مع قوة الأعداء، فالأعداء ينفقون أموالهم في نصر باطلهم كما قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأنفال:36، 37].
فهذا حال هؤلاء الكفار كما ذكر الله تعالى: يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ولكن تلك النفقات تذهب أدراج الرياح وتكون حسرة عليهم ثم بعد ذلك تكون العاقبة لأهل الإيمان، فينصرهم الله -تبارك وتعالى، لكن إذا بذل المسلمون وسعهم وأخذوا بأسباب القوة ولم يحصل منهم شيء من التواني والتفريط، فإن الله -تبارك وتعالى- ينصرهم؛ لأن الله قال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [سورة الأنفال:60]، وقال مذكرًا لهم بنعمته عليهم في يوم: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [سورة آل عمران:123] يعني ليس معهم كبير سلاح ولا كثير عدد ولا كثير خيل وركاب وإنما كانت أشياء قليلة ومحدودة ومع ذلك حصل النصر، فإذا بذل أهل الإيمان وسعهم واجتهدت الأمة في طاعة الله -تبارك وتعالى- ونصر دينه فإن الله -تبارك وتعالى- لا يطالبهم بأكثر من ذلك.
وهكذا أيضًا يؤخذ من هذه الآية وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ من العموم في لفظها الإنفاق في سائر وجوه الطاعات، وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فيدخل في ذلك الإنفاق في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، الإنفاق في إغاثة المنكوبين والملهوفين، وإعانة المتضررين، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [سورة البلد:11-16]، فهذه العقبة فسرها الله -تبارك وتعالى- بقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يوم شدة، وحاجة مُلحَّة.
ونحن نشاهد اليوم أحوال إخواننا المسلمين في بلاد الشام وفي غيرها وما هم فيه من الجوع والبرد والخوف، وذلك سائلنا الله -تبارك وتعالى- عنه ومحاسبنا عليه، فنحن نرفل في ألوان النعم واللذات، أدام الله علينا وعليكم وعلى هذه البلاد، وبلاد المسلمين نعمته وعافيته، وأصلح أحوال الأمة، وأعان هؤلاء من إخواننا المسلمين المتضررين، ورفع ما بهم من ضر، وقواهم، ونصرهم، وأعزهم، وعافا مرضاهم، ورحم موتاهم، وأظهرهم على عدوه وعدوهم.
وهكذا أيضًا فإن الشح والإمساك هو مما يدعو إليه الشيطان: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً [سورة البقرة:268]، فهذا وعد الشيطان وهذا وعد الله -تبارك وتعالى- المغفرة والفضل، وهذا الفضل يشمل الفضل الدنيوي والفضل الأخروي، فما أنفقه الإنسان فإن الله يخلفه، وربنا -تبارك وتعالى- هو الغني الرزاق ذو القوة المتين.
وهكذا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- من هذا العموم: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أنه نهي عن كل لون من أسباب التهلكة والإلقاء فيها، سواء كان ذلك بالنظر إلى مجموع الأمة، أو كان ذلك بالنظر إلى الأفراد، فبالنسبة لمجموع الأمة حينما يكون ذلك يجرها إلى أمور ليست مستعدة لها، وإيقاعها في مصائب وعظائم يكون بعد ذلك لها من العواقب السيئة ما يسلط عليها أعداءها فيجتاحونها ويستحلون بيضتها، فمثل هذا إلقاء بالأيدي إلى التهلكة.
كذلك أيضًا فيما يتعلق بالأفراد فإن الإنسان ليس له أن يتعاطى ما يؤدي به إلى الضرر والهلاك، ولذلك يستدل أهل العلم بهذه الآية على تحريم جميع الأشياء الضارة التي تؤدي إلى الأمراض أو تؤدي إلى الموت والهلاك ونحو ذلك، وهكذا أولئك الذين يغررون بأنفسهم ويغررون بغيرهم بمزاولات في مركباتهم لربما يقع له في أي لحظه بسبب هذه التصرفات ما يكون فيه ذهاب نفسه، فهو يستعرض بهذه المركبة بطريقة تدل على أنه قد سلب العقل، فهذا داخل في قوله: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وهكذا في كل ما يؤدي إلى الضرر والعطب ونحو ذلك بمزاولات لا تليق بالعاقل، فهي داخلة في هذا المعنى.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ هنا الإحسان كما قلنا: بجميع وجوهه وأشكاله وصوره، حتى الإحسان إلى الأعداء، وذلك بالوقوف عند ما حده الله -تبارك وتعالى، وكما قال النبي ﷺ: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة[3]، ويكون ذلك مع الحيوان ومع غيره، هذا الإحسان يكون بالقول والفعل والمال، ويكون بأنواع المواساة والرفق ونحو ذلك، فهو لفظ عام: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهذا كما هو معلوم الجزاء من جنس العمل، وكما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "بأن من أحسن إلى عباد الله أحسن الله إليه"[4]، فالمحسن الذي يحسن إلى الناس هو حري بإحسان ربه -تبارك وتعالى- وجوده وفضله وعطائه.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المحسنين إنه سميع مجيب -والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في قوله تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195]، برقم (2512)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة البقرة، برقم (2972)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (13).
- تفسير الطبري (3/ 314)، وتفسير ابن كثير (1/ 528)، وأخرجه البخاري عن حذيفة ، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ [سورة البقرة:195]، التهلكة والهلاك واحد، برقم (4516).
- أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، وتحديد الشفرة، برقم (1955).
- انظر: بدائع الفوائد (3/ 17).