الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
(154) قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ..} الآية:196
تاريخ النشر: ٠٣ / ربيع الآخر / ١٤٣٧
التحميل: 1697
مرات الإستماع: 1809

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة سورة البقرة القتال ذكر بعده الجهاد الآخر كما قال النبي ﷺ: عليكن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة[1]، فذكر آيات الحج بعد آيات القتال فهما جهادان، فقال الله -تبارك وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة البقرة:196].

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أدوا الحج والعمرة تامين خالصين لله -تبارك وتعالى، فإن منعكم وحال دون الإتمام بعد الدخول في النسك والتلبس بالإحرام، إن حصل ما يمنع من إتمامه من عدو أو مرض أو نحو ذلك فالواجب في هذه الحال هو الهدي، ذبح شاة أو بقرة أو بدنة من الإبل تقربًا إلى الله -تبارك وتعالى، وبذلك يكون المحصر قد حل من إحرامه، فيحلق أو يقصر بعد ذلك؛ لأنه لا يجوز له أن يحلق ولا أن يقصر حتى يبلغ الهدي محله، فإن كان في أمن وقدرة على الوصول إلى البيت فإن محله في يوم النحر كما هو معلوم، وإن أحصر فإنه يذبح هذا الهدي في الموضع الذي أحصر فيه، وهذا يعطيه لمن كان في تلك الناحية من الفقراء، كما فعل النبي ﷺ في الحديبية لما صده المشركون عن البيت نحر هديه ﷺ وحلق رأسه[2].

وهكذا المريض أو من كان به أذىً من رأسه يحتاج مع إلى الحلق فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ كالقمل كما وقع ذلك لكعب بن عجرة ، فقد جيء به إلى النبي ﷺ والقمل يتناثر على وجهه، فالنبي ﷺ قال له: أتجد شاة؟، فقال: "لا"[3]، ثم ذكر له بعد ذلك على التدريج من الأعلى إلى الأدنى، فإن فدية الأذى هي بذبح شاة، أو بصيام ثلاثة أيام، أو بإطعام ستة مساكين من فقراء الحرم، فيكون مخيرًا بين هذه الأمور الثلاثة، يعطي لكل مسكين نصف صاع من طعام يكون قوتًا، وهكذا الشاة فإنها توزع على فقراء الحرم، فإذا أمن الناس فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ؛ وذلك باستباحة ما حُرِّم عليه بسبب الإحرام حينما يتحلل من العمرة فيحل له الوطء والطيب ونحو ذلك، ويكون قد جمع بين النسكين في سفر واحد، فهنا يكون عليه الهدي، ولذلك ألحق به عامة أهل العلم الجمهور القارن، مع أن القارن لا يتحلل من عمرته، فعمله على الأرجح هو كعمل المفرد إلا أن عليه الهدي، ففي هذه الحال يكون عليه الهدي، وهذا الهدي للشكران وليس للجبران.

الفدية التي تكون بسبب الأذى فدية الأذى لحلق الرأس أو نحو ذلك هذه يقال لها: فدية جبران، بمعنى أنها تجبر النقص الذي وقع، فدية الأذى هذه يخير فيها بين ثلاثة أمور هي التي ذكرناها آنفًا.

وهناك فدية لترك الواجب هذه للجبران لكنه لا يكون مخيرًا فيها، وإنما يكون عليه ذبيحة فدية، يذبح شاة أو يذبح بقرة أو يذبح بدنة، قد يكون ذلك مخيرًا فيه وقد يكون الواجب عليه بدنة كما في الجماع، وقد يكون الواجب شاة، في أحكام تفصيلية معروفة في مظانها.

فالمقصود أن هذا الذي يتمتع عليه أن يذبح هديًا لشكر الله -تبارك وتعالى- على ما منَّ عليه وأعطاه ووسع عليه، فتحلل وأتى بنسكين، تحلل من العمرة قبل الحج، وأتى بنسكين في سفر واحد، فهو يشكر الله -تبارك وتعالى- على ذلك، فمن لم يجد هذا الهدي باعتبار أنه ما وجده متاحًا يباع أو ما وجد القيمة، كأن تكون قد قصرت نفقته أو ضاعت أو سرقت أو نحو ذلك ففي هذه الحال يصوم ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإن كان ذلك الفقد بعد فإنه يصوم في أيام التشريق بعد يوم النحر ثلاثة أيام، وإلا فالأصل أن أيام التشريق كما هو معلوم يحرم صومها، لكن في مثل هذه الحال يستثنى، فيصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، إذا رجع إلى بلده بعد فراغه من أعمال الحج، فهذه عشرة كاملة ثلاثة وسبعة لا بد من استيفائها.

ذلك الهدي وما ترتب عليه من الصيام كله لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، يعني لم يكن من أهل مكة، فهذا أهل مكة الذي يذكره الفقهاء أنه لا تمتع عليهم وإن لم يكن هذا محل اتفاق.

وَاتَّقُوا اللَّهَ اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لمن خالف أمره وارتكب نهيه.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد والهدايات بهذه الآيات آيات الحج في سورة البقرة نجد الأمر بتقوى الله -تبارك وتعالى- في اثني عشر موضعًا في آيات الحج هذه بكمالها في سورة البقرة، والله -تبارك وتعالى- ذكر ما يتعلق بالحج في سورة البقرة وفي سورة الحج، لكن الذي في سورة البقرة ذكر الله -تبارك وتعالى- الأمر بالتقوى وبأسباب التقوى من الذكر والاستغفار ومجانبة ما يناقض ذلك من الفسوق والجدال ونحو هذا، يعني التقوى ومكملات وما يتفرع عنها في اثني عشر موضعًا في هذه الآيات من سورة البقرة، فهذا يدل على أن قضية التقوى تتعلق بالعبادات تعلقًا وثيقًا، لاسيما الحج، وفي آيات القتال التي قبلها وَاتَّقُوا اللَّهَ الأمر بالتقوى، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194]، وهنا أيضًا الأمر بالتقوى، فيحتاج العبد إلى ملازمة التقوى في كل أحواله، في العبادة بأن يأتي بها على الوجه المشروع على الوجه المطلوب.

وكذلك يحتاج إلى التقوى من أجل ألا يقع في المحظور، وألا يرتكب ما حرمه الله -تبارك وتعالى- ولا يتعدى حدوده التي حدها، فالتقوى تكون ملازمة للعبد في كل أحواله حتى مع التلبس بالعبادة والنسك.

كثير من الناس يظن أنه إذا لبس الإحرام وتلبس بالنسك أنه صار بذلك تقيًا، والواقع أنه قد يقارف مع هذا الإحرام من موبقات تتعلق بالقلوب أو بالجوارح وقد يشعر بذلك وقد لا يشعر، فما يقوم بالقلب لربما الرياء والسمعة والعجب بالعمل والنفقة والجهود التي يبذلها في الحج، إما في خدمة الحجيج أو في تعليمهم أو في يعني كم محاضرة ألقاها في ذلك الموسم، أو في يومه وليلته، وكم أنفق من النفقات، وكم بذل في هذه الحملة باهظة التكاليف، وكم وزع على هؤلاء الحجاج من الطعام والمياه والمشروبات المتنوعة إلى غير ذلك مما قد يقع في قلب الإنسان فيكون ذلك من جنايات القلب، وقد يبطل ذلك عمله.

وهكذا أيضًا إطلاق البصر وإطلاق اللسان، ولربما أيضًا إطلاق اليد بأذية الناس ودفعهم، بل وضربهم فهذا وغيره خلاف تقوى الله -تبارك وتعالى، ولذلك كثر الحديث عن التقوى في آيات الحج، وعن توابعها، ولوازمها، ومسبباتها من أجل أن يحفظ العبد حجه.

فهذه التقوى حينما تتأكد في هذا العمل يدرك الإنسان أنه يجب عليه أن يأتي به على الوجه المشروع، لا يكون حجه من أجل اختصار المناسك، واختصار العمل، فهو يذهب في آخر وقت الإمكان ويرجع أول الناس، لربما ترك الرمي أو جمع الرمي، ترك بعض الأعمال ثم يأتي بحج مبتسر ويرجع قبل أن يرجع الناس، يفتخر أنه في اليوم الثاني عشر أدرك العصر في بيته مثلاً، أو صلى العصر في مسجد حيِّه أو نحو ذلك، متى طاف حتى يدرك يسافر ثم يصل، والبعض لربما صلى العيد في بلده، ذهب فطاف قبل الفجر ولا أدري كيف وصل، والباقي ما يتعلق بالرمي وما يلزمه لربما دفع فدية فيه، فهذا خلاف تقوى الله ، وَاتَّقُوا اللَّهَ ليست القضية أن نأتي بحج بطريقة على خلاف الوجه المشروع ونحذف أعمالاً شرَّعها الله -تبارك وتعالى- وأوجبها، ونتعدى حدوده من غير مبالاة، ولربما ترك الإنسان المبيت بمزدلفة والمبيت بمنى مع قدرته على ذلك، ووجود المكان، فهو لا يرد أن يفعل هذا بل لربما بقي في خارج مكة في الطائف في الهَدا يُسكن في مكان في منتجع في فندق ويأتي في آخر الليل يمر على عرفة ثم يرجع الحج عرفة، ثم يأتي بعدما يذهب الزحام ويطوف طواف الإفاضة ويسعى والباقي يُجبر بدم عنده، فحج بهذا الاعتبار، العبادة لا تكون بهذه الطريقة.

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ هذا أمر بالإتمام، الإتمام هنا يشمل أن يؤتى بهذا العمل هذا النسك على الوجه المشروع المطلوب من غير ابتسار، ليست القضية أن نصل قبل الناس، وأن نلقي على عواتقنا هذه الأعمال والمناسك ونتخلص منها، القضية أن يؤتى بالعمل على الوجه الصحيح، فإن الله لا يقبل العمل إلا إذا كان على وفق ما شرع وبالإخلاص.

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ ويدخل في إتمام الحج أنه إذا دخل في النسك فليس له أن يتحلل منه إلا في حال الإحصار، فهذا المحصر كما ذكر الله -تبارك وتعالى- يذبح في الموضع الذي أحصر فيه ثم يحلق أو يقصر، لكن الكثيرين يتساهلون في هذا فيذهب الواحد في أيام المواسم والزحام للعمرة ولربما أخذ أولاده ونحو ذلك، فإذا جاءوا ووصلوا إلى مكة ورأى الزحام يقول: رأيت مشقة فذهبت إلى المطار، هكذا من عند نفسه، دخل مكة ولا يوجد إحصار، ذهب في وقت الذروة في وقت الزحام الشديد فراعه ما رأى من كثرة الناس فرجع، ويظن أن يتحلل بهذه الطريقة، والواقع أنه لا يزال محرمًا حتى يأتي بالنسك، فإن الإحرام لا يصح رفضه، بمعنى أنه لو نوى الخروج منه لا يخرج يبقى على إحرامه، الصلاة مثلاً لو كان الإنسان يصلي ونوى الخروج منها فإنه لا يحتاج إلى تسليم، إذا أقيمت الصلاة ونوى الخروج من الصلاة بعض الناس يسلم عن يمينه أو عن يمينه وشماله وهو قائم، هذا غير صحيح، وإنما يكفي أن ينوي بقلبه الخروج من الصلاة، فيكون قد خرج ولا يحتاج إلى تسليم؛ لأن التسليم للإتمام.

فهذا النسك إذا دخل فيه الإنسان لزمه بالاتفاق بنص الآية، واختلف العلماء فيما وراء ذلك يعني غير الحج والعمرة وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ هذه الأعمال العبادات الصوم والصلاة والاعتكاف والطواف ونحو ذلك هل له أن يقطعه إذا ابتدأ فيه دخل فيه، هل له أن يقطعه؟ بالنسبة للفريضة ليس له أن يقطع إلا لعذر، يعني مثلاً الصيام لا يجوز له أن يقطع الصوم صوم الفرض سواءً كان نذرًا أو كان من رمضان إلا لعذر يباح فيه الفطر كالمرض أو السفر المبيح للفطر، لكن بالنسبة للصلاة لا يجوز له أن يخرج من الفرض إلا لعذر صحيح، مثل: لو أنه تبين أن الوقت لم يدخل، أو أنه ظن أن الناس قد صلوا فشرع في الصلاة ثم أقيمت الصلاة في المسجد ففي هذه الحال له أن يخرج منها؛ ليصلي مع الجماعة، ففي هذه الحال وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ في هذه الحال لو أنه في صلاته أدرك أو اكتشف أنه لم يخشع فأراد أن يصلي صلاة خاشعة فليس له أن يعيد وليس له أن يقطع، عليه أن يُتم الفرض، لكن في النوافل النافلة في الصيام أو النافلة في الصلاة أو نحو ذلك هذا خلاف بين أهل العلم، والراجح أنه يجوز له القطع والإتمام أفضل، والذين قالوا: لا يجوز له القطع احتجوا بقوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [سورة محمد:33]، والآية ليست في هذا المعنى.

وبعض أهل العلم كالمالكية يقولون: إنه يجب الإتمام في أعمال محددة معينة ذكرتها في بعض المناسبات.

من صلاتنا وصومنا وحجنا وعمرة لنا كذا اعتكافنا[4]
طوافنا مع ائتمام المقتدي ....................

يعني إذا دخلت في وراء الإمام ليس لك أن تقطع.

...................... فليزم القضاء بقطع عامد

يقولون: يجب عليه القضاء، فمثل هذا فيه نظر، والراجح أنه لا يجب القضاء في النوافل، لكن لو أنه شرع في الحج أو العمرة ولو نافلة فيجب عليه الإتمام.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب المناسك، باب الحج جهاد النساء، برقم (2901)، وأحمد في المسند، برقم (25322)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (2534).
  2. أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب إذا أحصر المعتمر، برقم (1809).
  3. أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب قول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196]، برقم (1814)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، برقم (1201).
  4. مواهب الجليل في شرح مختصر خليل لشمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي (2/ 90)، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1412هـ - 1992م.

مواد ذات صلة