الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[156] تكملة قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ..} الآية:196
تاريخ النشر: ٠٥ / ربيع الآخر / ١٤٣٧
التحميل: 1149
مرات الإستماع: 1487

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

ما زال الحديث متصلاً بأول آيات الحج في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة)؛ وذلك قوله -تبارك وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196] وقد تكلمنا عن صدر هذه الآية، ثم بلغ الكلام قولَه -تبارك وتعالى: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فهذا كما سبق لمن لم يجد الهدي.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ التخفيف والتيسير، حيث فرّقها الله -تبارك وتعالى، ومن جهة أخرى حيث جعل القليل في الحج، والكثير إذا رجع إلى أهله، وهذا موضع من مواضع التيسير في الحج، وهو التيسير الصحيح الذي ينضبط بأدلة الشرع.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ فيه التفات، وعرفنا أن الالتفات: تحولٌ في الكلام من الغائب إلى المخاطب، والعكس، أو من الواحد إلى الجمع، والعكس، إلى غير ذلك من صروف التحولات في الخطاب.

فهنا في قوله -تبارك وتعالى: فَمَن تَمَتّع، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ كل ذلك للغائب، ولكن قوله: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ للمخاطب، وهذا الالتفات يذكر العلماء فيه إجمالاً: أنه يُنشط السامع، وهو من صروف البلاغة في الكلام، وكذلك يذكرون في كل موضع لطيفة تتعلق بهذا الالتفات، كأن يكون مثلاً قد أكدّ ذلك عليهم في حال الرجوع، فوجه الخطاب إليهم، فالسابق يتحدث عن أولئك الذين لم يجدوا الهدي، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ من الناس، لكن حينما جاء بالحكم الذي يلزمه، قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ فوجه الخطاب إليهم.

ثم قال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ وعرفنا ما فيه، فالسبعة والثلاثة عشرة، لكن لما كان يحتمل أن تكون الثلاثة يضاف إليها ما يكملها إلى سبعة وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ يعني: تكملون العدد إلى سبعة، فهذا احتمال، واحتمال أن تكون الثلاثة يضاف إليها السبعة، فتكون عشرة، فقطع هذا الاحتمال، فقال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ وهذا يسمونه فذلكة، ومعنى الفذلكة هي كلمة مركبة، يعني فذلك عشرة، هذه فذلكة العدد، وهناك فذلكة في غير العدد، فكأنه يقول: فذلك عشرة كاملة، وفائدتها: أن الواو هنا -كما سبق- تحتمل أن تكون بمعنى (أو) التي للتخيير، فيحتمل المعنى: فصيام ثلاثة أيام، أو سبعة، أو صيام ثلاثة أيام إلى سبعة، يعني ما يكمل العدد بسبعة، فأزيل هذا التوهم بهذه الفذلكة تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ وبهذا يُعلم العدد الإجمالي للعددين المفرقين، أنه يلزمه أن يصوم عشرة أيام.

وأيضًا ليُعلم أن العدد عَشَرَة هنا لا يقصد به الكثرة، قد تقول لإنسان: أتيتك عشر مرات، قلت لك ذلك عشر مرات، تقصد الكثرة، لكن هنا العدد، سبعة وثلاثة، فالمجموع عشرة، فيراد به ذلك، فعُلم على سبيل التفصيل، وعُلم على سبيل الإجمال، وهذا من حسن التفهيم والتعليم والبيان، والعرب أمة أمية لا تحسب، وجاءت هذه الشريعة على معهودهم في مخاطباتهم من غير تكلف.

والعرب تذكر السبعة، ومضاعفات السبعة، تقصد بذلك التكثير، فعُلم هنا أن المقصود سبعة هو العدد المعروف، وليس الكثرة، وقوله: كَامَلِة زيادة في التوكيد، فهي صفة مؤكِدة تفيد المبالغة في ضبط العدد، والمحافظة عليه، أن يصوم عشرة أيام كاملة، من غير نقص، ولا شك أن العشرة هي أول الأعداد الكاملة، به تنتهي الآحاد في العدد، وكل هذا من باب التأكيد على هذا الحكم.

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أمر بالتقوى بعد أن بيّن هذه الأحكام، وقد ذكرنا من قبل أن مبنى هذه التشريعات على التقوى، لا سيما الحج، وأنها المقصود الأعظم، فإن هذه التعبدات التي شرَّعها الله -تبارك وتعالى- لعباده، إنما هي لتربية التقوى في نفوسهم، فليست هي مزاولات وأفعال مجردة، وإنما ذلك للتقوى، كما قال الله  في الهدي: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [سورة الحج:37] فالتقوى هي المقصودة، سواءً كان ذلك في الهدي، أو كان ذلك في غيره من الأعمال: من الطواف والسعي والصيام، وسائر العبادات كالصلاة، وغيرها.

وكذلك أيضًا في قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أظهر في موضع يصح فيه الإضمار، يعني لم يقل: واتقوا الله، واعلموا أنه شديد العقاب، فجاء الاسم مظهرًا في جملتين، وهذا لا إشكال فيه، فهو من الناحية البلاغية في غاية الفصاحة، والقرآن هو أفصح الكلام، وأبلغه، كما هو معلوم، والإظهار في موضع يصح فيه الإضمار يفيد تربية المهابة في مثل هذا الموضع بذكر الاسم الكريم مظهرًا، من أجل مراعاة الله -تبارك وتعالى- في حدوده وتشريعاته التي شرعها؛ ولئلا يفهم من الإضمار لو حصل تقييد شديد عقابه بخشيته مما مضى، لكنه قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فالباعث على المخافة هو العلم، وهذا يدل على أن العلم من أسباب الخشية؛ ولهذا جاء عن ابن مسعود قال: "العلم الخشية"[1]، يعني: أنه يورث الخشية، فالعلم الصحيح الذي يقرب إلى الله، هو ما أورث الخشية منه، فالعلم الذي لا يزيد الإنسان خشية، وإنما يزيده بعدًا وغفلة وإعراضًا وتيهًا، فهذا من العلوم التي لا تنفع.

فهذه الآية هي أطول آيات الحج، وذكرت التيسير، ومختومة بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فدلّ على أن التيسير ليس بالتشهي، وأن شرائع الله -تبارك وتعالى- ليست بأذواق الناس، وأمزجتهم، ونحو ذلك، فيتخيرون منها ما يوافق أهواءهم، ويتركون ما عدا ذلك، بل إن شرائعه يجب أن تلتزم، وأن تؤدى على الوجه الذي شرَّعه -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

وأيضًا هذا يدل على أن العلم بشدة عقابه -تبارك وتعالى- من العلوم النافعة المطلوبة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب فقد أمر الله -تبارك وتعالى- به بخصوصه، فوجود هذا في خلد الإنسان، وقلبه: بحيث أن يكون معلومًا له: أن الله شديد العقاب، هذا يجعله يترك معصيته، ويفعل طاعته، وما أمره به، ويكون ممتثلاً، وعلى حال مرضية، فهذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (7/ 21).

مواد ذات صلة