الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[158] تكملة قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ..} الآية:197
تاريخ النشر: ١٠ / ربيع الآخر / ١٤٣٧
التحميل: 1714
مرات الإستماع: 1425

الحمد لله، والصلاة السلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

نواصل الحديث -أيها الأحبة- فيما يستخرج من الهدايات من قوله -تبارك وتعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:197].

تحدثنا عن صدر هذه الآية: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ فجاء النهي عن الرفث والفسوق والجدال بصيغة النفي؛ وذلك أبلغ، فهو أمر محسوم، قد فُرغ منه، فعُبِّر عنه على أنه قد قُضي، فجاء على سبيل الإخبار، فلا ينبغي لأحد أن يقع في شيء من ذلك إذا تلبس بالإحرام فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ فكأن هذه الأمور لا وجود لها أصلاً.

كذلك أيضًا وَلا جِدَالَ كما قال ابن مفلح -رحمه الله- في الآداب الشرعية: "فلو كان في الملاحاة خير لما كانت سببًا لنسيانها -أي ليلة القدر؛ ولأن الله تعالى صان الإحرام عن الجدال"[1].

وقد ذكرتُ بأن الجدال لا يكاد يُذكر في القرآن إلا على سبيل الذم، هذا هو الغالب، حتى قال بعضهم: إن أصله مأخوذ من الجدالة، وهي الأرض الصلبة؛ وذلك أن الجدال يحصل فيه ما يحصل من حضور النفوس، وطلب حظوظها، من الانتصار لها، والغضب من أجلها، وما أشبه ذلك، وما يؤثره ذلك من المنافرة والتباغض والتباعد، والشريعة تأمر أهل الإيمان بأن يكونوا مجتمعين متحابين وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [سورة آل عمران:103] ولما وجد الجدال وكثر بسبب ما دخل على المسلمين من منطق اليونان، وترجمة تلك الكتب، تفرقت الأمة إلى طوائف كثيرة، واشتغل قوم بالجدال، وكثر الكلام والاختلاف، حتى عُرف أولئك بأهل الكلام.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: أنه ينبغي على العبد في حال الإحرام أن يبتعد عن كل ما يفرق قلبه؛ ولهذا نهي عن الجدال لما يحصل فيه من تشويش الفكر، فيكون قلبه حاضرًا للعبادة، والاتصال بالله -تبارك وتعالى، وأن يؤدي هذه المناسك بقلب حاضر، فلا يكون تطوافه في هذه المناسك من غير حضور قلب، فيكون جافًا.

وأيضًا فإن الله -تبارك وتعالى- قال بعد هذا النهي: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ لما نهاهم عن هذه الأشياء جاء بهذا الخبر الذي يتضمن حثًا على فعل الخير، كما هي عادة الشارع إذا نهى عن شيء أمر الناس بما يكون فيه صلاحهم ونفعهم، فإن النفوس خلقت للفعل، ولم تخلق للترك، فالترك مقصود لغيره، فلا بد من عمارة القلوب والجوارح بالإيمان، والعمل الصالح، وأما الترك فهو من باب التخلية؛ ولذلك لا يحسن في التربية أن يُركز المربي على النهي والمنع دائمًا، وما أشبه ذلك، وإنما يحُث الناس على ما فيه نفعهم وصلاحهم، وينهاهم عما يضرهم، فلا بد من النهي، لكن لا يكون ذلك مقتصرًا عليه.

وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ كما قال بعض أهل العلم: بأن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه، كان أحرص على العمل، وأكثر التذاذًا به، وأقل نفرة عنه، وكان اجتهاده في أداء الطاعات، وفي الاحتراز عن المحظورات أشد؛ ولهذا قال: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فإذا استشعر الحاج أن أعماله الصالحة من طواف وسعي وذكر ووقوف بعرفة، ومبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، وما يحتف به من النفقات، وألوان التقربات إلى الله -تبارك وتعالى- فالله يعلمها.

وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فإذا استشعره العبد هان عليه ما يبذل من المال، فالله يعلم ذلك، وما يناله ويحصل له من الألم والتعب والمشقات، حينما يستشعر أن الله يطلع عليه، ويعلم ذلك، فإنه يهون عليه التعب، ويلتذ بذلك كله، فلا يرى الله -تبارك وتعالى- منه ما لا يليق من التذمر والتسخط، وكذلك التحسر على ما أنفقه في هذا السبيل، وأن يستكثر ذلك، فمثل هذا لا يكون ممن يستشعر نظر الله إليه، وعلمه بما يبذله ويعمله، وإذا كان هؤلاء من العمال ينظر إليهم هذا الرئيس، فإنهم يجدون ويجتهدون، وحينما يقول الرئيس لمرؤوسه: الأعمال والجهود التي تبذلها معلومة لدي، فإن هذا يبعث الطمأنينة في نفسه، ويزيده جدًا واجتهادًا، فهو لا يُهضم، ولا يضيع من حقه وجهده شيء، فكيف بعلم الله وإحاطته؟!

لكن إذا كان ما يفعله العباد من الخير يعلمه الله، فكذلك ينبغي أن يحترز، بحيث لا يقع في قلب العبد خلاف ذلك من المقاصد الفاسدة، وإن كان ظاهر العمل في الخارج صحيحًا، فيحج وربما يمشي في المناسك، ويتنقل فيها، ولكنه يتحدث بهذا، ويصور ويرسل الصور ليقال: فلان حاج، يرفع يديه ويدعو ويأمر من يصور، فيكون ذلك مخلاً بعمله، وقد يفسد نيته وقصده، والأعمال بالنيات، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيحترز الإنسان من جميع المحظورات القلبية، وما يتصل باللسان، فلا يصدر عنه إلا كل جميل، وكذلك ما يصدر عن جوارحه.

ولو أن الإنسان بقي على هذه الحال لحج حجًا في غاية الإتقان والضبط في العمل، من حيث اتباع السنة، والعمل المشروع، ولم يحصل من إخلال وتجاوز لحدود الله ، وكذلك من جهة صون اللسان والجوارح والقلب عما لا يليق، لكن انظروا كم يقع منا من التخليط بسبب غفلتنا عن هذا كله، نخلط كثيرًا في النيات، وفيما يصدر عن اللسان، والجوارح.

وخص الخير في قوله: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ولم يقل: وما تفعلوا من شيء يعلمه الله، وفي هذا المزيد من الحث على فعل الخير، فذكر أشرف الأمرين، وإلا فالله -تبارك وتعالى- يعلم ما يصدر عن الإنسان من أعمال السوء، وهذا من لطفه -تبارك وتعالى- بعباده.

و(خير) في قوله: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ نكرة في سياق الشرط، فتفيد العموم، فإذا سبقت بـ(من) مِنْ خَيْرٍ فإن ذلك يجعلها نصًا صريحًا في العموم، فتشمل أي خير، فيدخل في هذا الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، والعبادات القلبية التي يجب العناية بها من الخوف والرجاء، وقبل ذلك الإخلاص للمعبود، وكذلك التوحيد والإخبات، وما أشبه هذا، فهذا كله -أيها الأحبة- يحتاج العبد أن يراعيه؛ لأنه من أعظم الخير، فإن جنس الأعمال القلبية أفضل من جنس أعمال الجوارح، كما هو معلوم، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ولو كان ذلك مما لا يطلع عليه الناس، مما عمله سرًا.

وأيضًا فإن هذه الآية عقّبها الله -تبارك وتعالى- بقوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى فأمر الحجاج بأن يتزودوا لسفرهم بالزاد المحسوس الطعام والشراب، وما يحتاجون إليه من الأقوات، فهذا من بذل الأسباب، وتعاطي الأسباب أمر دعا إليه الشرع، وهو لا ينافي التوكل، فلا يسافر الإنسان بغير زاد، بدعوى أنه متوكل على الله -تبارك وتعالى- في أسفاره التي يسافر فيها، سواء كان ذلك في الحج، أو في غيره.

وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى هذه الجملة جاءت في هذه الآية، وكما جاء في سبب النزول: أن قومًا من أهل اليمن كانوا يأتون إلى الحج بغير زاد، ويقولون: نحن المتوكلون، وإذا صاروا إلى مكة سألوا الناس، فهذا خلاف التوكل، والشريعة تدعو أهل الإيمان لفعل الأسباب، التي يكون بها غناهم عن سؤال الناس، والافتقار إليهم، فيحفظ الإنسان مروءته، وكماله اللائق، وكرامته التي ينبغي أن يتعاهد الأسباب التي تتحقق بها.

ولما ذكر هذا الزاد الحسي، أشار إلى الزاد الآخر في السفر الطويل، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى فهذه الأسفار في الدنيا مهما طالت هي قصيرة، ومع هذا أمر بالتزود لها، فمن باب أولى السفر الطويل، وهو السفر إلى الآخر، فهذا يحتاج إلى زاد، ولكن ليس بالطعام والشراب، وإنما بالتقوى، والعمل الصالح، والإيمان بالله -تبارك وتعالى، فكلنا مسافر إلى الله، وأعمالنا التي نحملها هي الأزواد، وهي التي نقتات بها هناك، أيًّا كانت هذه الأعمال صالحة أم فاسدة، فالذي يعمل الأعمال الصالحة يجد ذلك عند الله، والذي يعلم الأعمال السيئة يجد ذلك عند الله، فينبغي على العبد أن يبادر ويتوب ويستغفر ويجدد العهد مع الله -تبارك وتعالى، ويعمل ما استطاع بطاعته ويتقيه، فقد يرحل في أي لحظة، ولا يدري الإنسان هل يخرج من هذا المسجد أو لا؟

فهنا يُرشد إلى الاستعداد لذلك السفر وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى جمع بين الزادين، كما في قوله -تبارك وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [سورة الأعراف:26] هذا اللباس الظاهر المادي، ثم قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] فقرن بين اللباسين، وهنا قرن بين الزادين، الزاد الحسي، والزاد المعنوي.

وتضمن قوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى إبطال ما كان يفعله بعضهم في حجهم من عدم التزود، وذلك يكون قطعًا لتعلق القلب بالمخلوقين أن يعطوه أن يمنحوه، وأن يحسنوا إليه، ونحو ذلك، وقد بايع النبي ﷺ بعض أصحابه ألا يسألوا أحدًا من الناس شيئًا، حتى كان السوط يسقط من أحدهم فلا يقول لصاحبه: ناولنيه[2]، وهذا هو الاستغناء الكامل عن الناس.

وتضمنت هذه الآية أيضًا: الحث على التزود بالطاعات؛ ولما ذُكر هذا في الحج كانت المناسبة -كما سبق- أن بعضهم يحج بلا زاد، وكذلك يدل هذا على أن العمل الصالح، والتقرب إلى الله بجميع أنواعه في الحج: متأكد ومطلوب، فالحاج يحتاج إلى أن يتزود ما استطاع، لا أن يتخفف من الأعمال الصالحة، فالكثيرون -أيها الأحبة- يريد أن يحج بأقل كلفة، سواءً كانت مادية (من المال)، أو كانت هذه الكلفة من الأعمال التي يعملها، فيسأل عن الشيء المجزئ فقط، وتقضى الأوقات الطويلة في أفضل المواسم، وأشرف المواسم، والبقاع بأحاديث قد لا تنفعه، بل قد تضره، ويُقضى زمان طويل بالنوم والكسل عن الطاعة.

قال رجل ليونس بن عبيد -رحمه الله: أوصني، فقال له: اتق الله، فمن اتقى الله فلا وحشة عليه وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ فإذا سئل: ما خير الزاد؟ فيقال: التقوى، إذن ليس خير الزاد هو ألوان وأصناف المطعوم من أنواع المستلذات، وليس خير الزاد هو ما يكتنزه الإنسان من الأموال، فإنه لا يأخذ معه في قبره منها شيئًا، ولو قل، وليس خير الزاد إطلاق اللسان في أعراض المسلمين، وإنما خير الزاد تقوى الله -تبارك وتعالى، فمن استطاع أن يتزود منه ويكثر، فعليه أن يبادر ما دام ذلك في وقت الإمكان.

والزاد في الحج للاستغناء عن الناس مطلوب، من أجل أن يتفرغ الإنسان للعبادة والذكر والطاعة.

والمقصود -أيها الأحبة- أن هذه الأجسام لها زاد من الطعام والشراب، لكن الأرواح لها زاد آخر من الطاعات والإيمان، وتقوى الله -تبارك وتعالى، فإن الكثيرين يعتنون بزاد الأجسام، ويتقلبون بألوان اللذات من المطعوم والمشروب، ولكن ذلك لا يحقق لهم الطمأنينة والراحة والسكون، وإنما تبقى أرواحهم جائعة، وتبقى صدورهم في حال من الوحشة والضيق، والسبب هو أنهم اعتنوا بنوع من الزاد للأجسام، وتركوا الأرواح جائعة مقفرة من غير زاد، فإذا أقفرت الأرواح حصل بسبب ذلك من الضيق والوحشة ما لا يقادر قدره.

وأيضًا توجيه الخطاب هنا لأولي الألباب وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ مع أن التقوى مطالب بها الجميع، لكن خص أصحاب العقول الراجحة؛ لأنهم الذين يعرفون قدر ذلك وأثره، وهم الذين يمتثلون ويستجيبون، وينظرون إلى الغاية البعيدة، والمستقبل الحقيقي في الآخرة، فلا يتعجلون اللذات في هذه الدنيا، على حساب آخرتهم، فإن من النقص في عقل الإنسان أن يأخذ العاجل، ويترك الآجل، بدعوى أن الآخرة غيب، وهذا شهادة، والآخرة نسيئة، وهذا نقد، فيأخذ ما وقع في يده من حلال أو حرام، ويفعل ما يحلو له، ثم بعد ذلك يقدم على الله -تبارك وتعالى- من غير زاد، فأصحاب العقول الراجحة يعلمون أن هذه الدنيا زائلة، وأن الآخرة باقية، فيعملون ويجدون ويجتهدون، من أجل تحصيل الجنة، ومرضاة الله -تبارك وتعالى.

أسأل الله  أن يجعلنا وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين من أهلها.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 383).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس برقم: (1043).

مواد ذات صلة