الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما أمر الله -تبارك وتعالى- الناس إذا أفاضوا من عرفة أن يذكروه هناك، عند المشعر الحرام، على هداهم، أرشدهم بعد ذلك إلى الإكثار من ذكره، مع توجيههم فيما ينبغي عند السؤال والدعاء والطلب، فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:200-202].
فقوله: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فالقضاء هنا بمعنى الإتمام والفراغ من الشيء، فإن القضاء يأتي لمعانٍ متعددة منها الفراغ من العبادة، كما في هذا الموضع، والمعنى: إذا فرغتم من أعمال الحج، فأكثروا من ذكر الله، والثناء عليه كذكركم مفاخر الآباء، بل أعظم من ذلك.
ثم ذكر أحوال الناس في سؤالهم ورغبتهم وطلبهم من الله -تبارك وتعالى، فذكر الصنف الأول: الذين لا همة لهم إلا هذه الدنيا، وما فيها من الحطام الفاني، فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [سورة البقرة:200] يدعو بأمور تحصل له في هذه الحياة، من صحة ومال وولد، ونحو ذلك، وليس له في الآخرة حظ ولا نصيب عند الله -تبارك وتعالى؛ لأنه لا يطلبها، ولا يعمل من أجلها، ولا يرجوها، وإنما قد قصر همته على هذه الدنيا، وما فيها.
وذكر الصنف الآخر: فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [سورة البقرة:201] يعني: عافيةً، ورزقًا، وعلمًا نافعًا، وعملاً صالحًا، وولدًا، فيسألون ربهم -تبارك وتعالى- من الخيرات الدينية والدنيوية، ويسألون الحسنة في الآخرة، فالحسنة في الدنيا تشمل الرزق والولد والعمل النافع، وما إلى ذلك، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وهي الجنة، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] أي: اصرف عنا عذب النار، وهذا الدعاء هو من أجمع الدعاء، كما هو معلوم؛ ولهذا كان أكثر دعاء النبي ﷺ كما في الصحيحين[1].
أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [سورة البقرة:202] أي: أولئك الداعون بهذا الدعاء لهم ثواب عظيم، بسبب ما كسبوه من الأعمال الصالحة أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا هذه الآية التي يعملونها، والرغبة إلى الله -تبارك وتعالى- والجد والاجتهاد وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:202] فهو يحصي أعمال العباد، ويجازيهم عليها، من حاجة إلى عد وحسب وأعوان، أو إلى زمان طويل لكثرة الخلق، وكثرة أعمالهم.
ويُؤخذ من هذه الآيات من الهدايات فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ يعني بعد التحلل من النسك فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ كيف يكون ذكر الآباء؟ جاء عن عطاء -رحمه الله- يقول: هذا كقول الصبي: أبه، أمه[2]، يعني حينما يلهج الصغير الطفل باسم أبيه، واسم أمه، فهو يردد ذلك على لسانه، من غير أن يكل، أو يمل، يعني كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه، فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك.
وكذلك أيضًا ما قاله جمع من أهل العلم من أن المراد فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أي: كما تذكرونهم في الموسم في منى بعد انصرافكم من عرفة ومزدلفة، تتفاخرون بالآباء، وتذكرون مآثر الأجداد، فينبغي أن يكون ذكر الله -تبارك وتعالى- أعظم من ذلك، فهذه مواطن لا ينبغي أن يُشتغل فيها بذكر أحد من الناس، سوى الله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه.
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ فهذا وغيره يدل على أن الذكر هو لب الحج، فإن الحج وأعمال الحج، كما جاء عن النبي ﷺ في الطواف والسعي ورمي الجمار، ونحو ذلك إنما شرعت لإقامة ذكر الله -تبارك وتعالى، وكما في قوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:203] وفي قوله: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [سورة الحج:28] قيل: هي العشر من ذي الحجة، والمعدودات هي أيام التشريق، وقد سئل النبي ﷺ: أي الحج أفضل؟ قال: العج والثج[3] والعج: هو رفع الصوت بالتلبية، والثج: هو نحر البدن، وذبح الهدي، فهذا أفضل الحج، كما صح عن النبي ﷺ.
ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: الأمر بالذكر عند انقضاء النسك فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فكما ذكرنا في شرح الأذكار أن العبادات تنقضي، والحج له منتهى، وأعماله محدودة، ولكن الذكر لا ينقضي، فالذكر على الدوام، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ فالفاء تدل على التعقيب والمباشرة، فلا توقف ولا انقطاع ولا غفلة، وإنما هو ذكر دائم مستمر؛ ولهذا لم يرد في شيء من العبادات الأمر بشيء منها مقترنًا بالكثرة إلا الذكر فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [سورة الأحزاب:41، 42]، وقال: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [سورة الأحزاب:35] وهكذا في نصوص معروفة كثيرة، ذكرنا طرفًا منها في الكلام على شرح الأذكار.
ويُؤخذ من هذه الآية: كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ هم يذكرون الآباء وإن علوا، يعني من الأجداد، فكل هؤلاء يقال له: أب، فالجد يقال له: أب، فذكرت هذه الآية الآباء مع أن ذلك يصدق على الآباء وإن علوا يعني الأجداد، فالجد والد، بل يقال للعم أب أيضًا.
ويُؤخذ من هذه الآية فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا أن الناس ليسوا في الطاعة سواء، فمن الناس من ليس له هم إلا الدنيا، فهو يعمل من أجلها، حتى لو قام بشيء من العبادات، فهو يطلب عائدتها الدنيوية، كما ذكرنا من قبل، فهو إن صام ليصح، وإن زكى من أجل أن ينمو ماله، وإن كان في صلة رحم فذلك من أجل أن ينسأ له في أثره، وهكذا في سائر أعماله، فهذا الذي ليس له هم إلا الدنيا لا يفرق بين هوىً يرديه، وصالح يقيمه، كما يقول الأستاذ محمد أبو زهرة -رحمه الله[4].
ولما أمر بالذكر قال: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [سورة البقرة:200] فقرن الذكر بالدعاء، كأنه يشير إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا [سورة البقرة:200] فذكر سؤال وطلبًا، فهذا الداعي الذي يسأل ويطلب لا شك أنه ذاكر، وقد ذكرنا في الكلام على الأذكار أن الذكر يشمل الأنواع الثلاثة: الذكر الذي هو اللهج باللسان بالتكبير والتهليل والتحميد والثناء والتمجيد، ونحو ذلك، وكذلك أيضًا السؤال والدعاء والطلب، رب اغفر لي، وارحمني، ونحو ذلك، فهذا من الذكر، وكذلك أيضًا الذكر بالجوارح، فتشتغل الجوارح بطاعة الله ، فهنا قرن بين الذكر والدعاء، فالداعي حينما يطلب حاجة فإنه يستحضر ذلك بقلبه ويقصده؛ ولذلك هنا ابتدأ بالذكر فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ والذكر هو مقدمة للسؤال والدعاء، وكما ذكرنا في الكلام على الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] فهذا حمد، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:3] هذا ثناء؛ لأنه ثنى ذلك، فذكره ثانية، فهذا إعادة الحمد ثانيًا يقال له: الثناء، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:3-4] هذا التمجيد، والتمجيد يعني الكثرة بأوصاف الكمال ونحو ذلك، فهنا الذكر مقدمة للسؤال والدعاء، وكل ذلك يقال له: ذكر.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ [سورة البقرة:201] هنا ذكر الصنف الثاني، يعني الصنف الأول: وهم المفاليس في الآخرة، وهم من يقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [سورة البقرة:200] يعني ليس له نصيب عند الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه لا يطلبها، ولا يعمل من أجلها، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] فمثل هذا هو الكمال؛ لأن العبد لا غنى له عن ربه بحال من الأحوال، فهو بحاجة إلى أن يسأله مطالبه الدينية والدنيوية والأخروية، فموسى سأل أجل الأشياء فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:143] وسأل أقل الأشياء، فقال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [سورة القصص:24] يعني كان بحاجة إلى طعام، ونحو ذلك، ومأوى، فعرَّض بالسؤال بعد أن سقى للمرأتين، كما قص الله -تبارك وتعالى- خبره في ذلك، فنحن نسأل أجل الأشياء، وهي خيرات الآخرة، وأقل الأشياء من أمور الدنيا، فنقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
يقول ثابت البناني -رحمه الله: أنه قال لأنس -رضي الله عنه: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم، فقال: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، فأعاد عليه ثابت، يعني يريد سؤالاً فيه تفصيل، فقال: تريدون أن أشقق لكم الأمور، إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار، فقد آتاكم الخير كله[5].
ولهذا أنكر من أنكر من الصحابة والسلف على من كان يتكلف في الدعاء، يقول مثلاً: اللهم ارزقني القصر الأبيض عن يمين الجنة، يقول: يا بني سل الله الجنة، واستعذ به من النار، فإذا دخل الإنسان الجنة فعند ذلك يجد فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهذا التكلف الذي أولع به كثير من الأئمة في قنوتهم في صلاة التراويح، ونحو ذلك، فمثل هذا لا يشرع، وإنما يُدعا بالجوامع من الكلم، مما جاء في كتاب الله، أو سنة رسول الله ﷺ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً [سورة البقرة:201] هذا يدل على أن الإسلام لا يُعطل الدنيا، ولا يطلب من أتباعه أن يشتغلوا بالآخرة مع تعطيل الدنيا، ولكن يستعينون بالدنيا في سفرهم وسيرهم إلى الله -تبارك وتعالى، فلا بد لهم منها؛ لأنها موضع المعاش، فهي مرحلة إلى الآخرة، ويبالغ من يبالغ في الجانب الآخر، فيرون أن الاشتغال في عمارة الدنيا، وعمارة الأرض أنه هو المطلب، وأنه هو الذي ينبغي أن توجه إليه الهمم، وهذا غلط، فالله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56].
فيأخذ الإنسان من هذه الحياة الدنيا ما يبلغهم، وما يكون به قوتهم، وما يحصل به استغناؤهم عن أعدائهم، وما تتحقق به مصالحهم، فيكون هؤلاء قد عمروا الدنيا، لكن على منهاج الله -تبارك وتعالى- وفق شريعته، عمارة لا تشغلهم عن الآخرة، ولا تنسيهم هذا السفر والسير إلى الله -تبارك وتعالى، فإن الناس يصيرون إليه ولا بد، وإنما هو خروج هذه النفس من الجسد، فإذا خرجت فعند ذلك يعاين الإنسان حقائق لم يكن يشاهدها، ولكنها وصفت له، وأخبر عنها، وتزول عنه حُجب كثيرة من أمور الغيب، فلا يبقى الإنسان محصورًا بين أسوار هذه الحياة الدنيا الضيقة المادية، وإنما ينظر إلى ما وراء هذه الحياة، من الحياة الأبدية السرمدية، حيث النعيم المقيم، والجنات والأنهار والقصور والحور والعين والسعادة التي لا يخالطها شقاء، ولا مرض ولا علل، ولا أوصاب، ولا هم ولا تعب، وإنما هي راحة مستديمة، أو الشقاء، نسأل الله العافية في تلك الدار، دار البوار، حيث لا راحة معها أبدًا.
كل ذلك نتائج المزاولات والأعمال والعقائد في هذه الحياة الدنيا، والعاقل من لم يشتغل بها عن الآخرة، ولكنه يعمل ويجد ويجتهد، ولكن يكون همه وسعيه الأبلغ هو طلب ما عند الله -تبارك وتعالى، فهؤلاء الذين يقولون: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:201، 202] فهؤلاء هم الذين يعطون الجزاء الأوفى، وهؤلاء هم الذين يجدون نتائج الأعمال الصالحة من الجنات، والنعيم المقيم.
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ هذا فيه إثبات صفة السرعة لله ، وقد قيل لعلي : كيف يحاسب الله الناس على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم[6]، لو أن أحدًا يعطي خلقًا كثيرًا أرزاقًا أو أموالاً أو طعامًا فيحتاج إلى وقت، وربما يأتي اليوم الثاني وما أعطى كثيرًا منهم، وما وصل إليهم، ولكن الله -تبارك وتعالى- يرزق الناس كنفس واحدة، وهكذا يحاسبهم على أعمالهم كنفس واحدة، فهذه الآية تقرر هذه المفاهيم، والأصول الكبار، والمطالب العالية، فالعبد يستحي أن يشتغل في دعائه بطلب الدنيا دون ذكر الآخرة، يقول: يا رب ارزقني، يا رب أعطني في الدنيا، يا رب يسر لي كذا من المطالب الدنيوية، ولا يسأل شيئًا من المطالب الأخروية، هذا لا يليق بحال من الأحوال، فكيف لو أنه سخر عمله الصالح من أجل مطالب دنيوية، فهو يقرأ القرآن من أجل بركته، وهو يتصدق من أجل أن يدفع عن نفسه البلاء مثلاً، أو نحو ذلك، فهذا يكون على سبيل التبع لا إشكال، لكن أن يكون بالقصد الأول ولا يريد إلا هذا، فهذا غلط، لا يصح أن تستغل العبادات، وتعمل الطاعات من أجل مطالب دنيوية فقط، فإذا كان هذا لا يليق في باب الدعاء أن تفرد الدنيا فقط، ولا تُسأل الآخرة، فكيف بالعمل والطاعة التي شرَّعها الله ليتقرب إليه بها من أجل أمور عاجلة متقضية.
فهذه الأذكار، والأعمال، وقراءة القرآن والصدقة يقصد بها التقرب إلى الله، هذا القصد الأول، وهناك أمور تحصل على سبيل التبع لا إشكال في ذلك، كما ذكرنا من قبل، كما قال الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:198] يعني بالتجارة في موسم الحج، وذكرت أنواع التشريك في القصد والنية، وأنها على خمس مراتب، فهذا يختلف، لكن لا يُفرد ذلك، فتكون أعمال الإنسان فقط للدنيا، فهذا كما قال الله -عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود: 15، 16] فكل هذا قد مضى الكلام عليه.
فمن يصوم ليصح، ويتصدق ليدفع بلاء، ويخرج الزكاة من أجل أن ينمو ماله، ويصل الرحم فقط لينسأ له في أثره، والصلاة من أجل مفاصله، أو أن هناك في السجود شحنات، كما يزعمون، فهذا لا يريد شيء آخر إلا الدنيا، طبعًا قولهم: إن هناك شحنات تُفرَغ إذا سجد ونحو ذلك، هذا الكلام لا صحة له، نحن نسجد نُعبِّد أنفسنا لله ، ونتذلل ونخضع له بوضع أعلى شيء، وأجل شيء وهو الوجه، وأشرف شيء على الأرض، ونقول: سبحان ربي الأعلى، وليس لتفريغ شحنات، ويستطيع الإنسان أن يفرغ شحنات بأن يتكئ على أي شيء لو كان هذا الكلام صحيح، لكن هذه كلها مما يتقوله متقولون، ويأتون به من وثنيات شرقية، ونحو ذلك ويصدقها من يصدقها، وإلا فيستطيع الإنسان أنه يضع رأسه على جدار، أو نحو ذلك، وتخرج الشحنات إلى الجدار، لا يحتاج إلى هيئة السجود.
وغاز الأوزون ما عليه إلا أن يفتح النافذة، وهو لا يصلي عفيف الجبهة، ويدخل غاز الأوزون عنده، ويتنفس وهو في فراشه، ما المانع؟ لازم يخرج إلى المسجد؟! يمكن يخرج للرياضة في الحي، ويجول ويدور في ميدان، أو غير ذلك، لكن القضية أنه يخرج بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة[7]، هذا يخرج تقربًا إلى الله ، فلا نرغب الناس بهذه الطريقة، ونحول العبادات إلى مطالب جسدية هذا غلط، فالمطالب الجسدية ننوي بها طاعات، فنحن نأكل من أجل نتقوى على الطاعة، وكما جاء في الحديث: وفي بضع أحدكم صدقة[8]، ويأتي الإنسان شهوته من أجل أن يعف نفسه، ويطلب الولد، كما قال الله : وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فالجماع ليس مجرد لذة، وإنما وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187] وهو الولد على قول كثير من أهل العلم، فيكون له نية في هذا الجماع.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب قول النبي ﷺ: ربنا آتنا في الدنيا حسنة برقم: (6389) ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا، برقم: (2690).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (4/ 198).
- سنن الترمذي في أبواب الحج باب ما جاء في فضل التلبية والنحر (827) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1101).
- زهرة التفاسير (2/ 627).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/ 614).
- تفسير ابن جزي = التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 116).
- أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة برقم: (223) وأبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في المشي إلى الصلاة في الظلام برقم: (561) وابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات، باب المشي إلى الصلاة برقم: (781) وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف برقم: (1006).