الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ذكر الله -تبارك وتعالى- صنفين من الناس في حال السؤال والدعاء، فهناك من يدعو ويسأل ويطلب الدنيا دون أن يسأل الآخرة، والصنف الثاني: هم الذين أثنى الله عليهم، وهم من يقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] ثم ذكر صنفين آخرين من جهة الحال والعمل، الأول: وهو المنافق الذي يقول قولاً لا حقيقة له، ويصف نفسه بأوصاف لا يشهد لها عمله وواقعه، فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [سورة البقرة:204].
فهذا الصنف من الناس يعجبك قوله، وفصاحة كلامه، وحسن منطقه، وما يشتمل عليه كلامه من المعاني الحسنة، ولكن له واقع سيئ على خلاف ما يصف به نفسه، فهو لا يكتفي بهذه الدعاوى العريضة من محبته للإيمان، ولأهل الإيمان، وللرسول ﷺ، ومن سعيه في الإصلاح، وما إلى ذلك، بل يحلف أيضًا مستشهدًا بالله -تبارك وتعالى- على ما في قلبه وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ فهو يُؤكد هذا الكلام والدعاوى بإشهاد الله على ما في قلبه أنه كذلك.
وهذا لا شك أنه جرأة على الله -تبارك وتعالى- فهو في واقعه كما وصف الله وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ أي: شديد اللدد، وكثير الخصومة، والذين كانوا يكثرون من الشهادة والأيمان إنما هم أهل النفاق، إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [سورة المنافقون:1] فذكروا هذه المؤكدات: الشهادة و(إن) فهي مؤكدة بمنزلة إعادة الجملة مرتين، واللام الداخلة على جواب القسم إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [سورة المنافقون:1] فهؤلاء إذا دخلوا على النبي ﷺ قالوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وما كان أصحابه من الصادقين يرددون مثل هذه الشهادة.
وقال الله -تبارك وتعالى- أيضًا عن صفة المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ فكلامهم حسن كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [سورة المنافقون:4] فهم أشباح بلا أرواح، وجسوم بلا فهوم، يحضرون مجلس رسول الله ﷺ دون أن يفقهوا ما قال، فإذا خرجوا من عنده والوحي ينزل قالوا: مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16] ويتساءلون: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [سورة التوبة:124] على سبيل السخرية، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [سورة البقرة:14].
فيُؤخذ من قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أنّ أخذ الناس في مقام الحكم والقضاء والفصل بين الخصوم لا يقبل فيه مجرد الدعاوى، فإن الإنسان قد يكون صاحب حجة وخصومة، ولسن، ولكنه مُبطل، ومن الخطأ في باب الخصومات أن يسمع الإنسان من طرف واحد، سواء كانت خصومة بين الزوجين، أو بين الأخوين، أو بين الجيران، أو المتبايعين، أو بين المدير ومن تحت يده، وبين الناس في أي أمر كان، فقد تسمع من الزوجة كلامًا فتقول: ما أحلمها! وما أصبرها! وما أعظم مصيبتها بهذا الزوج! وربما قلت: هل يوجد أحد من البشر يتعامل ويفكر ويعمل بهذه الأخلاق والأعمال التي لا تتصور من مؤمن بالله، واليوم الآخر؟! لكن إذا سمعت من الزوج وجدت كلامًا آخر على النقيض، فتقول: ما أحلمه! وما أصبره! وما أجمل فعله تجاه هذه الزوجة التي هي جحيم لا يطاق! فيصدر منها كل إساءة، وهو في غاية الاحتمال والإحسان، فكثير من الناس يدخل في إصلاح، أو حكم، أو نحو ذلك، فيسمع من طرف، لكنه لو سمع من الطرف الآخر لهاله الأمر، وهذا كثير، والنبي ﷺ قال: لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم[1]، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام، البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه[2] فالدعوى لا يعجز عنها أحد، فهؤلاء الذين وصفهم الله وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [سورة المنافقون:4] وقال: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا يكتفي بهذا، بل يُشهد ربه -تبارك وتعالى- على ما في قلبه.
ويُؤخذ من هذه الآية من الهدايات: أن العبرة ليس بمجرد ما يقوله الإنسان، ولكن العبرة بما هو عليه من العمل، والامتثال والتطبيق، فهذا القول لا بد أن يصدقه عمل، وإلا فقد يتكلم الإنسان بعبارات جميلة، تستهوي أهل المجلس، فيعجبون، ويقولون: ما أعقله! ما أكمله! ما أفصحه!، ولكن حينما تنظر إلى الصورة المقابلة من الناحية العملية تجد التضييع والتفريط والإهمال والظلم، ومصادرة الحقوق، وأكل أموال الناس بالباطل، فلا الأجير يُعطى الأجر، ولا الزوجة تعطى الحق، ولا صاحب حق يصل إلى حقه ومطلوبه وبغيته منه، لكن الكلام جميل، يمكن أن يتحدث عن الحقوق، والإنصاف والعدل والظلم والتربية، وعن كثير من المفاهيم، ولكن الناحية العملية الواقعية بمنأى عن هذا تمامًا، إذًا لا نغتر بمجرد القول، بل لا بد من نظر آخر، وهو العمل، وهذا يحتاج الناس إليه في أمور كثيرة، منها: النكاح، فقد يتقدم لموليته من يتحدث بحديث جميل يستميل القلوب، فهل هذا يكفي في الحكم عليه بأنه صالح تام العقل وراشد؟ هذا لا يكفي، وكذلك فيمن يمكن أن توكل إليه المهام، فليست العبرة بكلامه، وهكذا أيضًا فيمن يشتكي ويتظلم، فإنك بحاجة إلى أن تسمع من الطرف الآخر، فينبغي أن يقال لمثل هذا: هذه خصومة لا نتكلم فيها، أحضر الطرف الآخر ويتكلم وتتكلم، وكل واحد يسمع صاحبه، ثم بعد ذلك نستطيع أن نستبين، وقد نعرف بهذا المحِق من المبطِل، أما أن يتكلم هكذا بعيدًا عن الطرف الآخر، فهذا غير صحيح، وقد يبكي ويستدر العواطف، ونحو ذلك.
ففي قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هذا الخطاب في ظاهره موجه للنبي ﷺ، فإذا كان ذلك قد يقع له فغيره من باب أولى، وقد ذكر النبي ﷺ أنه يحكم بحسب ما يسمع، وأن البعض قد يكون ألحن بحجته من البعض الآخر، لكنه بيّن أنها قطعة من نار؛ لأن الحكم بين الناس هو بناءً على الدعاوى والبينات والأيمان، ونحو ذلك، ولم نؤمر بأن نشق عن قلوب الناس.
وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ هذا جُرأة على الله ، من الأخطاء التي نقع فيها كثيرًا وينبغي التفطن لهذا أن الإنسان أحيانًا يريد أن يؤكد قوله وكلامه فيقول: علم الله أني كذا وكذا، يعلم الله أني كنتُ أريد أن أخاطبك بكذا، أو أن أحدثك، أو أن أخبرك بكذا، وليس بصحيح، فيكون قد أضاف إلى علم الله -تبارك وتعالى- ما ليس فيه؛ لأن ذلك لم يكن، فالله يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فالإنسان في مقام الاعتذار يضطر إلى التوسع في الكلام، فيكذب، فيقول: علم الله أني ما قصدتُ، أو علم الله أني كنتُ أريد الاتصال عليك، أو علم الله أني كنتُ أريد المجيء، ولكن حال دون ذلك حائل، وهو يعلم أن ذلك لم يكن في إرادته، فلم يكن يريد الاتصال، ولم يكن يريد المجيء، لكن أراد الاعتذار، فأضاف ذلك إلى علم الله، فيكون قد كذب على الله؛ لأن ذلك لم يكن في قلبه أصلاً، إذًا ذلك لم يعلمه الله منه، أنه كان يريد المجيء أو يريد الاتصال، أو يريد القيام بهذا العمل، ونحو ذلك؛ ولهذا مهما استطاع الإنسان أن يحسن العمل، وأن يأتي بالأمور والحقوق على وجهها دون أن يحتاج إلى اعتذار، فهذا هو المطلوب، لكن إذا قصَّر يعتذر، وإذا أخطأ يعتذر، ولكن في الغالب أن الإنسان إذا احتاج إلى الاعتذار أنه يحتاج إلى شيء من التوسع، فقد يوقعه ذلك بشيء من الكذب، لكن أخطر من هذا أن يضيف ذلك إلى علم الله في أمر لا حقيقة له، هو يعلم من نفسه أنه ليس كذلك، فيكذب على الله، هذا أمر خطير، ويتساهل فيه كثير من الناس.
وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ هذا فيه إثبات علم الله بما في الصدور؛ لأن ما في القلب لا يعلمه إلا الله، والنبي ﷺ أخبر أنه لم يؤمر أن يشق عن قلوب الناس.
وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [سورة البقرة:204] يُؤخذ منه ذم الخصومة، واللدد فيها، فقد وصف الله -تبارك وتعالى- مثل هذا بهذه الصفة، ووصف بها المشركين من قريش بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [سورة الزخرف:58] أي: أنهم كثير الخصومة، فهذه الخصومات في الغالب لا تؤدي إلى خير، ولا إلى مطلوب صحيح، وإنما يحضر معها الشيطان، ويريد كل إنسان أن ينتصر لنفسه.
ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية إضافة إلى هذا المعنى: ما جاء عن النبي ﷺ أنه قال: إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم[3]، فقوله: إن أبغض الرجال يدل على أن الله يبغض هذه الصفة؛ ولهذا وصف بها أهل النفاق، فقال: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ أي: أنه شديد الخصومة، في كل شيء، لا يفوِّت شيئًا، وإذا قصر أحد في شيء من حقه، فإنه لا يفلته، فالسماحة هي المحمودة في جميع الأمور.
ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية الكريمة: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ أن هؤلاء لما كان مطلوبهم هو الدنيا فقط لا يفكرون في الآخرة، فهم يريدون أن يُسوّقوا مطالبهم في الدنيا بالحلف بإشهاد الله على ما في نفوسهم، ولو ضيعوا آخرتهم، وهذا الإنسان المهزوز الذي يشعر أن أصابع الاتهام تتوجه إليه فيما يقول ويدعي يحتاج إلى حلف كثير؛ ولهذا قال الله عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [سورة المنافقون:2] أي: ترس ووقاية، فإذا وجهت إليهم التهمة: قلتم كذا، وفعلتم كذا، حلفوا؛ ولذلك قال الله في أوصاف المنافقين: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ، سَيَحْلِفُونَ وهكذا، فالأيمان تسبق الكلام؛ وذلك يدل على أنهم لا يقيمون لله وللأيمان شأنًا، ولا يعظمون الله حق التعظيم؛ ولهذا جاء عن إبراهيم النخعي -رحمه الله- من التابعين: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد[4]، بحيث لا يستسهل فيجري الحلف على لسانه، وبين جملة وأخرى يحلف، فهذا لا يليق؛ لأن ذلك استخفاف بمقام الله -تبارك وتعالى، وأما من عظّم الله فإن أيمانه تكون معدودة ومحدودة؛ ولذلك انظر إلى النبي ﷺ كم مرة حلف؟ في مرات قليلة، وعلى أمور مهمة، وهناك رسالة في المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد في عمره، وهي مسائل قليلة، لكن الإنسان الذي لا يبالي ولا يعظم الله حق التعظيم يحلف في كل جملة يقولها، وقد جاء في كتاب التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله: باب ما جاء في كثرة الحلف، ولماذا وضعه في كتاب التوحيد؟ لأنه خلاف تعظيم الله -عز وجل، الذي يعظم الله لا يجرؤ على إرسال لسانه بالحلف في كل أمر يستحق، أو لا يستحق.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ [سورة آل عمران:77]: لا خير برقم: (4552) ومسلم في الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه برقم: (1711).
- أخرجه الترمذي في أبواب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه برقم: (1341) وصححه الألباني.
- أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب قول الله تعالى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [سورة البقرة:204] برقم: (2457) ومسلم في العلم، باب في الألد الخصم برقم: (2668).
- فتح الباري لابن حجر (5/ 261).