الأربعاء 22 / شوّال / 1445 - 01 / مايو 2024
[167] من قوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ..} إلى قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ..} الآيات:209-211
تاريخ النشر: ٢٨ / ربيع الآخر / ١٤٣٧
التحميل: 1433
مرات الإستماع: 1398

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما أمر الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان بالدخول في دين الإسلام كافة بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان بقوله: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [سورة البقرة:208] قال بعد ذلك: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:209] أي: إن انحرفتم وخرجتم عن طريق الحق من بعد ما جاءتكم الحجج الواضحات، فاعلموا أن الله عزيز لا يُغالب، ولا يفوته شيء، قادر على أخذكم ومعاقبتكم، وهو حكيم في أمره ونهيه، وحكيم في جزائه، يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها.

فيُؤخذ من هذه الآية فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ أن من زلَّ وانحرف بعد أن تبيَّن له الحق، فهو متوعد بالعقوبة، وهنا لم يذكر عقوبة خاصة، فلم يقل: فإن زللتم من بعدما جاءتكم البينات عذبناكم في الدنيا أو في الآخرة، وإنما قال: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فكان ذكر هذين الاسمين الكريمين يدل على المؤاخذة والمعاقبة والجزاء، فإن العزيز هو الذي لا يُغالب، فهو قادر على أخذ هذا المسيء الذي قد أعرض عن الحق وتركه بعد وضوحه، وظهور دلائله، فلم يكن ذلك عن جهل وخفاء للحق.

فيُؤخذ من ذلك أن من ينحرف من أهل العلم فإنه يكون أعظم جرمًا من غيره؛ ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63] فسمَّى تركهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صنعًا، والصنع أخص وأدق من مطلق الفعل، لكن في قوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة المائدة:78] فلعن الذين كفروا من بني إسرائيل من اليهود والنصارى، على لسان أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام، وكبار الأنبياء، والسبب كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون [سورة المائدة:79] فسمَّى ذلك فعلاً، وفي ترك الأحبار والرهبان سماه صنعًا.

وفي قوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:209] الصيغة صيغة خبر، لكنه ليس مجرد خبر، بل في طياته الوعيد، كقول من يتوعد غيره: إن خالفتني أو عصيتني فأنت تعرفني، فذلك وعيد أكيد، وكذلك في الآية دليل على أن الأسماء الحسنى التي تذكر في خواتيم الآيات لها مناسبة بمضمون وموضوع الآية، كما ذكرنا ذلك سابقًا، وهذا نوع من أنواع المناسبة، فإن المناسبات أنواع، وجه التعلق والارتباط بين الآية والتي بعدها والتي قبلها، وكذلك أيضًا بين الآية وخاتمتها، وبين فاتحة السورة وخاتمتها، وبين المقاطع، وبين الجمل: الجملة والجملة، فهذا كله من المناسبات.

وهنا لم يقل: فاعلموا أن الله غفور رحيم مثلاً، وقد ذكر بعضهم أن أعرابيًا سمع قارئًا يقرأ: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله غفور رحيم) فأنكر ذلك عليه، ولم يكن هذا الأعرابي قارئًا، ولكن قال: الحكيم لا يقول كذا، يعني لا يذكر الغفران عند الزلل؛ لأنه إغراء به، يعني كأنه يقول: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله غفور رحيم) إذًا لا حرج عليكم، ولا بأس، ولا غضاضة، فحينما يقع منكم الانحراف، فهذا لا يحفظ، ولكنه فهم ذلك بفطرته، فلما أعادها القارئ أعادها على الوجه الصحيح: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وذكر هذا في قراءة قوله -تبارك وتعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ [سورة المائدة:38] فقرأها قارئٌ: (والله غفور رحيم) فأنكر عليه ذلك؛ لأن ذلك إغراء بالمعصية، والآية كما هو معلوم عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة المائدة:38].

ثم قال الله -تبارك وتعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [سورة البقرة:210] أي: ماذا ينتظر هؤلاء المتباطئون المتأخرون عن قبول دعوة الحق بعد ظهورها، وقيام براهينها، وأدلتها، إلا أن يأتيهم الله -تبارك وتعالى- الإتيان والمجي اللائق بجلاله وعظمته، في ظلل من الغمام، والغمام هو السحاب الأبيض الرقيق؛ ليفصل بينهم بالقضاء العادل؛ وذلك في يوم القيامة وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً [سورة الفرقان:25] فيأتي -تبارك وتعالى- لفصل القضاء، وتأتي ملائكة الرحمن، ويكون الحكم بين العباد والمحاسبة والجزاء، ففريق إلى الجنة، وفريق إلى النار.

ويُؤخذ من هذه الآية هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ إثبات صفة الإتيان لله على ما يليق بجلاله وعظمته، من غير كيف.

وفي قوله: هَلْ يَنظُرُونَ (هل) هذه للاستفهام الإنكاري، وهي بمعنى النفي، يعني ما ينظرون هَلْ يَنظُرُونَ هذا استفهام، فلو قلت لقائل مثلاً: هل تنتظر إلا عقوبة من الله تنزل، يعني ما تنتظر إلا عقوبة من الله، ماذا تنتظر؟ فهو بمعنى النفي؛ ولذلك دخلت (إلا) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا يعني ما ينظرون إلا، كأن النفي والاستثناء للحصر، وهذا معروف في استعمال القرآن، وفي كلام العرب.

وفي قوله: فَإِنْ زَلَلْتُمْ الصيغة للمخاطَب، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝ هَلْ يَنظُرُونَ فلم يقل: هل تنظرون؟ فإذا كان الخطاب موجه لمن كانوا مخاطبين قبله، فيكون ذلك من قبيل الالتفات، فتحول من المخاطَب إلى الغائب، والظاهر أن الخطاب هنا يختلف، وأن هذا يتعلق بالكفار، فجاء به بصيغة الغائب، كأنه تبعيدًا لشأنهم ومرتبتهم، حيث عبَّر عنهم بهذه الصيغة، أما أهل الإيمان فوجه الخطاب إليهم مباشرة، وهذا فيه تسلية للنبي ﷺ، وتجديد الخطاب، وتلوينه فيه تنشيط للسامع، وهذا بناءً على أن الخطاب في الذي قبله لأهل الإيمان، وهذا أيضًا لأهل الإيمان، لكن الذي يظهر أن الذي قبله لأهل الإيمان، وهذا هَلْ يَنظُرُونَ للكفار، وبهذا لا يكون فيه التفات.

ثم قال: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة البقرة:211] فحينما ذكر حال هؤلاء من المتأخرين عن قبول الحق: أنهم ماذا ينتظرون إلا مجيء الرب -تبارك وتعالى- لفصل القضاء، وعند ذلك يندمون؟! قال بعد ذلك: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فذكر ضربًا من هؤلاء المنحرفين المبدلين الكافرين، وهم بنو إسرائيل، فهؤلاء ذكرهم تسلية للنبي ﷺ، ومن أجل أن يعتبر بهم المخاطَب، أو السامع، سل -أيها الرسول- بني إسرائيل المعاندين المكذبين لك كم أعطيناهم من آية واضحة في كتبهم، تهديهم إلى الحق، فكفروا، وأعرضوا، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فكانوا مبدلين نعمة الله -تبارك وتعالى- بالوحي، وبيان الحق بالكفر والتحريف والإعراض بعد قيام الحجة، ومثل هؤلاء فإن الله -تبارك وتعالى- قد توعدهم بأشد العقوبة، فقال: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

ويُؤخذ من هذه الآية من الهدايات: أنه يعظم ويقبُح ممن جاءته البينات والأدلة الواضحات، والعلم الصحيح أن يقع منه النكوص والتبديل والتحريف والإعراض، وأن من أنعم الله -تبارك وتعالى- عليه بنعمة دينية أو دنيوية، فإن الواجب عليه أن يشكر هذه النعمة، لا أن يقابل ذلك بالكفران، فإن ذلك حري بأن ترحل عنه هذه النعمة، وتزول، ويجازى على ذلك بالعقوبة، فتترحل عنه عافية الله -تبارك وتعالى، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ لاحظ أنه جاء هنا بالحكم عامًا، حيث تحدث عن بني إسرائيل، ثم جاء بحكم عام، يشمل هؤلاء وغيرهم ممن يبدل نعمة الله كفرًا.

والنعمة أيضًا هنا مفرد مضاف إلى معرفة نِعْمَةَ اللَّهِ وهذا يكسبه العموم، يعني نعم الله، ومن يبدل نعم الله من بعد ما جاءته فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فتبديل النعم بعد ما جاءت الإنسان يشمل ذلك النعم الدينية والنعم الدنيوية، فالنعم الدينية أن يعمل بخلاف الحق، أو يبدل الحق، أو يكذب على الله -تبارك وتعالى- فينسب إليه وإلى دينه ما ليس منه، فيكون ممن يحرِّف الكلم عن مواضعه، والنعم الدنيوية يكون الإنسان مبدلاً لها إذا لم يقابل ذلك بشكر الله -تبارك وتعالى- عليها، فبدلاً من الشكر يستعمل هذه النعم في الطغيان، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

وقد يكون هذا بالنكران كما وقع لقوم سبأ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سورة سبأ:19] وفي القراءة الأخرى: (باعَدَ بين أسفارنا)[1] باعَد على سبيل الخبر، فالقرى كانت متجاورة، يخرجون من قرية من اليمن إلى الشام، فتتراءى لهم القرية الأخرى، ولا يحتاجون إلى التزود، وليسوا في حال من الخوف، بل في أمن، ومع ذلك قالوا: رَبَّنَا بَاعِدْ كأنهم قالوا: نريد أن نذوق السفر الحقيقي، والمشقة والتعب، ونقطع الأرض الشاسعة، فهذا كفران للنعمة، وعلى القراءة الأخرى لم يعترفوا بهذه النعمة العظيمة، وإنما جحدوا، وقالوا: الأسفار متباعدة.

فهذا يقع كثير لطوائف من الناس، حيث يجحدون نعمة الله عليهم، فيشتكون دائمًا، ويتذمرون قلة ما بأيديهم من العرض الدنيوي، وهم في خير وعافية من الله ، وربما يشتكي الإنسان المرض والعلة، ونحو ذلك، وهو في عافية من الله -تبارك وتعالى، وربما يشتكي أمورًا تنغص حياته، وهو في بحبوحة من العيش، فهو لا يشكر هذه النعم، وربما يستعملها في غير وجهها الصحيح، كما نسمع ونشاهد في بعض الصور والحالات، ونحو ذلك من تضييع النعم والإسراف والتبذير، ومشاهد تدل على بطر وطغيان، وأفعال تدل على سفه، وقلة حياء من الله، وقلة حياء من الناس، وفي بلاد قريبة يبحثون عن لقمة عيش، وربما البعض يبحث عن ذلك في المزابل، ونجد آخرين يتقلبون في النعم، ولا يشكرون الله -تبارك وتعالى- على ذلك، فمثل هؤلاء قد يعاقبون، وقد تعاقب الأمة بأكملها إذا لم تأخذ على يد هؤلاء السفهاء، فتترحل هذه النعم، ويصير الناس إلى حال يبحثون فيها عن شيء يقيم أصلابهم، ويتذكرون هذه النعم، ويذكرونها لمن بعدهم، فتكون مجرد ذكرى عابرة، كما أن الناس اليوم يتذكرون الفقر والشدة، وشظف العيش الذي عاشه آباؤهم، فهذه النعم -أيها الأحبة- إن لم تذكر وتشكر، فإنها ترحل، والله المستعان.

ونسأل الله أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأن يرزقنا وأياكم شكر نعمته، فهذا وعيد في هذه الآية، جاء على صيغة الخبر أيضًا فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فهذا وعيد لكل من بدل نعمة الله من بعد ما جاءته.

وهنا قال: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ ولم يقل: فإنه شديد العقاب، فأظهر لفظ الجلالة في مقام يصح فيه الإضمار، لتربية المهابة، ولا شك أنه أفخم وأعظم وقعًا في النفوس والقلوب لدى السامعين، فيوجب الخوف منه ومراقبته.

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يخافه ويتقيه، ويرجو ثوابه ورحمته، إنه سميع مجيب.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. هي يعقوب الحضرمي (رَبُّنَا بَاعَدَ) بالنصب، كما في معاني القراءات للأزهري (2/ 293).

مواد ذات صلة