الجمعة 24 / شوّال / 1445 - 03 / مايو 2024
[181] قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ..} إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} الآيات:(224، 225)
تاريخ النشر: ٢٣ / جمادى الأولى / ١٤٣٧
التحميل: 1030
مرات الإستماع: 1403

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:224]، أي: لا تجعلوا الحلف بالله -تبارك وتعالى- مانعًا لكم من البر وصلة الرحم والتقوى والإصلاح بين الناس بأن يُدعى الإنسان إلى شيء من ذلك فيدع فعله محتجًا بأنه قد حلف أن لا يفعل، بل عليه أن يعدل عن ذلك، ويفعل تلك الأعمال الخيرة، ويُكفر عن يمينه، فالله -تبارك وتعالى- سميع لأقوال عباده، عليم بأحوالهم، هذا المعنى الذي عليه عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا، عليه الجمهور من المفسرين.

وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً [سورة البقرة:224]، يعني: مانعًا وحائلاً يحجزكم عن فعل البر والخير والصلة والإصلاح، وما إلى ذلك، فيترك الإنسان صلة الرحم أو يترك الإصلاح بين الناس بحجة أنه قد أقسم أن لا يفعل، والنبي ﷺ قال: لا أحلف على يمين ثم أرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير[1]، فهذا هديه ﷺ.

وبعض أهل العلم ذهب في تفسير هذه الآية: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:224]، بمعنى: الإكثار من الحلف، يُقال: فلان عُرضة للناس، يعني: كثير التعرض لهم، بمعنى أن الإنسان يبتذل اسم الله -تبارك وتعالى- فيحلف على كل شيء؛ ولهذا تجدون في كتاب التوحيد للإمام المُجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله: باب ما جاء في كثرة الحلف، وعلاقة هذا الباب بكتاب التوحيد: أن كثرة الحلف تُنبئ عن قلة تعظيم الله ، يعني: يحلف على كل شيء، يحلف على ما يستحق وما لا يستحق، فهذا خلاف تعظيم الله، ولهذا جاء عن إبراهيم النخعي -رحمه الله- أنهم كانوا يؤدبون الصبيان على الحلف، إذا رأوا الصبي يحلف أدبوه من أجل أن يُعظم الله ويُعظم اسمه فلا يُبتذل اسم الرب -تبارك وتعالى- بأيمان تتكرر على ما يستحق وما لا يستحق.

وبعضهم نظر إليه من وجه آخر، من جهة هذا المعنى الابتذال، وذلك أن من أكثر من الحلف؛ فإنه يقع منه خلاف ذلك، يعني: يكون حانثًا في بعض هذه الأيمان، فيكون بسبب ذلك لم يُعظم اسم الله -تبارك وتعالى- ويحفظ أيمانه، ولهذا فسروه بقوله: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [سورة المائدة: 89]، على هذا المعنى.

وعلى كل حال، الله -تبارك وتعالى- يقول: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [سورة القلم:10]، حلاف على وزن فعال يعني كثير الحلف، وأخبر عن المنافقين أنهم هم الذين كانوا يحلفون دائمًا إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [سورة المنافقون:1]، الشاهدة هنا بمعنى الحلف.

كذلك أيضًا: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ [سورة التوبة:62]، ونحو ذلك مما أخبر الله -تبارك وتعالى- عنهم، كما قال: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المنافقون:2]، فجعلوها كالتُرس؛ فإذا وجهت إليهم تُهمة في فعل فعلوه أو مقالة قالوها حلفوا أنهم ما فعلوا، فدفعوا ذلك عنهم.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:224]: تعظيم اسم الله ، فلا يُبتذل بكثرة الحلف على هذا المعنى الذي قال به كثيرون أيضًا، وهو معنى قريب، ويمكن أن تكون الآية متضمنة لهذا وهذا.

كذلك أيضًا يؤخذ من وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:224]، النهي عن كثرة الحلف.

الأمر الثالث وهو أنه ليس للإنسان أن يحلف على ترك البر والمعروف والخير والصلة، والإحسان، والإصلاح بين الناس؛ فإذا وقع منه شيء من ذلك فليس له أن يدع ذلك الفعل بحجة أنه حلف بل عليه أن يُكفر عن يمينه، وأن يفعل هذه الأمور، فلا يمتنع من طاعة الله بسبب اليمين، وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:224]، أي: حائلاً يحجزكم عن فعل البر والمعروف، فيحلف ألا يُكلم فلانًا، أو ألا يزور فلانة من قرابته ومحارمه، فيقطع الرحم بحجة أنه قد حلف.

كذلك أيضًا الحث على البر والتقوى والإصلاح بين الناس؛ لأنه إذا كان الله -تعالى- قد نهانا أن نجعل اليمين مانعة من فعل ذلك فمن باب أولى ألا يُترك ذلك من غير يمين مع أن اليمين يُطلب حفظها، وهو أحد الوجوه في قوله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [سورة المائدة: 89]، يعني: ألا يحنث الإنسان فيها على أحد الأقوال في التفسير، فإذا كان لم يحلف أصلاً، ويمتنع من فعل الخير والمعروف والبر فهذا من باب أولى يُنهى عن ذلك.

وكذلك أيضًا هذه الأشياء المذكورة المنصوص عليها، أَنْ تَبَرُّوا، البر اسم جامع لكل من يُحبه الله ويرضاه، وكذلك التقوى، وَتَتَّقُوا، لكنه ذكر فردًا من أفراد البر وأعمال التقوى وهي الإصلاح بين الناس، ومعلوم أن ذكر الخاص بعد العام يدل على مزية فيه وأهمية، فدل على أنا الإصلاح بين الناس من أجل الأعمال، ومن أفضلها وقد صح عن رسول الله ﷺ في غير ما حديث أنه من أشرف وأجل وأفضل الأعمال الصالحة.

ثم أيضًا ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، سميع صيغة مُبالغة، كثير السمع، عظيم السمع، عليم صيغة مُبالغة، أي: أنه عظيم العلم واسع العلم، فالله عليم لجميع الأصوات، يسمع قول القائلين، وأيمان الحالفين، وكذلك أيضًا هو عليم بالمقاصد والنيات، وهو عليم بهؤلاء الذين يحلفون أن لا يفعلوا البر والمعروف والتقوى والإصلاح بين الناس، كل ذلك يعلمه، وهذا فيه تحذير مُبطن، وتهديد ووعيد مُغلف، بمعنى أنه ينبغي على الإنسان أن يُراعي في ذلك كله سمع الله وعلمه، فالله محيط به، سامع لما يقول، عليم بدواخله وظواهره ومقاصده وأحواله كلها، فعلى العبد أن يتقي الله في كل أحواله، ولا يدع المعروف بحجة أنه قد حلف، فالمعروف لا يعتذر منه أحد.

ثم قال تعقيبًا على ذلك: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة البقرة:225]، لما ذكر لهم التوجيه الأول، وهو أن الأيمان لا تكون حائلة من فعل المعروف، بين لهم ما الذي يُكفر عنه من الأيمان، ومن الذي لا يُكفر عنه، ما الذي لا يؤاخذ فيه العبد، وما الذي لا يؤاخذ فيه، فقال: لا يُؤَاخِذُكُمُ، لا يُعاقبكم، لا يُحاسبكم بسبب الأيمان التي حلفتموها بغير قصد، بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ، ولكن يُعاقبكم ويؤاخذكم، ويُحاسبكم بنوع منها، وهو ما قصدته القلوب، والله غفور لمن تاب إليه وأناب، حليم بما عصاه لا يُعالج بالعقوبة.

هذا على أشهر المعاني في تفسير اللغو في اليمين، هذا الذي قاله الجماهير من السلف والخلف، إن اللغو باليمين هو ما يجري على اللسان، يقول لا والله، وبلا والله ونحو ذلك، فهذه ليست بيمين مُنعقدة، فلا يؤاخذ الإنسان عليها، فإذا لم يفعل فإنه لا يكون مُلزمًا بكفارة اليمين، لا تجب عليه كفارة اليمين.

وقد قال بعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- بأن اللغو في اليمين هي كل يمين لا كفارة فيها[2]، ما هي الأيمان التي لا كفارة فيها؟ وهي أقوال للسلف ، يدخل فيها قول بعض السلف أنه إذا حلف على شيء يظنه كما قال فتبين أنه ليس كذلك، يعني: لو أنه حلف أن زيدًا قد سافر، وهو يعتقد هذا، فتبين أنه لم يُسافر، فهذه ليست فيها كفارة يمين هي يمين على خبر طابق ما في نفسه، أعني قوله طابق ما في قلبه، يعني: لم يقصد الكذب، ولكنه خالف ما في الخارج يعني خالف ما في الواقع، الإنسان يكون صادقًا يحلف أن فلانًا قد سافر، ويتبين أنه لم يُسافر، قاله مُعتقدًا أنه مسافر، فهذا لا يؤاخذ الإنسان عليه، وليس فيه كفارة يمين، هناك نوع آخر من الأيمان ليس فيها كفارة يمين لكنها ليس فيها كفارة يمين لعِظمها، وهي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، لو أنه حلف على شيء وهو كاذب خبر، فهذا ليس فيه كفارة، فهو أعظم من الكفارة، الكفارة لا تُكفر مثل هذا، إنما الكفارة تكون في الأيمان التي يعقدها قلبه على شيء في المستقبل، وليس على خبر في الماضي، وإنما يقول أفعل، أو لا أفعل، أو يقول ذلك في حق غيره أنه يفعل، أو لا يفعل ونحو ذلك.

وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة:225]، المراد بما كسبت القلوب كما قال الله : بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [سورة المائدة:89]، يعني: أن القلب يكون مُريدًا لليمين، قاصدًا لها دون أن يجري ذلك على اللسان من غير مواطأة القلب وقصد اليمين.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: عدم مؤاخذة العبد على ما جرى على لسانه من غير قصد في قلبه، فهذا عام في باب الأيمان، وفي غيرها، قد يقع ذلك على سبيل الخطأ، وهذا معفو عنه، يعني: لو جرى على لسانه من قبيل الخطأ السب، أو الشتم وهو لا يقصده، أراد أن يقول لإنسان مثلاً أعطاك الله أغناك الله، فقال: لعنك الله، لا يؤاخذ، بعض الناس يُخطأ يأتي في عزى ويُسلم على هذا المُصاب ويقول فُرصة سعيدة، فهذا لا يؤاخذ، الله لما ذكر البر للوالدين في سورة الإسراء قال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [سورة الإسراء:23، 24]، قال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا [سورة الإسراء:25]، حمله جمع من المفسرين هذا الموضع من سورة الإسراء على أنه قد يبدر منه البادرة يُريد البر، فتكون عقوقًا، وهو لا يقصد، قد يقول كلامًا يمزح مع أبيه أو مع أمه، أو يظنه من الكلام الحسن ويتبين أنه من الكلام غير الجيد، كلمة سمعها ظن أنها من الكلام الجيد الذي يُدخل الأُنس على أبيه أو على أُمه، والواقع أنها لا تُقال إلا للبعيد فيقولها، لا يؤاخذ؛ لأنه لم يقصد الإساءة.

هكذا في سائر الأمور في البيع والشراء والعتق والتبرعات ونحو ذلك، قد يُخطأ من شدة الفرح، الرجل الذي قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح[3]، فهذا غير مؤاخذ، فالإنسان قد يقول في حالات الفرح الشديد أو الغضب الشديد كلامًا ولكنه لا يؤاخذ عليه، ولهذا قالوا: لا طلاق، ولا عتاق في إغلاق، الإغلاق الغضب الذي يُغلق معه العقل، يعني: لا يدري الإنسان ماذا قال، واختلفوا في الغضب الذي يدري معه ما يقول لكنه غضب شديد.

فالغضب ثلاث مراتب: مرتبة لا يؤاخذ عليها بالاتفاق، وهي الإغلاق يكون مثل السكران، ومرتبة يؤاخذ فيها بما قال باتفاق وهي الغضب الخفيف الذي يضبط فيه الإنسان نفسه، وتبقى مرتبة متوسطة، وهي الغضب الشديد الذي يعقل معه ما قال لكنه قد يفقد السيطرة، هل يقطع طلاقه أو لا؟

وكذلك قالوا: -كابن القيم رحمه الله- بأن الإنسان قد يتبرع، قد يهب سيارة في حال الفرح الشديد، يقول: فالورع ألا يُقبل منه ذلك[4]؛ لأنه بعد ما يهدأ ويتراد إليه عقله ووعيه قد يندم، يأتيه إنسان بخبر سار نجح في مُقرر دراسي أو نحو ذلك يقول: تفضل هذه سيارتي لك، وبعد نصف ساعة أو ساعة يجد نفسه بلا سيارة فيندم، فمثل هذا الورع ألا يُقبل من الإنسان في مثل هذه الحالات التي يشتد فيها فرحه، أي بما يؤثر على عقله، وضبطه للسانه ويده.

قوله: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة:225]، هذا يدل على أن القلوب لها كسبًا كما أن للجوارح كسبًا، فيؤاخذ الإنسان، لكنه لا يؤاخذ بحديث النفس، ومجرد الهم بالمعصية، ولكنه يؤاخذ بما قصد وعزم عليه، ولهذا قال في المراقي: والترك فعل في صحيح المذهب.

لكن العزم قال فيه النبي ﷺ: القاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه[5]، فصار مؤاخذًا بالعزم، فالعزم هو أحد أنواع الفعل الأربعة، أنواع الفعل: فعل القلب الذي هو العزم المُصمم، فعل الجوارح، وأقوال اللسان، والترك هو أحد أنواع الفعل كما قال في المراقي:

والكف فعل في صحيح المذهب له فروع ذكرت في المنهج

وذكر هذه الفروع والأمثلة، الترك المجرد، الترك، يقول لو أنه مثلاً أُعطي وديعة أو أمانة أو نحو ذلك، أو رهن بهائم وتركها ما أعلفها ولا سقاها وماتت، يؤاخذ أو لا يؤاخذ؟ يؤاخذ، يقول: أنا ما لمستها أنا ما قتلتها تركتها حتى ماتت.

يقول: لو أنه وجد إنسان يغرق ويستطيع أن يُنقذه فما أنقذه؛ فإنه مؤاخذ، لو وجد إنسان ينزف، ويستطيع أن يُنقذه طبيب مثلاً، أو يحمله للمستشفى، أو نحو ذلك وتركه حتى مات يتفرج عليه فهو مؤاخذ، وهكذا، فالترك فعل.

لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المُضللُ

قالها أحد الصحابة لما هاجر النبي ﷺ المدينة، وكانوا يبنون مسجد قباء، وهذا جالس والنبي ﷺ يحمل اللبن مع أصحابه فلما رأى ذلك قال:

لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المُضللُ

فسمى القعود عملاً، والله قال عن بني إسرائيل: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [سورة المائدة:79]، فسماه فعلاً.

وكذلك أيضًا في الأحبار والرهبان لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63]، فسماه صُنعًا.

ويؤخذ من هذه الآية من الهدايات: أن الشارع لم يُرتب المؤاخذة إلا على ما يكون كسبًا للقلب من الأقوال والأفعال الظاهرة، وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة:225]، ولم يؤاخذ على أقوال وأفعال لم يعلم بها القلب كما يقول شيخ الإسلام ولم يتعمدها[6]، وكذلك ما يُحدث المرء به نفسه، الناس يسألون كثيرًا عن حديث النفس، وعن ما يقع من الخواطر السيئة في ذات الله، أو كتابه أو أنبيائه، أو نحو ذلك، هذا لا يؤاخذ عليه الإنسان، والنبي ﷺ لما سُئل عن هذا قال: أوقد وجدتموه قالوا: نعم، قال:  ذاك صريح الإيمان[7]، قيل القلق الذي يجده الإنسان إزاء ذلك من جراءه أو أن مثل هذه الوسوسة حينما تقع في القلب ذاك صريح الإيمان، بمعنى: أن الشيطان يأس منه فما وجد إلا هذه الخواطر التي لا تضره فالشيطان يُقلق الإنسان المؤمن ولكنه ماذا عسى أن يفعل بالبيت الخرِب، الكافر ما يُلقي في قلبه هذه القلق والوساوس والخواطر السيئة.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب كفارات الأيمان، باب الاستثناء في الأيمان، رقم: (6718)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، (1649).
  2. تفسير الطبري (4/ 437).
  3. أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، رقم: (2747).
  4. انظر: بدائع الفوائد (3/ 136).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [سورة الحجرات:9]، رقم: (31).
  6. مجموع الفتاوى (14/ 116).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، رقم: (132).

مواد ذات صلة