بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول الله -تبارك وتعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:228].
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، المطلقات اللاتي هن من ذواتي الأقراء، من ذوات الحيض، يعني ليست صغيرة لم تبلغ، وليست كبيرة بلغت سن اليأس، فهذه إن لم تكن حاملاً، فإن عدتها ثلاثة قروء، فذوات القروء يخرج منهن ثلاثة أصناف: الصغيرة والآيسة وحامل.
فهنا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، يعني: هذا أمر جاء بصيغة الخبر، يَتَرَبَّصْنَ، يعني: عليهن أن يتربصن، يجب أن يتربصن، فالصيغة صيغة خبر، ولكن المعنى الأمر، وسيأتي ما فيه إن شاء الله، يتربصن يعني في مدة العدة، فلا يتزوجن ثلاثة قروء والقُرء لفظ مشترك بين معنيين متضادين، الأول: وهو الحيض، وهذا الذي عليه الجمهور من السلف فيمن بعده ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، ويستدلون على هذا بأدلة منها: قول النبي ﷺ للمستحاضة: انظري أيام أقرائكِ[1]، يعني: أيام الحيض.
والقول الآخر: قال به جماعة من الصحابة فمن بعدهم: وهو أن القُرء بمعنى الطُهر، يتربصن ثلاثة أطهار، ويتسدلون على ذلك في جملة ما يستدلون به، وهي لغة لبعض العرب، يستدلون بتأنيث العدد، ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، قالوا: فالطُهر مُذكر، وإذا كان المعدود مُذكرًا؛ فإنه يؤنث العدد، ثلاثة قروء، ثلاثة رجال، ثلاثة كتب، وإذا كان المعدود مؤنثًا فإن العدد يُذكر ثلاث نسوة، ثلاث ساعات، فقالوا: الحيضة مؤنثة والطُهر مذكر، فلو كان المقصود الحيضات لقال ثلاث قروء؛ لأن المعدود مؤنثًا، ولكنه قال: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، يعني: أطهار، فالطُهر مذكر.
لكن الأوليين، قالوا: روعي اللفظ فإن لفظ قُرء مذكر، على كل حال المسألة فيها خلاف مشهور يترتب عليه اختلاف في المدة والعدة، فمن قال: ثلاثة أطهار فتحتسب الطُهر الذي طُلقت فيه، ثم بعد ذلك تحيض، ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإذا رأت الدم يعني نهاية الطُهر الثالث تكون عدتها قد انقضت، ومن قال بأن ذلك ثلاث حيضات، قالوا هي تُطلق في طُهر لم تُجامع فيه، ثم يأتي بعده حيض هذا الأول، ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم تحيض، فإذا طهُرت من الحيض الثالث تكون العدة قد انتهت، فهذا أطول من الأول، من الأطهار.
وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ، هذه العدة بالنسبة للمُطلقة لحِكم، من هذه الحِكم: أن ذلك، يعني الاستبراء استبراء الرحم أن الرحم ليس فيه حمل، من أجل أن تتزوج بعده، فيُستبرأ الرحم بهذه المدة، المُطلقة الرجعية يُراد هذا المعنى وزيادة، وهي: أن تبقى عند الرجل هذه المدة في بيته، لا يجوز أن تخرج، وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [سورة الطلاق:1].
فلغة وداها لأهلها، هذه لغة مرفوضة شرعًا، للأسف أصبح يُعبر عن الطلاق بمثل هذا، وداها لأهلها، لا يجوز أن يوديها لأهلها كما يقولون، بل يجب أن تبقى عنده في بيته، فحينما تبقى عنده هذه المدة ثلاثة قروء في الطلاق الرجعي، تتزين له، وتنام في فراشه، ولا تخرج لسوق، ولا لغير سوق إلا لحاجة لا يقوم غيرها مقامها فيها، ففي هذه الحال يكون ذلك أدعى للرجوع، فإن كان ذلك الطلاق لغضب عارض أو نحو ذلك؛ فإن الرجل لا يصبر عن امرأته عادة هذه المدة، ثلاثة قروء، وهي عنده في البيت لا يُجامعها، تحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثلاث مرات، وهي عنده لا يقرب امرأته هذا بعيد، إلا إذا كانت نفسه قد طابت منها تمامًا، ولديه قناعة كاملة أن هذه المرأة لا تصلح له، فليست المسألة مسألة غضب عابر، فالغضب يزول في يوم أو يومين أو ثلاثة أيام، ثم لا يصبر عن امرأته فهذا من الحِكم في العدة، لكن التي لا تعتد هي التي طُلقت قبل الدخول هذه لا تعتد، بمجرد ما يُطلق تبين منه.
وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ، يعني: يحرم، أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ، يعني: سواء كان الحمل من أجل أن تُقصر المدة، مدة العدة، لأنها إذا كانت حامل في الشهر الأول مثلاً فستجلس تسعة أشهر إلى أن تضع الحمل فالعدة طويلة، فلربما تكتم المرأة هذا تريد أن تُفارق الرجل، فهذا لا يجوز أن تكتم ما خلق الله في رحمها، وكذلك قد تدعي أنها حاضت وطهُرت، وتكتم الحيض الذي خلقه الله في رحمها، يعني: من أجل أن تُنهي عليه، تفوت الفرصة لئلا يُراجع فتدعي أنها طهُرت، إذا قلنا بأن القروء هي الحيضات لتفوت عليه الرجعة، وإذا قلنا بأن القروء هي الأطهار فتدعي أنها قد حضت، يعني: انتهت العدة ذهب الطُهر الأخير، فهذا لا يجوز أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، ولاحظ تنمية الرقابة؛ لأن هذه مسألة تتعلق بالذمة والأمانة، لا يطلع عليها أحد، فقال الله -تبارك وتعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فلا يحل لهن ذلك فتُراقب ربها في هذا.
ثم قال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا، البعولة يعني الأزواج، أحق بالمراجعة في العدة، ليس لها أن تمتنع، وليس لها خيار في هذه القضية، غاية ما هنالك أنه في العدة يقول: راجعتكِ، أو يقول: راجعت فلانة أو راجعت امرأتي، أو يُجامع، أو يُقبل، أو يُباشر بنية الرجعة عند الجمهور، فليس لها خيار في هذه القضية، ليس لها فيها قرار أنها تقبل، أو ترفض، لكن اختلفوا في الإشهاد لا شك أنه يُستحب استحبابًا مؤكدًا، لكن هل يجب أو لا يجب؟ هذا موضع خلاف، لكن هذه الرجعة أيضًا وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا، بهذا القيد، يعني: لا يُراجع من أجل المُضارة، يطول عليها مدة الأذى، والإقامة معه، ويحرمها من التزوج بغير مثلاً، فإذا أوشكت العدة أن تنتهي قال راجعتكِ، ثم بعد ذلك يُطلق، ثم تستأنف عدة جديدة؛ فإذا بقي لها يوم واحد قال لها: قد راجعتكِ، دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض[2]، فلا يجوز له أن يُراجع من أجل المُضارة أن يقصد الضرر، لكن إن أراد الإصلاح في العشرة، أن يُعاشر بالمعروف، وأن يرأب الصدع، فهو أحق بذلك.
ولاحظ هذه التوجيهات الربانية، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، لها مثل الذي عليها، هو يطلب منها أن تتجمل له وأن يستمتع بها يُطالبها بحقوقه، فكذلك لها من الحقوق مثل الذي عليها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الهدايات المُستخرجة من هذه الآية.
فلا يُطالب الرجل بحقوقه فحسب، بل هي أيضًا لها حقوق يجب أن يؤديها لها، وكذلك أيضًا الرجال لهم على النساء درجة، وهذه الدرجة منزلة زائدة بما جعل الله للرجل من القوامة، فهو سيدها، والطلاق بيده، فهو صاحب القرار والمُبادرة، وكذلك أيضًا ألا يستوفي حقه وحظه منها كما سيأتي، التفضل بالتغاضي والإعراض والتغافل ونحو ذلك.
والله -تبارك وتعالى- عزيز حكيم، عزيز له العزة القاهرة، والحكمة البالغة يضع الأشياء في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، وسيأتي الكلام على هذا في الهدايات.
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ، يقول الإمام أحمد -رحمه الله: تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الرجعي، هذا نقله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن الإمام أحمد، كل طلاق في القرآن فهو الرجعي[3]، ومثل هذا يسمونه في العلوم المُتعلقة بالقرآن الكُليات، كل كذا في القرآن فهو كذا، يُقال له الكُليات.
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ، لاحظ أنه جاء بهذا الأمر بصيغة الخبر يَتَرَبَّصْنَ، وهو أمر، أمر لهن بالتربص، لكن حينما يأتي بصيغة الخبر يكون هذا آكد، كأن هذا الأمر قد فُرغ منه، وأُقر، ولا مُراجعة فيه، وليس لأحد أن يستدرك، أو ينتظر غير ذلك، فهذا أمر محسوم عليها أن تتربص هذه المدة، يعني: على المُكلف أن يتلقى ذلك بالمُبادرة والمُسارعة، ولا يتردد فهو يُخبر عنه كأنه شيء واقع موجود، مثل ما نقول في الدعاء: رحمك الله، هذا خبر، والمقصود به السؤال والدعاء لك بالرحمة، غفر الله لك، المقصود به الدعاء، لكنه جيء به بصيغة الخبر ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة فهو يُخبر عنها.
وهنا وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ، قدم المُطلقات على ما يتعلق بهن من الحكم وهو التربص؛ وذلك فيه من التأكيد ما لا يخفى؛ لأن الحكم يتعلق بالمطلقات، وهي المقصودة من قام بها هذا الوصف، ولاحظ التعبير بقوله: يَتَرَبَّصْنَ، يعني: كأن المرأة يُنازعها شيء، يدفعها شيء يحثها على أن تُنهي علاقتها بهذا الزوج الذي طلقها بأقصر مدة، فعُبر بالتربص هنا الذي يحتاج إلى شيء من التثبيت النفس وقهرها، من أجل أن تستقر هذه المدة غير مُتطلعة للأزواج، وقد تعجبون من هذا في مثل هذا الوقت للأسف، الذي صارت المرأة إذا طُلقت تبقى لا يكاد يتقدم لها أحد إلا لربما من لا ترغب فيهم، كمن يكون من ذوي الزوجات، أو كبار السن، أو نحو ذلك هذا هو الغالب، لكن عند العرب الأوليين كانوا ينظرون إلى صفة المرأة، بصرف النظر عن كونها مُطلقة، أو غير مُطلقة، ما هي المواصفات، ولذلك في المتوفى عنها زوجها نهى الله -تبارك وتعالى- عن التصريح لها بالخِطبة والمواعدة، لكنه رخص أن يقولوا قولاً معروفا، التعريض، كأن يقول أنا أبحث عن امرأة هذه الأيام، مثلك يرغب فيه الرجال، ونحو ذلك من باب التلميح، لكن لا يواعدها.
الذي يقرأ مثل هذه الآية يتعجب هل يتسابق الرجال على المرأة المتوفى عنها؟ الجواب: نعم، كانوا يتسابقون بمجرد ما تنتهي من العدة يتقدم لها الخُطاب، يتقدم لها مجموعة من الناس، وعند ذلك تتخير منهم، وهذا لا زال موجودًا في بعض البيئات إلى اليوم، أعتقد أن ذلك لم يزل في مثل بلاد موريتانيا إن كانت الحال لم تتغير على ما عهدته، فهم ينظرون إلى مواصفات المرأة، ولا ينظرون إلى كون المرأة مطلقة، أو ليست مطلقة، فهنا قال: يَتَرَبَّصْنَ، يُقال لها تربصي بنفسك، يعني: انتظري لا تعجلي.
كذلك يؤخذ من هذه الآية: ما على المؤتمن الذي لا يعلم بأمانته إلا لله -تبارك وتعالى، أنه ينبغي أن يُذكر بمُراقبة الله ويخوف من عذابه إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فلا تكتم ما خلق الله في رحمها إن كانت تؤمن بالله، لا أحد يعلم أنها طهُرت، أو أنها حامل، أو غير حامل، وإنما ذلك بينها وبين الله فقد تقول إنها طهُرت من الحيض لتفوت الفرصة على هذا الزوج وتُفاجأ الزوج بذلك، بل قد تدعي أنها حاضت، وطهُرت إلى آخره ثلاثًا في شهر واحد، لكن هذه للفقهاء فيها كلام إن لم يكن لها إن ادعت هذا، ولم يكن عادة لها يُنظر في أخواتها، ومن حولها قريباتها، هل هن كذلك، يعني: يحضن في شهر ثلاثًا أو لا؟ فقد تدعي هذا في شهر واحد أنها جاءها الحيض ثلاث مرات، فمثل هذا بينها وبين الله فهذه أمانة، وهذه الشريعة فيها أمانات، وفيها شعائر، وإن كان الكل أمانة لكن الفقهاء يقسمون هذا التقسيم، فالأمانة مثل الطهارة الغُسل من الجنابة، الصوم، مثل هذه القضية التي ذكرنا، هذه أمانات لا أحد يعلم أنه مُفطر أو صائم، ولا أحد يعلم أنه اغتسل من الجنابة أو تطهر من الحدث أو لا، والشعائر مثل الأذان التكبير في الأعياد التلبية، إعفاء اللحية، ونحو ذلك من الأمور الظاهرة، صلاة الجماعة هذا كله من الشعائر.
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما: "إني أُحب أن أتزين لامرأتي كما أُحب أن تتزين لي؛ لأن الله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ"[4].
فابن عباس -رضي الله عنهما- جعل هذا مما يدخل فيه، قضية الزينة وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، والواقع أنه لا يكون بالزينة فقط، بل سائر الحقوق من المعاشرة بالمعروف، والاستمتاع، ونحو ذلك من أداء كل طرف للطرف الآخر حقوقه من غير مطل، ولا تكدير، ولا تنغيص، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية حينما أضاف ذلك إلى المعروف وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، المعروف يعني العُرف يختلف من بلد إلى بلد، القرية والمدينة والزمان، المعروف في زمن النبي ﷺ غير المعروف في هذا العصر، المعروف في البادية غير المعروف في الحاضرة، لو جاء هنا في هذا العصر في بلد مثل هذا، وقال: أنا أُريد أن أُسكن هذه المرأة كما يسكن أبي جدي أبوه وجده في البادية، ووضع لها بيت شعر في البلد، شاف أرض فضاء وضع بيت شعر، وقال اجلسي في هذا، هذا الكلام غير صحيح، لو أراد أن يُطعمها كما يطعم الناس في زمن النبي ﷺ يمضي الهلال والهلال والهلال في بيت النبي ﷺ، ولا يوقد نار إنما طعامهم الأسودان التمر والماء، وقال لها: لك أسوة، في هذا العصر الوضع يختلف.
لو أرد أن تسكن هنا في هذا البلد في بيت من لبن والسقف من جريد، وقال الذي يسع أو وسع أزواج النبي ﷺ يسعكِ، الوقت غير الوقت، فهذه القضايا أحال الله فيها إلى المعروف، فهو غير مُقدر، الذي كان قبل مائة سنة غير الذي الآن، الذي في البلد الفلاني غير الذي في هذا البلد، الذي في القرية ليس كالذي في المدينة، الذي في الصحراء ليس كالذي، وهكذا، فيُعاشر بالمعروف، ولها من السُكنى بالمعروف، والنفقة بالمعروف، وما إلى ذلك، الطعام والشراب، فيُرجع في ذلك إلى العُرف الغالب.
كذلك أيضًا لما قال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، قال: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، لئلا يُظن أنه يستوي الرجل والمرأة في كل الحقوق والواجبات، لا الرجل له درجة، ما هذه الدرجة التي فُضل فيها الرجل؟ يدخل فيها التفضيل الوهبي، التفضيل الوهبي مثل أن الله جعل عقل الرجل ليس كعقل المرأة، وجعل له الطلاق، جعله بيده، وجعل له من القوة البدنية ما ليس للمرأة، بدن الرجل غير بدن المرأة، وجعل له من القدرة على اتخاذ القرار والمُضي فيه ونحو ذلك ما ليس للمرأة.
وهناك تفضيل كسبي الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [سورة النساء:34]، فالنفقة فالذي يُنفق هو السيد، فلا يصح أن الرجل يطلب من المرأة أن تُنفق عليه، فالقوامة تقوم على أصلين: هذا التفضيل الوهبي، والتفضيل الكسبي، وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فهذه ينبغي أن تُعتبر وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، فهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء، والمرأة خُلقت من ضِلع كما هو معروف، ومن ثَم فإنها لا تخرج عن طاعته بالمعروف، لكن هذه الدرجة وهذا التفضيل يُراعى فيه حُسن الرعاية، وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما، وانظر إلى فهم السلف قال: "ما أُحب أن أستوفي حقي منها"[5]، ما أُحب أن أستوفي حقي منها، يعني: يرى أن الدرجة هي التفضل بالإغضاء والتسامح والإعراض والتغافل أن لا يستنطف حقه كله.
ليست العلاقة بين الرجل والمرأة هي علاقة مُفاصلة في الحقوق، هي تريد كل حقوقها إلى آخر حد، وهو يريد حقوقه إلى آخر حد، لا، العلاقة أكبر من هذا، هو يتنازل عن بعض حقوقه، وتتنازل عن بعض حقوقها ليلتئم الشمل، أما أن الرجل لا يفوت شيئًا فهذا غير صحيح، فهذا هو التفضيل عند ابن عباس -رضي الله عنهما- وكذلك أيضًا جاء عن الحسن البصري -رحمه الله- نحو هذا: "ما استقصى كريم قط"[6].
فالكريم يتسامح، والشيخ محمود شاكر -رحمه الله- لما علق لابن جرير على أثر ابن عباس هذا علق تعليقًا أبدع فيه وأطال يحسُن مراجعته، في التكرم والتفضل.
لكن لاحظوا هذا التعقيب: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لما جعل للرجال هذه المرتبة وهذه الدرجة من القوامة والسيادة ونحو ذلك، ذكرهم أن لا يستغلوها بالعسف والقهر وابتزاز المرأة، ونحو ذلك قال: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فيد الله فوق الجميع، فإذا كان له القوامة، فيد الله فوقه، فليعلم أن الله عزيز لا يجوز له أن يستغل هذه القوامة والدرجة في التلاعب بالمرأة وتضييع حقوقها والقهر لها، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه الدارقطني، كتاب الحيض، رقم: (818).
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق، يقتلن في الحرم، رقم: (3318)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي، رقم: (2619).
- مجموع الفتاوى (32/ 293).
- تفسير ابن كثير (1/ 610).
- تفسير الطبري (2/ 462).
- تفسير البغوي (8/ 164).