الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
[189] تتمة قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ..} الآية:233
تاريخ النشر: ٠٤ / جمادى الآخرة / ١٤٣٧
التحميل: 979
مرات الإستماع: 1235

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

نواصل الحديث فيما يتصل بالهدايات المستخرجة من هذه الآية الكريمة، وهي قوله -تبارك وتعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [سورة البقرة:233] فإضافة إلى ما سبق من الهدايات التي كان آخرها في الليلة الماضية: أن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها، فالله -تبارك وتعالى- يوصينا في أولادنا، ويوصي الوالدة ويأمرها أن تُرضع ولدها.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ المولود له هو والد الطفل، وهذا معروف، لكنه عُبر بهذا وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ولم يقل: وعلى أبيه مثلاً، وإنما قال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ للدلالة على أن الوالدات يلدن للآباء، فالأولاد يُنسبون إليهم، وليس إلى الأمهات، ومن هنا كان عليهم الإنفاق على هؤلاء الوالدات في حال الحمل، وفي حال الإرضاع إذا كانت مُطلقة، كما أنه يجب عليه أن يُنفق عليها إذا كانت في عصمته، سواء كان ذلك في حال حملها، أو كانت قد ولدت له، أو لم تلد، ولم تحمل، فإذا أرضعت له هذا الولد بعد الطلاق، فإنه يُنفق عليها؛ لأن هذا الولد له، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ومن هنا وجب عليه الإنفاق في حال إرضاع الأم لهذا الولد، ومن قال بأن هذه الآية في المُطلقات لم يفهم منها أن الإرضاع لا يجب على الأمهات، يعني: إذا كانت في عصمة الزوج غير مُطلقة، وأنها لا تستحق أجرة على ذلك، ومن قال بأن هذه الآية في عموم النساء (الزوجات)، ولا يتقيد ذلك بالمُطلقة، فإنهم فهموا من ذلك أن الإرضاع لا يجب عليها، وأنها لو اشترطت الأجرة فلها ذلك، لكن ظاهر السياق -والله تعالى أعلم- وما ذُكر قبله وبعده، يدل على أن ذلك في المُطلقات، والله تعالى أعلم.

فالمقصود: أن هذا الولد يُنسب إلى أبيه، ويُلحق به؛ لأنه ولد على فراشه، وكان ذلك أليق بالتعبير بهذه العبارة وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ فاللام هذه تدل على التمليك، أنت ومالك لأبيك[1]، فالولد للأب، ومن هنا كان الأب أحق بالتسمية من الأم، وإن كان يمكن للأم أن تُسمي إذا رضي الأب، فامرأة عمران قالت: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [سورة آل عمران:36] فالتي سمتها بذلك هي أمها.

كذلك أيضًا فيه تذكير الآباء بما يجب عليهم من مراعاة الأولاد، في تهيئة ما يحتاجون إليه، يعني: إذا كان يجب عليه أن يُنفق على من أرضعته، سواء كانت الأم المُطلقة، أو أنه استرضع أخرى، فيجب عليه أن يدفع أُجرة الرضاع، إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ فإذا كان هذا في رضاعه، فهكذا في سائر حاجات الولد، من العلاج، والطعام، واللباس، وما يحتاج إليه في حياته من مطالبه الدراسية مثلاً، ونحو هذا فيجب على الأب أن يوفر ذلك بالمعروف، فهذه النفقة من النفقات الواجبات، وتكون لدفع الحاجة، ومن هنا لا يُطلب التساوي فيها بين الأولاد، فنفقات البنت غير نفقات الابن، والابن الصغير الذي في مرحلة الرضاع غير الابن الذي في مرحلة الدراسة الابتدائية مثلاً، والذي في المرحلة الابتدائية ليس كالذي في المرحلة الجامعية في نفقته.

ولهذا لا يُطالب الأب بالتسوية في النفقات، أو ما يُعطيهم من مصروفات يومية، من أجل دراستهم، أو نحو ذلك، فالذي يُعطى للطفل الصغير في الروضة، أو في التمهيدي، أو في الابتدائي غير المصروف الذي يُعطى للطالب الجامعي، فلا يسوى بينهم في ذلك؛ لأن هذا لدفع الحاجة، فيكون بحسب الحاجة، أما النفقات التي يمكن أن تُدفع الحاجة ذات قيمة من غير تمليك، فهذه ينبغي أن يُراعى فيها ذلك، كأن يتزوج أحد الأولاد، ويحتاج إلى مكان يسكنه، والأب عنده مال، أو عنده دور، فأسكنه أحد هذه الدور فلا يُملكه إياه، ولكن كل من يحتاج من الأولاد يمكن أن يُمكنه من دار يسكنها، من غير مُحاباة لأحد، لكن لا يعوض الآخرين من الأولاد، فهذه الدار تساوي مثلاً أربعين ألف، فيُعطي في رصيد كل واحد في كل سنة أربعين ألفًا، هذا غير صحيح، لكن المشكلة هي في التملك والهبة، فإذا وهبه فهنا يجب أن يعدل بين أولاده من المحتاجين وغير المحتاجين، الذكور والإناث، يعدل بينهم في هذا، وكذلك النفقات ذات الشأن مثل السيارات، فيمكن أن يُمكنه منها من غير أن يملكها، فتكون باسم الأب، ولكن يستعملها الولد، وينتفع بها، فالحاجة تندفع بمثل هذا، وكذلك الوارث يعني كما قلنا: إذا مات والد هذا المولود، فالوارث هو الجد مثلاً، أو الأخ الأكبر، أو نحو ذلك، فعليه أن يُنفق على مُرضعته، سواء كانت هي الأم المُطلقة، أو أُرضع عند غيرها، فهذا يقوم مقام الأب.

لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا بُني الفعل هنا للمجهول لا تُكلف لإفادة العموم من جهة الفاعلين، لَا تُكَلَف أي: لا يُطالبه الشارع فوق طاقته، ولا يُطالبه الحاكم والقاضي فوق طاقته، كأن يفرض عليه نفقة أكثر مما يُطيق، وهو فقير.

وكذلك النفس هنا جاءت مُنكرة، في سياق النفي، لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ لتعم كل النفوس، فالرجل لا يُكلف بمُطالبات ونفقات باهظة، وأمور لا يُطيقها، وكذلك هذه الأم لا تُطالب بما لا تُطيق، وإنما يُنظر إلى إمكانيات كل طرف، ويُنظر إلى مصلحة هذا الولد، ويحصل التراضي والتشاور، وتغليب مصلحة الأولاد؛ ولهذا قال الله : فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا يعني: إن أرادا الفطام، وهذا يدل على أنه ليس لأحد الطرفين يعني الأب أو الأم أن يُبادر بقرار الفطام من غير مشورة، مع الطرف الآخر، فكيف إذا كان يقصد بذلك التخفف من الأعباء كالنفقة التي يُعطيها، فيقول: لا حاجة لهذا الرضاع، يُفطم هذا الطفل، لا، يُنظر في مصلحته، فإن رأوا أن المصلحة هي الفِطام فلا بأس؛ لأن المقصود هو مصلحة المولود؛ لأن هذا الرضاع لا شك أنه مصلحة له، فهو يبني عظامه ولحمه، ويزيد أيضًا في مداركه وعقله وسمعه وبصره، فذلك أكمل لحاله.

فالمقصود أن لا يُظلم هذا الصبي، ويكون موضع شد وجذب بين الطرفين، وهذا في حال صبي في المهد، فكيف بما هو أعظم من ذلك وأعلى من مصالح الأسرة، حينما يستبد الأب مثلاً بالقرارات المصيرية، كما ذكرت في الليلة الماضية، ويحرم هؤلاء البنات من الزواج؛ لأنه لا يعجبه أحد، أو لأنه يريد أن يستحوذ على ما عند هؤلاء البنات من مال، أو لأنه بزعمه لا يريد أن تذهب أموالهم وثرواتهم -إن كان غنيًا- للأجانب، كما يقول، يعني: هو لا يزوج إلا أبناء العم مثلاً؛ لئلا تذهب هذه الثروة، طيب أبناء العم ليس فيهم أكفاء، وقد لا يتقدمون، وقد تكون الفُرص معدومة، والطريق مسدود، فتبقى هؤلاء البنات في حسرة، وتنقضي الأعمار، ويصلن إلى سن اليأس، ثم بعد ذلك يكن ضحايا لهذا الجور من قِبل هذا المُستبد، الذي لا يُعجبه أحد، ولا يقبل من أحد، فهنا في فِطام هذا الصبي التشاور، لا بأس إن كان عن تراضٍ وتشاور، طيب في تزويج البنات وفي قرارات لها ما بعدها؟!

وكذلك أيضًا يدل هذا على عناية الله -تبارك وتعالى- بخلقه وعباده، فهذا الرضيع يأمر الله  بإرضاعه، ولا يكون فطامه إلا عن اتفاق وتشاور وتراضٍ من غير استبداد، وهذا إذا كان قبل الحولين.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً هذا في الغائب، ثم بعد ذلك قال: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ تحول الخطاب إلى المُخاطب، وهذا الذي يسمونه بالالتفات، فهنا لما أراد أن يوجه ذلك لهم وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ من أجل تحريك النفوس والأذهان، وإيقاظ المخاطب لما يوجه إليه من الحكم ليمتثل.

وكذلك جاء هنا بالتثنية: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً يعني الأب والأم، وأما قوله: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ المراد كذلك الآباء والأمهات، ولكن الخطاب للمُذكر، فكأنه غلب جانب الأب، أو المولود له، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ يعني: عند غير الأم، فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ لأنه هو الذي يدفع، وهو الذي يستأجر المُرضعة، فغُلّب الخطاب للمُذكر، وهنا في قوله -تبارك وتعالى: فِصَالاً جاء مُنكرًا، كأنه يُشعر بأن هذا الفصال غير مُعتاد، يعني: أنه لم يصل إلى حد تمام الحولين، فصالاً قبل ذلك.

ومن الهدايات التي تؤخذ أيضًا من هذه الآية وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلم يقل: واعلموا أنه، بالضمير، مع أنه مضى لفظ الجلالة قريبًا قبله، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ فأظهر في موضع يصح فيه الإضمار، والعرب تذكر الضمائر اختصارًا، فإذا أُظهر فهنا يُقال لتربية المهابة في هذا الموضع وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ وجاء كل موضع في جملة مستقلة، فمثل هذا حسن في الخطاب والكلام والبلاغة، ومن أجل تربية المهابة في نفوسهم، فهذا أفخم، ووقعه أعظم.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده برقم: (2291) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة