بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما أمر الله -تبارك وتعالى- بالمحافظة على الصلوات، بحفظ أركانها، وشروطها، وواجباتها، ومستحباتها، وخصَّ من ذلك الصلاة الوسطى، وهي صلاة العصر: أمر بعد ذلك بالقيام لله -تبارك وتعالى- قانتين؛ وذلك يشمل الصلاة في حال القيام، وأيضًا ألا يتكلم في الصلاة.
وذكرنا أن النبي ﷺ كان يرد على أصحابه، وهو يُصلي، ثم جاء المنع من ذلك، فقال الله -تبارك وتعالى- بعدها: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:239] فإن خفتم أي: في حال الخوف والقتال، وفي حال مُصافاة العدو، ففي هذه الحال يصلون صلاة الخوف، على الحال التي يتمكنون منها، وقد لا يتمكنون من الصلاة إلا وهم في حال من الركوب إن كانوا رُكبانًا على الدواب، أو مُشاة على الأقدام، فيصلون وهم يمشون، وكذلك الصلاة في حال التحام القتال، فالصلاة لا تُترك في أشد الحالات، فيُصلي على أي هيئة يستطيع، ولو بالإيماء، ولو إلى غير جهة القبلة، فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فإذا ارتفع الخوف وزال، فصلوا صلاة الأمن، واذكروا الله -تبارك وتعالى- فيها، ولا تنقصوها عن هيئتها التي شرعها، كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ وهذا يستوجب الشكر لله -تبارك وتعالى، حيث علم عباده ما لم يكونوا يعلمون من أمور العبادات، والأحكام، والمُعاملات.
فيُؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: التنبيه على أن حالة الخوف والشدة لا تكون عذرًا في ترك الصلاة، ولكنها قد تكون عذرًا لترك القيام، أو الاستقبال، فهذا يدل على أهمية الصلاة، وقد شُرعت صلاة الخوف جماعة، فإذا كان ذلك في الخوف فهو في الأمن أوجب؛ وذلك يدل على أهمية صلاة الجماعة.
ويُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: فَإِنْ خِفْتُمْ جاء بـ(إن) التي تدل في اللغة على وقوع الشيء قليلاً، أو نادرًا، فهذا خلاف الأصل، يعني: الخوف، لكن في قوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:239] فلم يقل: فإن أمنتم؛ وذلك أن الأمن هو الأصل، والخوف عارض، فجاء بـ(إذا) التي تُنبأ عن تحقيق وقوع الأمن، وكثرته، وهذا من بلاغة القرآن.
ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: رحمة الشارع بعباده، وأن هذه الشريعة مبنية على التيسير، ففي حال الخوف يصلون بحسب ما يتيسر لهم، وكذلك المريض فإنه يصلي بحسب ما يتيسر له، فإذا كان يستطيع أن يُصلي قائمًا صلى قائمًا، وإلا فإنه يُصلي قاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب، وإذا كان يستطيع استقبال القبلة، فيجب عليه أن يستقبلها، وإذا كان لا يستطيع ذلك سقط عنه هذا الشرط، كل ذلك من رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده، لكن الصلاة لا تسقط عنه طالما أنه يعقل، يعني: أن عقله معه، ومن هنا نعلم ما يقع لكثير من المرضى -عافى الله الجميع- حيث قد يترك الواحد منهم الصلاة بحجة أنه لا يستطيع استقبال القبلة، أو لا يستطيع الطهر، فإنه إذا عجز عن الطهارة بالماء فإنه يتيمم، فإن لم يستطع الطهارة بالماء ولا التيمم، فإنه يُصلي بحسب حاله، وإذا كانت الصلاة تشق عليه، فإنه يجمع بين الصلاتين، لكن المريض لا يقصر إنما القصر للمسافر.
ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضًا: بيان حال الإنسان، وأن الأصل فيه الجهل، فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وكذلك أيضًا فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ فيمكن أن تكون الكاف هنا تدل على مقابلة نعمة الله بالتعليم، حيث علمنا ما لم نكن نعلم، فنذكره لذلك شكرًا، وأداء لبعض حقه، ويمكن أن تكون لمعنىً، وهو أن يُذكر ويُعبد -تبارك وتعالى- على الصفة التي شرعها، كما علمكم، أي: اذكروه كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون.
والله -تبارك وتعالى- لا يُعبد إلا بما شرع، والنبي ﷺ يقول: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1]، فيأتي بالعبادة على الوجه المشروع.
وكما ذكرنا ذلك في قوله -تبارك وتعالى- في آيات الصيام: كَمَا هَدَاكُمْ [سورة البقرة:198] ففي أحد المعاني التي تحتملها الآية: على الوجه الذي هداكم إليه، فتقع العبادة على الوجه الذي شرعه الله ، وتقدست أسماؤه.
هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور برقم: (1718).