بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول الله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:243، 244] ابتدأت هذه الآية بهذا الاستفهام التقريري، الذي في ظاهره أنه خطاب موجه للنبي ﷺ، وهو صالح للأمة، والأمة قد تُخاطب بشخص مُقدمها -صلى الله عليه وآله وسلم، أَلَمْ تَرَ والرؤية هنا المقصود بها العلمية، يعني: ألم تعلم قصة وخبر الذين فروا من أرضهم ومنازلهم وديارهم، وهم ألوف كثيرة، حذر الموت، والله أعلم ما الذي كان، والمرويات في هذا الباب مرجعها إلى أخبار بني إسرائيل، بعضهم يقول: فروا من الطاعون، وبعضهم يقول: فروا من القتال في الحرب، وبعضهم يقول: فروا من بلادهم التي استوخموها، فخرجوا إلى وادٍ أفيح، فنزلوا فيه، وملئوا ما بين عدوتي الوادي، وهذه الروايات لا يُعتمد على شيء منها.
ويقال: إن الله أرسل إليهم ملكين، فكان أحدهما في أسفل الوادي، والآخر في أعلاه، فصاحا بهم فماتوا، ثم إن الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك أحياهم في خبر لا حاجة لذكر تفاصيله؛ لأن ذلك مما لا يُقطع بصحته، والشاهد أنهم خرجوا حذر الموت، فقال لهم الله موتوا، فماتوا جميعًا، فروا من قدر الله ، فأدركهم الموت، ثم أحياهم الله -تعالى- بعد مدة؛ ليستوفوا الآجال، ويتعظوا ويعتبروا؛ وليكون ذلك آية لهم ولغيرهم بإحياء الله -تبارك وتعالى- الموتى، وهذا أيضًا آية في أن قَدَر الله -تبارك وتعالى- لا بد أن يُدرك العبد لا محالة.
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بنِعمه عليهم المتواترة، وبهذا البيان الذي بينه، والآيات الواضحات، والدلائل الباهرات، الدالة على قدرته، وأنه يُحيي الموتى، فيُريهم من الآيات ما يحصل به العلم واليقين؛ وذلك من فضله ورحمته بعباده، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لا يشكرون فضل الله عليهم، ولا ينتفعون بهذا الإنعام والإفضال والبيان.
ويُؤخذ من هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ أن النبي ﷺ مع منزلته لا يعلم الغيب، وهذا من الغيوب الماضية، يعني: الغيب النسبي الذي يعلمه بعض الخلق، فالله يُخبر نبيه ﷺ عن أمور وقعت، وقد وُجد ما وُجد منها في كتب بني إسرائيل، ويُعلمه ما لم يكن يعلم، وهذا من فضل الله على نبيه ﷺ، وعلى هذه الأمة التي علمها بعد الجهالة، وعلى سائر الأُمم، حيث إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون.
ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ هذه الألوف أعداد كثيرة مما يدل على وجود الخوف والهلع في نفوس أكثر الخلق، وهذا أمر واقع ومُشاهد، ولكن الكثيرين لا يتبينونه إلا إذا وقع لهم المكروه، يعني: في أيام العافية قد يشعر الإنسان أنه قوي وثابت، ورابط الجأش، ولكن إذا وقع له المكروه، حصل منه الهلع والجزع والضعف ما لا يُقادر قدره.
وبعض المفسرين قال: وهم ألوف، يعني: من الإلف، يعني: أنهم في حال من التآلف، لكن هذا المعنى ذكرنا أنه بعيد في كلام على هذه الآية في دروس سابقة من المصباح المنير، وإن قاله بعض المفسرين، لكنه ضعيف، لكن المقصود الذي فيه العبرة هو أنه لا يُنجي من قدر الله ، لا تآلف، ولا حذر، وليس معنى ذلك أن يتفرق الناس، أو أن يترك الإنسان الأسباب، لكن يعمل الأسباب، ولا يركن إليها، ولا يترك أمر الله خوفًا من الناس، فرزقه وأجله كله بيد الله -تبارك وتعالى.
ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية الكريمة: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ أن الخوف والهلع والجزع بل والحذر لا يُنجي من القدر، فالخوف لا يحفظ الحياة، والاحتياط لا يكون سابقًا لقدر الله -تبارك وتعالى، ولكن على العبد أن يبذل الأسباب اعقلها وتوكل[1]، ويتجنب الأخطار، ويتطلب الأسباب في مُدافعة قدر الله -تبارك وتعالى، فيما يُمكن مُدافعته، كالجوع والعطش يُدفعان بالأكل والشرب، والعِلل والأمراض يطلب لها الدواء، تداووا عباد الله[2]، وهكذا الدعاء، ونحو ذلك، وأما الحياة فهي بيد الله -تبارك وتعالى، لا تحصل بجُهد العباد، وخالد بن الوليد عند موته قال مقالته المشهورة: "لقد لقيت كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح؛ فها أنا أموت على فراشي، حتف أنفي، كما يموت العير؛ فلا نامت أعين الجبناء"[3]، وكما قال الشاعر:
لو كان حي مُدرك الفلاحِ | أدركه مُلاعب الرماحِ[4] |
يعني: الذي يركب الأخطار، ويُقاتل، ويشهد المعارك، لو أن أحدًا يُدرك الفلاح، والمقصود بالفلاح في هذا البيت يعني البقاء، لناله مُلاعب الرماحِ، وذُكر أن أعرابيًا رأى جنازة فسأل؟ فقيل له: هذا ميت، قال: وكيف الخلاص؟ فقيل له: إن القرى يكثر فيها الوباء -القرى يعني المدن ومجمع الناس، كبيرة أو صغيرة- ولكن عليك بالبادية، فاخرج إلى البادية، فخرج إلى البادية خوفًا من الموت، فمر بقبر أو قبرين، فقال:
وقد نبأتُماني أنما الموت في القرى | فكيف وهذه هضبة وكثيب؟![5] |
يقول: أنا لست في قرية، هذه هضبة، وهذا كثيب، ويوجد الموت، فهذه القبور في الصحراء، فقدر الله إذا نزل فإنه لا يرده حذر من أصحاب الحذر، ولا قوة ذي جلد، ولا عقل ذي عقل، ولا مهارة ذي حذق، وإنما على العبد أن يرضى ويُسلم، فيصبر، ويحتسب، والكل سيمضي في الوقت الذي حدد الله فيه موته وفوته، لا يتقدم ولا يتأخر، فلا العلل والأمراض هي التي تُقدم الآجال، ولا العافية والقوة هي التي تؤخرها، النتيجة واحدة، لو أن هذا الإنسان ذهب إلى أرقى المستشفيات، وأجروا له جميع الفحوصات والتحاليل، وقالوا: أنت أصح الناس لم يتغير من أجله شيء، هو يفرح ولكن الأجل هو الأجل، ولو قالوا: قد اجتمع بك أدواء الناس لم يتغير من أجله شيء، هو نفس الأجل، فلا فِرار من قدر الله -تبارك وتعالى.
فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فيه إثبات صفة الكلام لله على ما يليق بجلاله، وعظمته، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ هذا أحد المواضع في سورة البقرة الدالة على قدرة الله على البعث، وهي خمسة مواضع، هذا واحد منها، وهذه الخمسة داخلة في نوع من الأنواع الدالة على قدرة الله على البعث، فهذا النوع هو الإحياء بعد الإماتة، إحياء أُناس مثل هؤلاء وهم ألوف، أو الذي مر على قرية، وهو واحد، أو الطيور التي كان إبراهيم جزأها بأمر الله ، وقطعها، ثم دعاها إلى غير ذلك، فهذا كله يدل على قدرته الباهرة على إحياء الموتى.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يعني: ذو فضل، والتنكير هنا يدل على التعظيم، أي: فضل عظيم، فنبغي أن يُذكر فضله، وأن يُعرف، وأن يُشكر على ذلك، وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ فلم يقل: ولكن أكثرهم، فأعاد لفظ الناس مُظهرًا، مع أنه يصح فيه الإضمار للدلالة على العموم، ولو قال: إن الله لذو فضل على الناس، ربما في زمن معين، أو في جيل معين، ولكن أكثرهم، أهل ذلك الجيل، لكن قال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يعني: كل الناس، وعموم الناس، فإن الأكثر منهم لا يشكرون الله -تبارك وتعالى، والشكر هو ظهور أثر النِعمة على المُنعم عليه، يُقال: شكرت الدابة إذا ظهر عليها أثر العلف، من السِمن، ويُقال: الشكير وهو الغُصن الصغير الأخضر الذي يخرج من الشجرة إذا قُطعت، زائد عليها، فالشُكر ظهور أثر النعمة على المُنعم عليه بلسانه، وقلبه، وجوارحه.
وأيضًا قوله: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ كأنه تعليل لما سبق، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يعني: بهذا الإحياء، وهذه الآية الباهرة، وأن يعتمد الناس على الله وحده، ولا يعتمد الواحد على قُدراته واحتياطاته وإمكاناته وقدرته، وأنه يستطيع أن ينجو من قدر الله ، لا، الله -تبارك وتعالى- يفعل ما يشاء، ويحكم ما يُريد، وفي هذا حفز للنفوس على الثبات، والقيام بأمر الله ؛ ولهذا الآية التي بعدها: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:244] فإن ذلك لا يُقرب أجلاً، فهؤلاء فروا من الموت، فأدركهم الموت قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [سورة الجمعة:8] فلم يقل: فإنه يتبعكم، وإنما ملاقيكم وجهًا لوجه، تفر من الموت ويُقابلك، فلا يُقربه الشجاعة والامتثال لأمر الله ، ولا يُبعده الخوف والجبن والحذر، وما إلى ذلك، الأجل هو الأجل، تجد الرجل ربما يعمل احتياطات كثيرة جدًا إلى حد الوسوسة في طريقه، ومعاشه وشؤونه كلها، ومع ذلك قد يأتيه أجله من مأمنه، وقد يأتيه خوفه من الجهة التي أمنها.
وأيضًا في هذه الآية الكريمة: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فيه اختصار وإيجاز، وهذا من بلاغة القرآن فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا فماتوا، فما ذكره، فالقرآن يحصل به طي الكلام الذي يفهمه المخاطب ثقة بفهمه، ولا يحتاج أن يُذكر كما يذكر ذلك أهل البلاغة، ويذكره غيرهم.
فهذا ما يتعلق بهاتين الآيتين الكريمتين.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ برقم (2517) وحسنه الألباني.
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء، إلا أنزل له شفاء برقم (3436) وصححه الألباني.
- المجالسة وجواهر العلم (3/ 194)، (836).
- البيت للبيد في ديوانه (ص:30) والإتباع والمزاوجة (ص:36).
- البيت لكعب الغنوي، ديوان المعاني (2/ 178) والعقد الفريد (3/ 227).