بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) لما ذكر الله -تبارك وتعالى- خبر الألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا، ثم أحياهم، وبيَّن أن الفرار من الموت والحذر لا يُنجي من القدر، أمر بعد ذلك بالقتال والإنفاق في سبيله، فالقتال في سبيل الله لا يُقرب الأجل، كما أن الإنفاق في سبيل الله لا يورث الفقر، فالله يقبض ويبسط.
ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- نبيه ﷺ عن حال طائفة من بني إسرائيل، طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكًا من أجل أن يُقاتلوا في سبيل الله، فقال لهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [سورة البقرة:246] فكان يتوقع منهم التراجع، فأجابوه بأنهم عازمون على القتال وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ [سورة البقرة:246] إلى آخر ما ذكر الله من خبرهم، فهذه الآيات فيها من العِبر والعظات الشيء الكثير، ولكن يُؤخذ من مُجملها -قبل أن نتحدث عن تفاصيل هذه الهدايات: أن الناس قد يطلبون شيئًا، ثم بعد ذلك يتراجعون، وهذا يقع في الأمم، ويقع أيضًا في الأفراد، سواء كان ذلك في القتال في سبيل الله -تبارك وتعالى، أو في غيره.
وقد عاتب الله أصحاب النبي ﷺ حيث كانوا يسألون عن أحب الأعمال إلى الله، ويتمنون لو أنهم عرفوا ذلك، فلما أُخبروا أنه الجهاد تثاقلوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [سورة الصف:2-4] فالآيات نزلت في هذا.
وكذلك قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [سورة النساء:77] هذا قبل فرض القتال في هذه الأمة، فكانوا يُطالبون بذلك، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ كانت النتيجة هي التثاقل أيضًا، رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ وطلبوا التأخير والإمهال، فهذا من طبائع النفوس في كثير من أحوالها، قد يطلب الناس قتالاً لعدوهم، ويتذمرون من تأخير ذلك، وحينما يقع هذا المطلوب، ويرون تبعات هذا القتال من نقص في الأموال، وما إلى ذلك، يبدأ هؤلاء الناس يستثقلون هذا الأمر، ويرون أنه من البلاء الذي نزل بهم، ويتمنوا لو أنه لم يقع، كنتم قبل ذلك تُطالبون به وتُلحون، قائلين: لماذا يُترك هؤلاء الأعداء يعيثون في الأرض فسادًا؟ ثم بعد ذلك لما يتحقق هذا المراد، ويفرحون به، ويطربون لأول وهلة، فإذا رأوا تبعات ذلك استثقلوه، وهذا تجده شاخصًا في زماننا هذا، ماثلاً أمام الجميع، وتجده في كل زمان.
وهكذا قد يُطالب الناس بأشياء من مجالس العلم والدروس العلمية، ونحو ذلك، فإذا وجدت تجد هذا الذي يُلح ويُطالب ويُكرر ويُعيد هو أول من يتأخر عنها ويتراجع.
ولاحظ هذا التساقط الذي حصل لبني إسرائيل منذ البداية، أكثروا على نبيهم في أن يبعث لهم ملكًا، فلما أُخبروا أنه طالوت اعترضوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [سورة البقرة:247] فبدأوا يطبقون عليه المعايير التي يقيسون بها الناس، ونسوا عما هو أهم من ذلك، فهذا أول التراجع والاضطراب والوهن، ثم بعد ذلك ابتلوا بالنهر، فشرب منه أكثرهم، ولم يبق إلا القلة فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [سورة البقرة:249] فكانت النتيجة أن الأكثرين شربوا، ثم بعد ذلك لما حصلت المواجهة قال كثير من هؤلاء: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ فمن الذي بقي في النهاية؟ هم الفئة القلة القليلة من هذا العدد الكبير، بقي مجموعة، ورد أنهم على عدد أهل بدر، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وهؤلاء هم الذين حصل على أيديهم النصر.
فيُؤخذ من هذا -أيها الأحبة- أن المرء ينبغي ألا يدخل ولا يلج في أمر، ولا يطلب شيئًا، إلا وقد تهيأ له، وعرف قدرته عليه، وأنه جاد في مطلبه، وأنه قادر على النهوض بذلك، وتحمل الأعباء والتبعات، لا بد من هذا، أما أن يكون ممن يتساقط في أول عقبة، أو يصطنع العقبات لأجل أن يتراجع، فهذا أمر لا يليق، ويوجد من الأمثلة والشواهد في التاريخ القديم والحديث أشياء لا يخلو بعضها من ظَرَف، وهي تُعد من هذا الاتجاه، وهو التساقط.
من ذلك ما يُذكر في تاريخ الشريف في مكة إبان حكمه لها، ذُكر أن بقرة للشريف تجوب السوق، وكانت تأكل مما شاءت من الخضروات والفواكه والبقول وغيرها، وتُفسد على الناس سوقهم، فكثُر التذمر بين أهل السوق، وتطاولت عليهم الأيام، فبدأ هذا الصوت يرتفع، وبدأت النجوى بينهم، وبدأوا يتحدثون، وأن الشريف لا يعلم بذلك، ولو علم لم يرضَ به، فقوي عزمهم على أن يذهبوا إليه، وأن يُكلموه في شأن هذه البقرة، وأن يكفها عن أهل السوق، فجعلوا أجرأهم مقدَمهم -قدموه- وأخذ عليهم العهد والميثاق أن لا يتراجعوا فأكدوا له أنهم ماضون في هذا السبيل، فاجتمع أهل السوق، وجعل هذا يمشي متوجهًا إلى الشريف، وهؤلاء يمشون خلفه، وهو لا يلتفت، فاستأذن عليه، فأذن له، فدخل، وهؤلاء كان كل واحد يُحدث نفسه فيقول: هذا الفعل لا فائدة فيه، ثم يرجع الواحد بعد الواحد، بعد أن كانوا يُحلون ويُطالبون به، فصار هؤلاء يتراجعون، ويتتابعون على هذا التراجع، حتى لم يبق معه أحد، وهو لا يشعر؛ لأنه لم يلتفت، فدخل فلما وقف بين يديه، قال له: ما حاجتك؟ فقال: هؤلاء أهل السوق فلم يجد أحدًا، فعرف أن هؤلاء تكسرت إراداتهم قبل الوصول إليه، وأنهم تراجعوا، فلما شعر أنهم قد خذلوه، وأنهم نكثوا ما عاهدوه عليه، قال: هؤلاء أهل السوق يقولون: إن هذه البقرة -بقرة الشريف- التي في السوق بحاجة إلى ثور، يُسليها، فهي وحدها تتجول، أراد أن يفعل ذلك نكاية بهم، فتعجب الشريف، وأن هذا المطلب غير معقول، فسأله عن ذلك، فأخبره الخبر.
فهذا مثال لا يخلو من ظَرَف، لكنه يدل على حال كثير من الناس، فهم يُطالبون بشيء، ثم بعد ذلك يتراجعون، الواحد بعد الواحد، فهذا على كل حال فيه عبرة.
أرى أن نتوقف عند هذا؛ لأن الحديث عن الآية الأولى يتطلب بعض الوقت، ولم يبق من الوقت إلا اليسير، فلعل هذا يكفي، كمقدمة للحديث عن هذه الآيات.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.