بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى- في هذا السياق الذي قص الله -تبارك وتعالى- فيه خبر الملأ من بني إسرائيل الذين قالوا لنبي لهم: إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سورة البقرة:246].
قال الله -تبارك وتعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:248].
لما أخبرهم أن الله قد بعث لهم طالوتَ ملكا قال إن علامة ملكه: أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ، والتابوت هو الصندوق، قيل: الذي كانوا يضعون فيه التوراة، وقد ذكر بعضهم أن أعداءهم انتزعوه منهم.
وبعضهم يقول: فيه غير ذلك.
بعضهم يقول: فيه بعض الآثار التي تركها موسى والعلم عند الله ، لكن الله -تبارك وتعالى- قال: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، السكينة من السكون بمعنى الطمأنينة التي يحصل بها تثبيت القلوب، وفيه أيضًا بقية أشياء تركها آل موسى وآل هارون، قيل: العصى، وقيل: أشياء أخرى، الله أعلم بها، لكن الله قال: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ، وآل موسى وآل هارون قد يُطلق ويُراد به موسى وهارون، فذلك كما قال الله : أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46]، يعني: فرعون، فالآل يُطلق على الرجل نفسه، ويُطلق أيضًا على أهل بيته، ويُطلق أيضًا على أتباعه.
قال: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ، برهان على هذا الاختيار اختيار طالوت ملكًا عليكم بأمر الله إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، فأعلمهم باختيار الله وذكر لهم برهان ذلك أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فيه ما ذُكر.
يؤخذ من هذه الآية: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، فالانتفاع بالآيات يكون مع كمال الإيمان، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، كما قال الله عن القرآن: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2]، فهو هدى، لكن الذين ينتفعون بهذا الهدى هم المتقون، فبقدر ما يتحقق من التقوى يحصل الانتفاع بهذا الهدى، كذلك الآيات: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ.
ثم قال الله : فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:249].
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ، يعني: خرج بالجنود، سار بهم لقتال عدوهم، أخبرهم بأن الله سيمتحنهم ويبتليهم على صبرهم وثباتهم بنَهر فمن شرب منه فهذا لا يكون تابعًا له: فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، غُرفة واحدة فلا لوم عليه، فلما بلغوا ذلك النهر تهافت أكثرهم على الشرب منه، وانقطع صبرهم ثم لم يبق معه إلا القليل الذين اكتفوا بغرفة أو لم يطعموا من هذا النهر وصبروا على العطش، حينئذ سار طالوت بمن معه ثم واجهوا عدوهم، فقالت فئة من هؤلاء: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ، رأوا كثرتهم فجبُنوا عن قتالهم، فأجابهم آخرون وهم قلة قليلة من أهل الإيمان: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ، يعني: الذين يوقنون، والظن يُقال: لليقين، كما قال الله : الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:46]، يعني: يستيقنون.
وهكذا في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [سورة الكهف:53]، يعني: علموا وأيقنوا، وقد يأتي الظن بمعنى الشك أو التخمين ونحو ذلك، وهذا الذي جاء ذمه في القرآن: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [سورة النجم:23].
فالشاهد أن هؤلاء هم الذين الفئة القليلة الصابرة هم الذين ثبتوا وأجابوا أولئك بقولهم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، يؤيدهم ويوفقهم ويثبتهم وينصرهم على عدوهم.
يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ، جاء هذا الابتلاء في هذه القضية وهي الشرب من هذا النهر امتحانًا للنفوس؛ لأن الذي لا يصمد أمام متطلبات النفس ويثبت فإنه سرعان ما ينهزم وينكسر أمام العدو، ومثل هؤلاء لا يؤسف عليهم ولا على تخلفهم؛ لأنهم لو جاءوا لم يحصل بمجيئهم كبير دفع ولا نفع، كما قال الله عن المنافقين: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [سورة التوبة:47]، يشيعون الأراجيف والفتن والإفساد، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، فهؤلاء كما قال الله : وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [سورة التوبة:46]، فهنا الذي لا ينتصر على شهوته لا يثبت أمام عدوه ولا ينتصر في ميدان المعركة، كذلك يؤخذ من هذه الآية أن القائد يمنع المخذلين والمرجفين ومن لا يصلح للحرب ممن يكون مجيئه سببًا للخذلان والهزيمة فهؤلاء يُستبعدون.
إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [سورة البقرة:249]، هذا الابتلاء لهم قال بعض أهل العلم: ذلك باعتبار أنه كان مشهورًا في بني إسرائيل أنهم يخالفون الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات، فأراد الله -تبارك وتعالى- إظهار علامة قبل لقاء العدو يتميز بها من يصبر في الحرب ومن لا يصبر؛ لأن الرجوع قبل المواجهة أسهل من الرجوع عند المواجهة، ولذلك كان الفرار يوم الزحف من الموبقات، السبع الموبقات[1]؛ لأنه يفت في الأعضاد ويتسبب في هزيمة الجيش، فهؤلاء يرجعون من أول الطريق خير من أن يتراجعوا عند مواجهة العدو.
وذكر بعض أهل العلم أن الله ابتلاهم بهذا النهر من أجل أن يتدربوا على الشدائد والصبر والتحمل واحتمال العطش قبل مواجهة عدوهم فتكون نفوسهم قد تدربت وتهيأت وتروضت على الصبر.
كما يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن اليقين بمعية الله -تبارك وتعالى- ولقاءه: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ، هذا هو الزاد الضروري الذي يحتاجه أهل الإيمان من أجل أن ينتصروا على عدوهم، من أجل ألا تقع الهزيمة، من أجل ألا يحصل اليأس والخذلان: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة البقرة:249].
ويؤخذ منه ضرورة التصبير والتثبيت والجيوش في العصر الحديث هناك جهات خاصة ترتبط بها تقوم على الجوانب النفسية، تقوية معنويات الجنود، فهؤلاء قالوا لهم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وهذا أيضًا يُحتاج إليه من وجه آخر وهو بث التفاؤل في النفوس، وكذلك أيضًا أن النصر ليس بمجرد الكثرة والله يقول: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا [سورة التوبة:25]، بل لما ذكر مدد الملائكة قال في سورة الأنفال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال:10]، وفي سورة آل عمران وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:126]، فالنصر من الله وحده، وله متطلباته التي لابد من تحققها.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية أن الإيمان يبعث على الصبر: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ [سورة البقرة:249]، فهذا اليقين هو الذي حملهم على الصبر والثبات.
ومن حكمة الله في هذا الخلق أن يميز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من غيره، فالله لا يترك العباد على دعواهم أو أمانيهم، وإنما يبتليهم ويُمحصهم فتتميز الصفوف.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، بحسِ هؤلاء الذين يظنون أنهم ملاقوا الله أن تكون الفئة المؤمنة قليلة وذلك أنها هي التي تصعد والصعود شاق فيتساقط كثيرون دونه دون الوصول إلى النهاية والقمة، فتبقى هذه الفئة القليلة وهم أهم الاختيار والاصطفاء، ثم يكون الفتح على أيديهم، والنصر والغلبة، وذلك أن هؤلاء يتصلون بمصدر القوة الحقيقية وهو الله -تبارك وتعالى.
ويؤخذ من هذه الآية أن العزائم الفاترة والنفوس الضعيفة والمقاصد الفاسدة تمنع من بلوغ المطالب العالية، وتقعد بأصحابها عن نيل المرام وبلوغ النصر، فيتراجعون ولو كانوا كثيرا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، الفئة الكثيرة غلبتها الفئة القليلة؛ لسوء أحوالهم، لسوء أعمالهم، لسوء مقاصدهم، لسوء عقائدهم، فهؤلاء لا عبرة بكثرتهم، ومن هنا كان ينبغي تفقد الحال، ومراجعة النفس، وإصلاح المقاصد والنيات والأعمال، كما قال أبو الدرداء : "إنما تقاتلون بأعمالكم"[2]، ولما هُزم المسلمون في يوم أُحد وتساءلوا: أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [سورة آل عمران:165]، فكما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بأن هذه المعاصي هي جنود وكتائب يُجيشها العاصي على نفسه فتغزوه[3].
ثم أيضًا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً، هؤلاء كانوا يُدركون ضعفهم المادي، وقلتهم، ومع ذلك كانت ظنونهم بالله حسنة، هكذا ينبغي أن يكون المؤمن أن يُحسن الظن بالله ، فالله لا يخذل أولياءه.
هذا وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا، إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10]، برقم (2766)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (89).
- ذكره البخاري معلقا في صحيحه (4/ 20)، كتاب الجهاد والسير، باب عمل صالح قبل القتال.
- انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 75).