بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة سورة البقرة: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [سورة البقرة:253].
تِلْكَ الرُّسُلُ، هؤلاء الرسل الكرام ممن قص الله -تبارك وتعالى- خبره في هذه السورة الكريمة، أو ممن أعلم بهم نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم، فضّل الله بعضهم على بعض بحسب ما من به عليهم، فمنهم من كلمه كموسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام.
مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ومنهم من رفعه الله درجات عالية وكثير من المفسرين يقولون المراد بذلك محمد ﷺ حيث فضله الله ورفع درجته آتِ محمد الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته[1]، فرفعه الله -تبارك وتعالى- فوق جميع الخلق.
ومنهم من يقول: المراد بذلك إدريس لقوله: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [سورة مريم:57].
ومنهم من يقول: إن ذلك لا يختص بفرد منهم ولكن الله رفع بعضهم درجات كما رأى ذلك النبي ﷺ في ليلة المعراج، رآهم يتفاضلون ويتفاوتون في الدرجات والسماوات، ولا شك أن النبي ﷺ أرفع الأنبياء درجة، وكذلك أيضًا رفع الله -تبارك وتعالى- إدريس مكانًا عليا، فالحاصل أن النبي ﷺ أعطاه الله وأولاه وخصه بخصائص لم تُعط لأحد من الأنبياء قبله، كانت رسالته عامة، وخُتم به النبيون، وفُضلت هذه الأمة على جميع الأمم، إلى غير ذلك.
كذلك عيسى أعطاه الله البينات الواضحات، والدلائل الباهرات التي تدل على صدقه وصحة ما جاء به كإبراء الأكمه، والأكمه قيل: هو الذي يولد وهو أعمى، وكذلك أيضًا إبراء الأبرص، وإحياء الموتى، كل ذلك بإذن الله -تبارك وتعالى، فكان يمسح على ذي العاهة فيبرء بإذن الله، وكذلك أيده بروح القُدس جبريل .
ثم قال الله -تبارك وتعالى: ولو شاء الله ألا يقتتل الذين جاءوا من بعد هؤلاء الرسل الكِرام لما وقع ذلك القتال، ولكن كل شيء بإرادته ومشيئته وفق حكمته البالغة، فشاء الله أن يقتتلوا وكان السبب الظاهر في ذلك هو ما ذكره الله -تبارك وتعالى: وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا، وقع الاختلاف بينهم: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ، بعد ما وقع بينهم من الاختلاف الموجب للاقتتال ما اقتتلوا؛ ولكن الله يوفق من يشاء إلى طاعته والإيمان به ويخذل من يشاء فيكفر، فهو يفعل ما يشاء ويختار، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ أراد الله وقوع هذا الاختلاف بين الخليقة، وأراد وقوع هذا الاقتتال منذ زمن بعيد، منذ أن وقع الشرك والكفر في قوم نوح، الصراع بين الحق والباطل مستمر لا يتوقف.
يؤخذ من هذه الآية من الفوائد والهدايات: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فهنا قال: تِلْكَ، ما قال أولئك الرسل فضلنا بعضهم على بعض؛ لأنه هنا تِلْكَ الرُّسُلُ الرسل جمع لكنه بمعنى الجماعة فجاء بتلك، فما قال: أولئك التي تستعمل مع الجمع، فكأنه قيل: تلك الجماعة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فضلنا بعضهم على بعض، ثم أيضًا الإشارة إلى البعيد تِلْكَ الرُّسُلُ، إما للبُعد الزماني فيما بينهم وبين النبي ﷺ فهو آخرهم وبينه وبين آخرهم وهو عيسى ما يقرُب من 600 سنة فهذه مدة طويلة، أو بأن ذلك باعتبار علو المرتبة والدرجة فأشار إليهم بالبعيد تلك الرُسل لعلو مرتبتهم ورفيع درجتهم فجاء التعبير بذلك، و"ال" في الرسل تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ للاستغراق، تِلْكَ الرُّسُلُ جميع الرُسل، أو تلك الرسل الذين قص الله خبرهم في هذه السورة كما سبق، أو تلك الرسل الذين أعلمك الله بأخبارهم فضل بعضهم على بعض.
وهنا: فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، فأفضلهم النبي ﷺ، وكلمه الله أيضًا مع موسى ، وكذلك أيضًا رفعه ﷺ على جميع الأنبياء والمرسلين لكنه أبهم ذكره هنا، أبهم ذكره، بعض أهل العلم يقولون: هو المراد بقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ.
ومن أهل العلم من يقول بأن ذلك عام كما رآهم النبي ﷺ ليلة المعراج يتفاوتون في الدرجات، وهذا الرفع لاشك أنه متحقق في النبي ﷺ فمن حمله على النبي ﷺ قال إنه أبهمه هنا ولم يُصرح به وذلك أفخم؛ لكونه قد عُرف بهذا التفضيل، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ معروف الذي رُفع فوق جميع الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام، فالإبهام في مقام يُعلم فيه المُبهم يكون أفخم وأعظم وأكثر في التنويه بشأنه، كأنه لا يشتبه ولا يلتبس يتبادر إلى الأذهان مباشرة، فهذا أعظم من التصريح، ثم إن قوله -تبارك وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
فهذا الفضل والتفضيل يؤتيه الله -تبارك وتعالى- من يشاء، فإذا كان واقعًا بين خواص خلقه وهم خيار الخلق الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فُضل بعضهم على بعض، وقد فضلوا جميعًا على أصناف بني آدم ومع ذلك هم يتفاضلون، فكيف بالتفضيل الذي يقع بين الخلائق في الآخرة، وهكذا التفضيل الذي يقع بين الناس في هذه الحياة الدنيا، خواص الخلق يتفاضلون، فالتفاضل الذي يكون مع غيرهم أولى وأكثر، الله -تبارك وتعالى- يقول في العطاء الدنيوي: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [سورة الإسراء:21]، يعني: هذا التفاضل في الدنيا في العطاء هذا غني وهذا فقير، وسُخر هذا لهذا، وهذا لهذا، ويحصل بينهم في هذه الحياة الدنيا من الحسد والبغضاء والتشاحن بسبب هذا التفاوت في العطاء إلا من وفقه الله وهداه وأصلح قلبه وأشغله بذنوبه، وبما ينفعه ويرفعه ويصلحه كما نُشاهد حيث تتوجه همم أكثر الناس إلى هذه الدنيا، ولربما اشتغل بما أُعطي الآخرون ما أُعطي غيره فيقع الحسد بين الناس بسبب ذلك، إذا كان هذا التفضيل في الحياة الدنيا فما بالك بالتفضيل الحاصل في الآخرة.
فعن أبي سعيد الخدري ، عن النبي ﷺ قال: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق، من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم[2]، الكوكب البعيد، كما يبعد عنا الكوكب البعيد، هذا أهل الجنة يتفاضلون، أهل الجنة يرون أصحاب الدرجات العالية كما نرى نحن الكوكب الغابر في الأُفق، كم يبعد عنا الكوكب الغابر في الأُفق؟!
إذًا كم بين درجات الجنة، وأصحاب الدرجات العالية، فهذا التفاضل هو التفاضل الحقيقي، هو التفاضل الذي ينبغي أن تتصوب إليه الهمم، وتتوجه إليه العزائم، وأن يشتغل الناس بما يوصل إليه، أن يسعى بأن يكون ممن له الدرجات العُلى وهذا يحتاج إلى همم عالية وأعمال وصبر ومجاهدة، أما القعود عن العمل الصالح والميل مع النفس ومتطلباتها وأهوائها وشهواتها فهذا لا يورث الفلاح، وإنما ذلك يجعل صاحبه في درجات.
ويوم القيامة سماه الله -تبارك وتعالى- بيوم التغابن، التغابن الحقيقي يحصل هنا، الناس يحصل بينهم غبن في الدنيا يبيع سلعة فيُغلب، يبيع عقارًا فيُغلب، يشتري سلعة فيُغلب، ويندم إذا علم بذلك، ولكن التغابن الحقيقي في الآخرة، وقد ذُكر عن الحسن -رحمه الله- قال: "بلغنا أن التغابن في ثلاثة وذكر منها: ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي"[3]، فهذا الرجل المملوك الذي أدى حق الله وحق سيده دخل الجنة، والسيد لم يحصل منه إيمان ولا عمل صالح فدخل النار، فالمملوك دخل الجنة، والسيد دخل النار، فهذا من أعظم التغابن.
الثاني: ذاك الذي ورث المال فأنفقه في طاعة الله، والذي جمعه من حِل أو حرام حبسه ولم ينفقه في مرضات الله فدخل النار، والذي ورثه من غير كد ولا تعب وأنفقه في طاعة الله دخل الجنة"، هذا غبن، ذاك يجمع ويدخل النار بالمال، وهذا يأتيه من غير تعب ويدخل الجنة، وهكذا، هكذا يحصل التغابن في صور كثيرة.
وقد ذكرت منها في بعض المناسبات ما يحصل من التغابن بين أهل الجنة وأهل النار، فأهل الجنة يتوارثون منازل أهل النار التي في الجنة، وأهل النار يتوارثون منازل أهل الجنة التي في النار، وشتان ما بين هؤلاء وهؤلاء، كل أحد يقَدم على الله -تبارك وتعالى- ببضاعته، وقد أعطاه رأس المال الذي هو هذه الأنفاس فمن الناس من جد واجتهد في العمل بطاعة الله، ومنهم من جد واجتهد في المعاصي، ومنهم من ضيع الزمان في طلب الدنيا وحطامها فوق حاجته حتى أدركه الموت، فلما قدِم القيامة فلم يُنفق هذا المال في طاعة، وإنما كان حارسًا عليه واشتغل العمل المديد في جمعه وفي تحصيله وإحرازه وتثميريه، ثم بعد ذلك قدِم على الله قدوم المفاليس، الآخرة تحتاج إلى عمل، وهذه الدنيا مهما طالت فهي قصيرة.
كذلك أيضًا هؤلاء الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- يتفاضلون، يتفاضلون في الكتب المنزلة عليهم وأعظم هذه الكتب القرآن، ومن أعظم الكتب التوراة، والقرآن أعظم منها جميعًا، وتارة في الآيات والمعجزات الدالة على صدقهم، وتارة في شرائعهم، فأكمل الشرائع هي هذه الشريعة، وأكمل الآيات هو هذا القرآن الذي بقي على مدى الدهور والتحدي به قائم، أما آيات الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فقد انقضت ومضت فهي خبر يؤمن أهل الإيمان، ولكن القرآن آية شاهدة، والتحدي به قائم.
وهكذا ما هم عليه من العلم والعمل والجهاد، ونحو ذلك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[4].
قال: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، لاحظ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا، الضمير للمتكلم، بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، فجيء بالغائب، وَرَفَعَ أي: الله، بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، قال: وَآتَيْنَا بالمتكلم، وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ المتكلم، فهذا يسمونه التفات، فهذا الالتفات من المتكلم: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا هذا للمتكلم، بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ هذا للغائب، ثم للمتكلم: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ، فهذا يُنشط السامع، وهو ضرب من البلاغة، لكن في هذا الموضع حينما التفت من المتكلم إلى الغائب: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ فهذا أفخم، وأعظم، وأبلغ، كَلَّمَ اللَّهُ تكليم الله ليس بالشيء السهل، وإظهار لفظ الجلالة هنا أبلغ مما لو قال: (منهم من كلمنا)، ثم تعاقب هذه الضمائر جميعًا بضمير المتكلم قد يكون مستثقلاً لدى السامع فجاء بهذا التفاوت والالتفات فانتقل من المتكلم إلى الغائب، ثم أخرى إلى المتكلم.
كذلك أيضًا حينما قال: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، جاءت الجملة التي بعدها بالتفصيل بعد الإجمال مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ، ما هذا التفضيل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ؟ قال: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، كل هذا من التفضيل، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فهذا تفصيل بعد الإجمال المذكور في الجملة الأولى.
كذلك أيضًا ذكر الخاص بعد العام لما قال: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، فجاء بهذا التخصيص، يعني: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ هذا إشارة إلى موسى مع محمد -عليه الصلاة والسلام، ولما صرح بذكر عيسى كان ذلك أيضًا كله يدخل في ذكر الخاص بعد العام.
بعض أهل العلم يقولون: إنه خص موسى وعيسى -عليهما السلام- بالذكر وبدء بوصف موسى؛ لأن آيات موسى كانت أكثر، هكذا قال بعض أهل العلم، ولأن أكثر هذه السورة سورة البقرة في بني إسرائيل، وأكثر ذلك كان في سياق يُذكر فيه أتباع موسى ، ثم ثنى بعيسى باعتبار أنه من جملة أنبياء بني إسرائيل، ولأنه آخر الأنبياء من بني إسرائيل قبل النبي ﷺ، وفيه رد على اليهود الذين كذبوه واتهموه بأقبح التهم، واتهموا أمه -رحمها الله- فجاء التنويه به، ولذلك تلاحظون دائمًا في القرآن إذا ذُكر عيسى لا يكاد يُذكر إلا منسوبًا إلى أمه عيسى بن مريم، أما باقي الأنبياء يقال موسى، إبراهيم، وصالح، وهود، ونوح -عليهم الصلاة والسلام، عيسى يقال: ابن مريم، فهذا فيه رد على اليهود وتذكير بالمعجزة حيث إنه ولد من غير أب، وكذلك التنويه بذكره وذكر أمه أيضًا التي اتهمت بتهمة قذرة فذُكر اسمها في القرآن، وذلك في عامة المواضع التي يُذكر فيها عيسى ، فمعجزات هؤلاء الأنبياء أيضًا هي من أقوى وأظهر المعجزات، فبعض أهل العلم يقول: خصهما لذلك.
كذلك أن أُمم هؤلاء موسى وعيسى -عليهما السلام- كانت حاضرة شاهدة موجودة، اليهود، والنصارى، لكن أمم الأنبياء السابقين قد ذهبوا وتلاشوا، واستؤصل من استؤصل بالعقوبات العامة، فخُص هؤلاء بالذكر -والله تعالى أعلم.
وخص عيسى بالبينات مع أن البينات آتاها الله سائر الرسل -عليهم الصلاة والسلام، بعضهم يقول: في هذا تنبيه بقُبح أفعال اليهود حيث أنكروا نبوة عيسى مع ظهورها ووضوحها، وأنها كانت مقرونة بالآيات الواضحات والبراهين الساطعات فجاء مقيدًا بذلك -والله تعالى أعلم.
وفي هذا إظهار لفضل النبي ﷺ؛ لأن الذي أعطيه النبي ﷺ فوق ما أعطيه سائر الأنبياء كما هو معلوم.
كذلك أيضًا يؤخذ منه أن تكليم الله للإنسان يُعد رفعة له كما لا يخفى مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، فذكر ذلك على سبيل الإطراء والثناء.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء، برقم (614).
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3256)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف، كما يرى الكوكب في السماء، برقم (2831).
- تفسير القرطبي (18/ 137).
- انظر: انظر: مجموع الفتاوى (7/ 538)، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (6/ 494).