بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة البقرة:254].
هذا خطاب لأهل الإيمان بالإنفاق مما رزقهم الله -تبارك وتعالى- وذلك يشمل الزكاة المفروضة والصدقات التي يتطوع بها صاحبها، فهو حث على الإنفاق مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ، وذلك يوم القيامة، لا يكون فيه بيع، لا يكون فيه ربح، ولا مال تفتدون به أنفسكم من عذاب الله -تبارك وتعالى، ليس هناك خُلة صداقة يمكن أن تُنقذ من عذاب الله ولا شفاعة شافع يمكن أن يتوسط فيتخلص الإنسان من النار أو يُخفف عنه من عذابها، وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، الذين وضعوا العبادة في غير موضعها، وأوقعوها في غير موقعها، صرفوا شكر النعمة إلى غير المُنعم.
يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا، أن الإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى- من مقتضيات الإيمان، خاطب المؤمنين بهذا: أَنفِقُوا فإن إيمانكم يقتضي إنفاقكم، كذلك أيضًا خاطبهم بوصف الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باعتبار أن هذا الإيمان يكون سببًا للاستجابة لله -تبارك وتعالى- حيث أذعنت قلوبهم له وانقادت، فإن هذا الإيمان يحمل صاحبه على الطاعة والانقياد لربه ومولاه فخاطبهم بهذا الخطاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
كذلك أيضًا في هذا الموضع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي أعطى وأولى ورزق، ثم يدعوا عباده بعد ذلك إلى الإنفاق وذلك يدل على أن العبد ينبغي أن يستشعر أنه لا مِنة له في هذا الإنفاق، أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ، فهذا رزق الله -تبارك وتعالى، هو الذي أعطى وتفضل فيدعوك إلى الإنفاق مما أعطاك مما رزقك، فلا فضل للعبد، ومن ثَم فإن هذا العمل لا يصح بحال من الأحوال أن يورثه العُجب والغرور والتعاظم والتعالي بل عليه أن يحمد الله على أن وفقه لهذه النفقة، لا حاجة إلى أن يُنفق الإنسان ثم يُعلن هذا الإنفاق للناس من غير حاجة، فإذا وفق الله العبد إلى شيء من البذل فينبغي أن يُخفيه فيكون ممن أنفق النفقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه، من شدة الإخلاص والإخفاء فإن الله -تبارك وتعالى- يعلم ذلك والتعامل معه، ويجزي عليه أفضل الجزاء: أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ فهذا من رزق الله -تبارك وتعالى.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذا الموضع أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مما، أنه لا يُطلب إنفاق كل المال وإنما يُخرج بعضه في الزكاة، المقادير التي حددها الشارع، زكوات الأموال الذهب والفضة ونحو ذلك، بما يكون بنسبة 2. 5% رُبع العُشر، فهذا شيء يسير، وهكذا فيما حده الشارع في ألوان الأموال الزكوية من الزروع والثمار، وكذلك أيضًا مثل: بهيمة الأنعام، فهو شيء يسير.
ثم أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ فهذا يدل على أن ما يحصله الإنسان هو رزق من الله -تبارك وتعالى، فالإنسان لا يُحصل هذه الأموال والمكاسب والأرباح والثروات بذكائه ومهارته وحذقه، فلا يصح أن يُضيف ذلك إلى نفسه على سبيل التعاظم كذاك الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [سورة القصص:78]، فالمؤمن بخلاف ذلك، العمل والسعي والضرب في الأرض وألوان المزاولات كل ذلك أسباب، لكن الرزق حقيقة إنما هو من الله -تبارك وتعالى.
فقد يذهب الإنسان ويكدح ويقضي وقتًا طويلاً من أول النهار إلى آخر النهار ولا يرجع بشيء كما هو مُشاهد، سواء كان ذلك في تجارة بيع وشراء، أو كان ذلك في شيء من الحِرف قد يصنع أشياء ولكنها لا تُشترى منه، قد يدخل البحر ولا يصيد، وقد يصيد ولا يُشترى منه ذلك اليوم، قد يزرع ولا يخرج الزرع، وقد يخرج ولا يخرج الحب أو الثمر، وقد يخرج الحب أو الثمر وتأتي الآفة فتأتي عليه فتفسده، وقد يُحصد ولكنه يكون كاسدًا، فهذا كله من الله -تبارك وتعالى، قد يفتح الإنسان متجرًا بلون من ألوان التجارات ولكنه يخسر، يستأجر هذا المكان، يؤثث هذا المكان يبذل الأموال فيه، ولربما يقترض، ثم بعد ذلك لا يرجع بشيء خسارة وديون، وهكذا، فالرزق من الله، ومن ثَم فلا يصح بحال من الأحوال أن الإنسان يغتر بما يحصل في يديه، أو يبخل به، الكسب سبب هذا لا يُنكر، ولابد من هذه الأسباب، ولكن المُسبب هو الله -تبارك وتعالى.
هذا الغني وهذا الفقير بأي شيء صار هذا من أهل الثراء والغنى وبأي شيء صار هذا من أهل الفقر، قد يكون هذا الفقير أذكى بكثير من هذا الغني وأجلد وأقوى جسدًا، وأعلى همة، وأكثر نشاطًا، وقد يكون هذا الغني في غاية الضعف والخمول والكسل وقلة الحيلة ومع ذلك تأتيه أنواع المكاسب والأموال فهذا رزق الله -تبارك وتعالى- قسمه بين العباد، فإذا دعا عباده إلى الإنفاق فينبغي أن يستجيبوا ويُبادروا مستشعرين أن المنة من الله -تبارك وتعالى: أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ، ولا يستشعر أن هذه النفقات مقطوعة من قلبه كما ذكر الله -تبارك وتعالى- في صفة المنافقين من الأعراب: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [سورة التوبة:98]، فهو يشعر أنها غير مخلوفه.
وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية من قوله -تبارك وتعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ، الحث على المبادرة والإسراع بالإنفاق واغتنام فرصة العُمر قبل فوات الأوان طالما أنه في وقت الإمكان، وإلا فقد تقوم قيامته بموته، وقد تقوم القيامة ثم بعد ذلك أيضًا لا يستطيع أن يتصدق ولا يستطيع أن ينفع نفسه، فالنبي ﷺ أخبر عن سرعة قيامة الساعة وذكر: الرجلين ينشران الثوب بينهما، فلا يحصل هذا البيع هذا لا يبيع وهذا لا يشتري ولا يطويانه[1]، الساعة تأتي بغتة، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ [سورة البقرة:254]، إذا انقطعت عنه هذه الأمور التي يمكن الخلاص بها فمعنى ذلك اليأس الكامل من التدارك، لا بيع ولا خُلة ولا شفاعة، هناك لا يوجد كسب، وكل أحد مشغول بنفسه: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [سورة المعارج:10]، يُبَصَّرُونَهُمْ [سورة المعارج:11]، يراه ولكنه لا ينفعه في قليل ولا كثير، كل مشغول بنفسه، ولا أحد يشفع لأحد حتى يأذن الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك بالشفاعة فيأذن للشافع والمشفوع وللشفاعة نفسها، وهذه لا تكون للكفار، كما قال الله : وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا لا أحد يُغني عن أحد، وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ يعني: كونه أنه يفتدي بغيره أو يفتدي بمال، وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48]، لا أحد يستطيع أن يُخلصه بالقوة، هذه كل الوجوه التي يمكن عن طريقها الخلاص فقد نفاها، وهذه الشفاعة المنفية هنا: وَلَا شَفَاعَةٌ يعني: الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار.
وهنا أيضًا يؤخذ من هذه الآية من قوله تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، ما يُشعر أن هذه الشفاعة المنفية هي الشفاعة التي تكون للكفار، كما قال الله : فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [سورة المدثر:48].
وقوله -تبارك وتعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فجاء هنا بهذه المؤكدات، وَالْكَافِرُونَ هُمُ، فجاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام، يعني: ما قال: (والكافرون ظالمون) وإنما قال: وَالْكَافِرُونَ هُمُ مما يقوي النِسبة نِسبة هؤلاء إلى الظلم، وكذلك دخول "ال" على الظالمين فقال: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ فهذا يُشعر بالحصر، يعني: كأنه لا ظالم إلا هم، وكذلك أن هؤلاء قد استحقوا النصيب الأوفى والأعظم والأكبر من الظلم، يعني: كأنهم حصلوا الوصف الكامل في الظلم، تقول: هذا هو الكريم، هذا هو الجواد، تقول: هذا هو الصبر، يعني: الكامل الذي يستحق الإشادة.
فهنا وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، كأنه لا ظالم إلا هم؛ لأنهم قد اتصفوا بالظلم الأكبر كما قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13]، وذلك أن هذا المُشرك الله أعطاه وأولاه وأحسن إليه وأكرمه ورزقه ثم بعد ذلك يصرف الشكر إلى غير من أنعم عليه، فهذا أعظم الظلم، يضع العبادة لمن لا يستحق، فذلك ظلم عظيم، ولهذا قال: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يقول عطاء بن دينار -رحمه الله: "الحمد لله الذي قال: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ولم يقل: والظالمون هم الكافرون"[2]، وفرق بين المعنيين: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، لو قال: (والظالمون هم الكافرون) كان يكون ذلك فيه ما فيه من الحرج، وأكثر ما وعد في القرآن من وعيد الظالمين إنما هو متوجه إلى المشركين كما قال ذلك الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى[3].
هذا، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن ينتفع بالقرآن العظيم، وأن يجعله ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا -والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم بلفظ: تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة، فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم، والرجلان يتبايعان الثوب، فما يتبايعانه حتى تقوم، والرجل يلط في حوضه، فما يصدر حتى تقوم»، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة، برقم (2954).
- تفسير ابن كثير (1/ 671)، وتفسير القرطبي (3/ 268).
- انظر: فتح الباري لابن رجب (1/ 144)، وجامع العلوم والحكم ت ماهر الفحل (2/ 659).