بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة): أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259].
وقبل ذلك ذكر الله -تبارك وتعالى- خبر ذلك الذي حاج إبراهيم في ربه، أن آتاه الله الملك، فقال الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [سورة البقرة:258] ثم عطف عليه هذه الواقعة، والخبر العجيب، الدال على قدرة الله -تبارك وتعالى- على إحياء الموتى، وعلى البعث والنشور، فقرن بين هذين الخبرين أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ [سورة البقرة:258] أو رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أن آتاه الله الملك، هكذا يقول بعض أهل العلم في العطف، وقيل غير ذلك.
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يعني: كالذي مر على قرية، وقد تهدمت، وسقطت سقوفها، وحيطانها، فأصبحت خاوية على عروشها، والقرية حينما تكون بهذه المثابة، تكون خالية من السكان مهجورة، ولا تصلح للسُكنى؛ ولهذا بعضهم يُفسر خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يعني: قد خلت من أهلها، والواقع أن هذا تفسير له بلازمه، فإذا سقطت السقوف والحيطان، فمعنى ذلك أنه لا يوجد ساكن.
فهذا الرجل لما أتى على هذه القرية تعجب، فقال: كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها؟! فيحتمل أن المراد بـ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا أهل القرية، فأطلق القرية على الساكنين، وهذا إطلاق معروف في كلام العرب، فالقرية تُطلق ويُراد بها تارة المحل والموضع (موضع السُكنى) وهي البيوت والدور، وما يتبعها، وتارة تُطلق ويُراد بها الحال بالقرية، وهو الساكن فيها.
فهنا يسأل عن أهلها أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ هذه البلدة والقرية، وكلمة (أنى) تدل على تعجب واستبعاد، وهذا الرجل لا شأن لنا بتحديد شخصه؛ لأنه لم يرد، لكن قد يُحتاج إلى معرفة صفته، من أجل أن يُبنى عليه المعنى، فبعضهم يقول: هو مؤمن، بل قال بعضهم: هو نبي، فعلى هذا يكون هذا التعجب هو من باب الاستعظام، لا استبعاد قدرة الله ؛ لأن المؤمن لا يستبعد هذا، المؤمن يؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه قادر على إعادة الأجساد ثانية، وإحياء الموتى، فكان يقول ذلك على سبيل الاستعظام؛ لأن هذا في مجاري العادات أمر في غاية البعد، لكنه بالنسبة لله أمر يسير.
وبعضهم يقول: كان هذا الرجل من الكفار، وأن قوله هذا على سبيل الاستبعاد، فهو يستبعد أن تُعاد من جديد، لكن الجمهور على الأول، سواء قيل بأنه نبي، أو قيل بأنه غير نبي، لكنه كان مؤمنًا، وأنه لم يقل ذلك مستبعدًا على الله -تبارك وتعالى، فقد كان يُؤمن بالبعث.
فجعله الله آية فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثم رد إليه روحه، فسأله: كم لبثت؟ أي: ما هي المدة التي قضيتها ميتًا؟ فقال: بقيت يومًا، أو بعض يوم، وبعضهم يقول: ربما كان ذلك في أول النهار، يعني: أتى على هذه القرية وقال ما قال، فأماته الله ، وحينما أحياه كان قد بقي على النهار بقية من آخر النهار، فقال: لَبِثْتُ يَوْمًا لأنه في آخر النهار، فلما رأى بعض النهار باقي، قال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ هو شاك هل هو يوم كامل، أو بعض يوم؟ واليوم يكون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
فالشاهد: أن هذا الرجل كان يعتقد أنه لبث يومًا، أو بعض يوم، فأخبره الله -تبارك وتعالى- أنه بقي مائة عام، وأمره أن ينظر إلى طعامه وشرابه، كيف حفظهما الله -تبارك وتعالى- من التغيير، مع أن الطعام والشراب يُسرع إليهما التغير والتحول، ومع ذلك في هذه المدة (مائة سنة) بقيا لم يتحولا، بصرف النظر عن نوع هذا الطعام، وما ذكره المفسرون، فهذا مبناه على أخبار إسرائيلية، ولا فائدة في معرفته، لكن العبرة أن هذا الطعام بقي ولم يتغير ولم يتحول إلى تراب، ثم أعاده الله ، بل إن الأبلغ في ذلك هو أن يبقى هذا الطعام من غير تغير، والماء كذلك فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ يعني: لم يتغير، ولم يحصل له تغير، حتى طعم الشراب لم يتحول ويتغير، والماء إذا بقي مدة طويلة صار آسنًا، وهذا لم يتغير شرابه، ولم يتغير طعامه، لم تغيره السنون، وبقي على حاله.
وأيضًا أمره الله أن ينظر إلى حماره وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ والجمهور من المفسرين يقولون: إن هذا الحمار تحول وتحلل، وصار ترابًا، وهذا في إعادته من جديد حينما يتحول إلى تراب لا شك أن ذلك أدعى وأدل على قدرة الله -تبارك وتعالى، فتحول هذا الحمار وتحلل إلى أجزاء، ثم أراه الله ما سأل عنه أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فأمره أن ينظر إلى هذا الحمار وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا نُنشزها يعني نرفعها، الشيء الناشز المُرتفع، وأرض ناشزة يعني مرتفعة، وامرأة ناشز على زوجها يعني مرتفعة عن طاعته، كيف تُرفع هذه العظام بعضها فوق بعض، ويُبنى بعضها فوق بعض، ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا تُغلف هذه العظام باللحم، وتعود الحياة إلى هذا الحمار من جديد، وهذا يُشاهد.
وعامة أهل العلم يقولون: إن هذا الحمار قد مات وتحلل، ثم أعاده الله أمامه؛ لأن الله ذكر العظام وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا [سورة البقرة:259] خلافًا لمن قال: إن الحمار أيضًا لم يمت، فهذا لا يدل عليه ظاهر السياق.
كيف نُنشزها نوصل بعضها ببعض، ونركب بعضها على بعض، ونرفع بعضها فوق بعض، ثم تُكسى وتلتئم باللحم، وتُعاد الحياة، فلما رأى ذلك أمامه أقر واعترف، فقال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259] فعلى القول بأنه مؤمن يكون انتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، حيث شاهد ذلك بعينه، وهذه مرتبة أقوى، وكما سيأتي في سؤال إبراهيم في الآية بعدها حينما سأل ربه -تبارك وتعالى- أن يريه كيف يحيي الموتى؟ فأراد إبراهيم أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين؛ ليُشاهد ذلك، فهذه مرتبة أعلى، وأعلى منها مرتبة: حق اليقين، يعني: نحن نستيقن بوجود الجنة، فهذا علم اليقين، فإذا رأينها فهذا عين اليقين، فإذا دخلناها فهذا حق اليقين، فهنا قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أقر واعترف، وعلى القراءة الأخرى المتواترة بالأمر (اعلم)[1]، أي: أن الله أمره أن يعلم أن الله على كل شيء قدير.
ويُؤخذ من هذه الآية من الهدايات والفوائد والعِبر والعِظات: أنه قد تُطلق القرية على المساكن، وقد تُطلق على الساكنين، وهذه لغة القرآن أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ هنا المساكن بلا إشكال، وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا سقطت السقوف والحيطان، فهذه المساكن قطعًا، لكن في قوله: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فهنا يحتمل أن يكون المراد الساكن في هذه القرية، فهذا أيضًا إطلاق صحيح، وبين المعنيين ملازمة، كما ذكرت.
أيضًا لما أبهم الله -تبارك وتعالى- اسم هذا الرجل، واسم هذه القرية، دل على أنه لا فائدة من طلب ذلك، وإنما المقصود أخذ العبرة والعِظة، وكثير من الناس حينما تُساق إليهم العِبر والوقائع والأحداث التي ينبغي أن يعتبروا بها ينشغلون بأمور أخرى، أين وقع؟ وما نوع هذا المركَب؟ وفي أي وقت كان؟ وكم عدد هؤلاء؟ وما أسماؤهم؟ ونحو ذلك من الأسئلة الكثيرة التي لا يترتب على معرفتها فائدة، فهذا خروج عن المقصود، وعن موطن العِظة والعبرة، واللائق بالإنسان أن يعتبر بما يسمع ويتعظ، ويترك تتبع التفاصيل التي لا فائدة فيها.
تسوق عبرة أحيانًا لجمع من الناس أو لفرد من الناس، ثم بعد ذلك ينشغل وربما يدخل معك في جدل وتفاصيل، إنسان كان يُسرع فوقع له مكروه، فهذه عِظة وعبرة في السرعة، ينشغل أين؟ وما نوع السيارة؟ وما نوعها؟ وأين يسكن؟! ثم يدخل معك أحيانًا في جدل: أنه يسكن في المكان الفلاني أو يسكن في المكان الفلاني؟ فنحن لا نريد أن نُحقق المسألة: أين يسكن هذا الإنسان؟
العبرة أن هذه السرعة لا تؤدي إلى نتيجة صالحة، فهذا هو المقصود، فيتحول الجدل والنقاش في أمور لا علاقة لها بالعبرة، وهذا كثير، وهو خروج عن المقصود؛ وذلك يفوت على الإنسان مواطن العِبر والعظات، وانظر إلى البحث الكثير في آثار أصحاب الكهف، أو سفينة نوح، أو نحو ذلك، وليس هذا هو المطلوب، إنما المقصود أن يتعظ الناس، ويدركوا: كيف أهلك الله أهل الأرض جميعًا، ونجى هذه الفئة القليلة المؤمنة؟! كذلك يُنجي الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان.
وهذه الآية الكريمة: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا هي أحد الأدلة الخمسة في القرآن على إحياء الله الموتى، وأدلة البعث والنشور كثيرة ومتنوعة، وكل نوع تحته أفراد من الأدلة، لكن هذا النوع من الأدلة، وهو أن الله أحيا أقوامًا قد ماتوا، فهذا تحته في سورة البقرة فقط خمسة أمثلة، أُناس ماتوا فأحياهم، فهذا واحد منهم، وسيأتي بعده طيور إبراهيم ، وقبله: الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [سورة البقرة:243] وكذلك في بني إسرائيل لما أخذتهم الصاعقة، قال: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [سورة البقرة:56] فهو موت حقيقي، أحياهم الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك، وهكذا.
ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: أن مجرد الاستعظام لوقوع شيء من الأمور التي في هذا الكون يُجريها الله -تبارك وتعالى- ويُدبرها لا يكون كفرًا، فهذا رجل لم يشك في قدرة الله على البعث والنشور، وإنما كان يستعظم ذلك في مجاري العادات.
وفي الحديث: أن رجلاً كان قبلكم، رغسه الله مالاً، فقال لبنيه لما حضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرًا قط، فإذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله ، فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته[2]، فهذا الرجل -كما يقول شيخ الإسلام- كان يشك في قدرة الله على إعادته، وفعل ذلك لجهله[3]، وهذه قضية من المعلوم من الدين بالضرورة، وقد ذكرتها في الكلام على القضايا التي ربما تقع لبعض الناس، ولا يكفر بسببها؛ فهذا وقع فيما وقع فيه لجهله.
ولاحظ التعجب أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وكذلك قوله: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ فلم يقل: أنى يُحيي الله هذه بعد موتها، وإنما قدّم ما يتعلق بالقرية؛ لأن هذا موضع التعجب، وليس العجب من قدرة الله، وإنما العجب من حال هذه القرية التي تساقطت بهذه الهيئة.
ويُؤخذ من هذه الآية: فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أن الله -تبارك وتعالى- يفعل ما يشاء، وأن الأفعال الاختيارية تقوم به ، فهو -تبارك وتعالى- موصوف بصفات الكمال، فصفاته الفعلية متعلقة بمشيئته وإرادته، فهو يتكلم متى شاء، ويخلق، ويُحيي ويُميت، ويُدبر أمر الخليقة، ويزرق ويُعطي ويمنع، جل جلاله، وتقدست أسماؤه.
فهذا الرجل أماته الله مائة عام، ثم بعثه على القول -وهو قول الجمهور- بأنه كان على الإيمان، وهذه بالنسبة إليه تعتبر كرامة، وعلى القول بأنه نبي تعتبر آية ومعجزة؛ لأن هذا أمر خارق للعادة، وكل ذلك في الواقع يرجع إلى آيات الأنبياء، كما يُقال، ولها في القرآن براهين وآيات، ونحو ذلك، وأطلق عليها المتأخرون مما يتصل بالأنبياء: المعجزات، وما يتصل بالأولياء أطلقوا عليها الكرامات، والواقع أن ذلك من باب واحد، وسماها المتقدمون بدلائل النبوة.
ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: قَالَ كَمْ لَبِثْتَ جواز امتحان العبد في معلوماته، فيُسأل ويوجه إليه السؤال، ولا غضاضة في ذلك.
وأيضًا في جواب الرجل: قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ يُؤخذ منه جواز الجواب بما يغلب على الظن، فهو تكلم بحسب غلبة الظن، ولم يتوقع أنه جلس مائة عام، فأخطأ في الجواب.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- معاني القراءات للأزهري (1/ 223) وحجة القراءات (ص:144).
- أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار برقم (3478) ومسلم في التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه برقم (2756).
- الاستقامة (1/ 164).