بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) في الآيات التي تتحدث عن الإنفاق: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:262].
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يبذلونها في مرضاته -تبارك وتعالى، ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا وبذلوا مَنًّا على من أعطوه، وأحسنوا إليه، وَلا أَذًى بقول، أو فعل، فهؤلاء لهم ثوابهم العظيم عند الله -تبارك وتعالى، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ونفي الخوف مطلقًا -كما سيأتي- يمكن أن يُحمل ذلك على الدنيا، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على شيء فاتهم وتركوه ورائهم.
وهذه الآية الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ جاءت بعد بيان فضل الإنفاق، والترغيب فيه، فبيّن هنا كيفية هذا الإنفاق، وصفته التي يحصل بها الثواب، ويثبت عند الله -تبارك وتعالى، فبيّن أن هذه النفقة كحبة أنبتت سبع سنابل، في كل سُنبلة مائة حبة، والله يُضاعف لمن يشاء، لمن يكون ذلك؟ لمن أنفق ماله في سبيل الله، ولم يُتبع ذلك بما يُبطله من المن والأذى، وهكذا ابتدأها بما يُشعر بالمدح والثناء، فقال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وفي قوله: الَّذِينَ يُنفِقُونَ عُبر بالفعل المضارع، فدلّ ذلك على الاستمرار، وأن نفقتهم غير منقطعة، وأنها على سبيل الدوام، ومُلازمة لهذه الصفة: لا يُتبعونها منًا ولا أذى، وفي فِي سَبِيلِ اللَّهِ يدل على ما يُطلب في ذلك من شروط قبول الأعمال، والاتباع للمشروع: وهو أن تكون هذه النفقة في وجه مشروع، وأن تكون خالصة لله -تبارك وتعالى- ليست للرياء، ولا للسمعة، وقد ذكرنا في الآية السابقة ما يتعلق بإضافة الأموال إليهم مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [سورة البقرة:261] وهنا قال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فأضاف الأموال إليهم؛ وذلك يدل على أنهم مالكون لهذه الأموال، فيصح نسبتها إليهم؛ ولهذا يتصرفون فيها بالهبة والهدية والمعاوضات والصدقة، ونحو ذلك، وإن كان الذي استخلفهم في ذلك كله هو الله -تبارك وتعالى، فهو المُتفضل على عباده أولاً وآخرًا.
ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى فـ(ثم) تُفيد الترتيب مع التراخي، وهذا التراخي أحيانًا يكون في الزمن، تقول: جاء زيد، ثم عمرو، يعني: أن عمرًا جاء بعده، وأحيانًا يكون ذلك لبيان التفاضل في الرتبة، وهذه الآية تحتمل المعنيين، ولا يبعُد أن يُجمع بينهما، فعلى القول بأن ذلك للترتيب في الزمن، المعنى: أنهم إذا أنفقوا لم يحصل لهم بعد هذا الإنفاق والإعطاء والبذل منٌّ، وإذا كانت للرتبة يعني أنهم مع الإنفاق فهم متحققون بوصف من أوصاف الكمال الواجب، وهو أنهم لا يتبعون ما أنفقوا منًا، ولا أذى.
فعلى الأول: أنها للرتبة، كما قال الله -تبارك وتعالى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البلد:17] مع أن الإيمان شرط في قبول الأعمال، يعني: إضافة إلى ذلك، وليس للزمن، فهو بحسب السياق، فهنا على القول بأن ذلك للتفاوت، ثم لا يُتبعون، يُبين التفاوت بين النفقة التي قد يتبعها منٌ أو أذى، أو النفقة المطلقة، والنفقة التي لا يتبعها منّ ولا أذى، فبينهما مراتب شاسعة، وهذا أيضًا ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ يدل على علو مرتبة هذا المذكور بعدها ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ يعني: هم إضافة إلى ذلك لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى، ويحتمل أن تدل (ثم) هذه على دوام الفعل ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا وإرخاء أيضًا الطول في الإمهال أو التوسعة في ذلك، يعني: أنهم ماضون على هذا الوصف، ومستمرون وباقون وثابتون عليه، فلا يحصل منهم شيء من المن أو الأذى.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يذكر هنا ملحظًا، وهو أن المن والأذى -على القول بأنها للترتيب الزمني- يُبطل الصدقة، ولو طال وقوعه بعدها[1]، يعني: تصدق على أحد، وبعد عشر سنوات بدأ يذكره بهذه الصدقة، ويمن عليه، كأن يقول: تتذكر حينما أعطيتك، تتذكر حينما أحسنت إليك، أو يؤذيه بهذه الصدقة، فيقول: أنا أعطيتك وأنت لا تستحق، وأعطيتك وأنت لست بأهل، ونحو ذلك، هذا منّ وأذى، فهذا إذا كان بعد مدة من الإنفاق، يُبطل كما سيأتي، فكيف بالمنّ والأذى المُقارن للصدقة؟ فهذا من باب أولى، يعني: إذا كانت تبطل بمنّ وأذى يقع بعد مدة، كأسبوع أو شهر أو سنة أو عشر سنوات، فإذا كان المنّ والأذى مقارنًا لهذه النفقة فهذا من باب أولى أنه يُبطلها.
وهذا أيضًا يدل على أنه يوجد من الأسباب ما يُبطل الأعمال بعد الفراغ منها، فالأعمال قد تبطل بسبب أمر سابق لها، كالنية الفاسدة مثلاً، وقد تبطل بسبب أمر مقارنٍ لها، مثل لو أنه طرأت عليه نية فاسدة، واسترسل معها، أو أثناء هذا الإنفاق يؤذي ويمُنّ كأن يقول: خُذ ولا أراك بعد اليوم، خُذ وتذكر إحساني إليك، وأني صاحب نعمتك، أو خُذ ولا تطرق بابنا بعد اليوم، ولا تقف عند هذا الباب، ولا أراك هنا، فهذا أذى يُبطل الصدقة، يعني حتى لو أعطاه ألف أو مائة ألف أو أكثر من ذلك أو أقل، يُبطلها، فكل هذه المعاني -والله أعلم- قريبة وصحيحة، فالمنّ والأذى يُبطلها إذا قارنها، ويُبطلها إذا كان تابعًا لها، فلا يحصل لصاحب المنّ والأذى مقصود الإنفاق.
يقول ابن القيم: "لو جاء بالواو، فقال: (ولا يتبعون) لأوهم تقييد ذلك بالحال أثناء الإنفاق[2]، يعني: ينفقون أموالهم في سبيل الله، ولا يُتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى، أي: في الوقت نفسه، لكن لما قال: (ثم) دلّ على معنى زائد، فـ(ثم) للعطف مثل (الواو) لكن تدل أيضًا على التفاوت في الرُتبة، أو التراخي في الزمن، فدل على أن المنّ والأذى يُبطل ولو بعد حين، قد يكتب له رسالة، ويُرسلها إليه عبر وسائل التواصل، أو غير ذلك، يُذكره بالعطية، أو يُرسل له صورة حينما أعطاه، أو نحو هذا، أو يقول: نسيت كل شيء عندي موثق، حينما جئت لا تملك شيئًا، من الذي أعطاك المال ووظفك وشغلك وأحسن إليك؟ وقد جئت لا تملك من الدنيا شيئًا.
فينبغي للمؤمن إذا أعطى أن ينسى هذه العطية، فقد استودعها من لا يضل، ولا ينسى، فهي محفوظة مصونة، تنمو وتزداد، فإذا ذكرت بها من أعطيته تلاشت؛ ولهذا كان بعض السلف يقول: إذا كان المُعطى والمُحسن إليه يتأذى بالسؤال عن حاله والسلام، فلا تسأل عن حاله، يعني: إذا كان اتصالك عليه وقولك له: كيف الحال؟ فيقول لك: الحمد لله، أنا لا زلت ممتن لك بهذه النِعمة، وهذا الإحسان، ونحو ذلك، كأنك تُذكره بذلك، فإذا كان هذا يشُق عليه ويؤذيه، فلا داعي للاتصال، ولا للسؤال ولا لهذا السلام، والله المستعان.
والتنكير للمن والأذى في سياق النفي ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى يدل على أن قليل المنّ والأذى يُبطل النفقة، مَنًّا وَلا أَذًى يعني: أي منّ، وأي أذى، ولو قلّ، نكرة في سياق النفي.
كذلك هذا النفي لا يُتْبِعُونَ مع الفعل يدل على العموم، فهم لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى مطلقًا، في أي حال، وفي أي زمان، وفي أي وقت، قرُب العهد أم بعُد، فلا يصدر عنهم شيء من ذلك، وإذا حصل هذا فإنه يبطل أجره، كما يدل عليه قوله -تبارك وتعالى- في صفة هؤلاء: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ مفهوم المخالفة إنهم إن لم يكونوا كذلك، يعني إن أتبعوها منًا وأذى، فإن أجرهم يبطل، فالذين يتصفون بهذه الصفة لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم.
وقدم المنّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا على الأذى، ربما لكثرة وقوعه، فالغالب هو المنّ، وهذا المنّ قد يكون بحظرة من يمُنّ عليه، يوجه إليه الخطاب بطريقة مُباشرة، يقول: ألم أوليك كذا؟ ألم أُعطك كذا؟ ألم أُحسن إليك؟!
وقد يكون بطريقة غير مُباشرة، كأن يُعطيه لباسًا، فإذا رآه قال: ما شاء الله، ما هذه الحُلل عليك؟ وقد يعطيه طعامًا فيقول: ما شاء الله يظهر على وجهك أثر النعمة، كأنه يريد أن يقول: أنت موليها ومُسديها -نسأل الله العافية، أو يعطيه طيبًا فإذا قابله قال: ما شاء الله، ما هذا الرائحة الجميلة؟ وهذا العطر الجذاب ما شممت مثله قط، فيقول: هذا من حضرتكم وبعض فضلكم وكرمكم وجودكم وإحسانكم، هو يريد أن يقول له هذا، فهذا أذى ومنّ، وقد يكون ذلك لغيره، كأن يتحدث عند الآخرين، كأولاده، وأقاربه، وأصحابه، ويقول: فلان جاء ما يملك من الدنيا شيء، وهذا التاجر الثري جاء يوم من الأيام وعليه ديون، ولا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيرًا، وأنا الذي وقفت معه، وأعطيته، وقضيت ديونه، ووجهته إلى أعمال ومزاولات وتجارات، وأقرضته المال، ووقفت معه حتى نهض على قدمه، انظروا حتى العيد ما يرفع السماعة ويتصل علينا، فهذا يُبطل الإحسان، وقد لا يذكر هذا له مباشرة، لكن يتحدث عند الآخرين، فهذا يؤذيه، فلا يجوز، والله المستعان.
ولم يقل: وأذى، وإنما قال: وَلا أَذًى ليدل على أصالة كل واحد في إبطال العمل، المنّ يستقل بذلك، والأذى كذلك؛ ليشمل النفي كل واحد على سبيل الاستقلال، يعني: لو قال مثلاً: (منًّا وأذى) لفهم أن المقصود وجود المجموع، يعني: إذا حصل المنّ والأذى معًا بطلت الصدقة.
فالصدقة لها شروط سابقة، حتى تُقبل، ولها شروط مصاحبة كاستصحاب النية، ولها مبطلات أيضًا سابقة، ومُصاحبة، ولاحقة، فالإخلاص لا بد منه قبلها وفي أثنائها، ومتابعة للعمل المشروع للنبي ﷺ، فهذا المنّ في الصدقة قبيح، ولا يحسُن من العبد، وفي الحديث: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره[3]، فهذا يدل على أن المن من الكبائر، فهذه قضية ليست سهلة، بل هي من أهم المُهمات، يعني: لو أنه ما أنفق لكان خيرًا، لكن صار بهذه المثابة، ممن لا يكلمهم الله، أعطى لكن للأسف أعطى بعطية تذهب بحظه من الله -تبارك وتعالى- وبثوابه وأجره، والله المستعان، فصارت هذه العطية نقصًا عليه، والمنّ لا يصلح إلا لله بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [سورة الحجرات:17].
وأيضًا فهذا المّان مترفع متعالي لمن يمن عليه، ومستبعد له، ولا شك أن هذا يحصل فيه من الابتذال والامتهان لهذا الممنون عليه، ما لا يخفى، وهذا لا يليق، هذه الصدقات وهذا الإحسان إنما قُصد به جبر هؤلاء الضعفاء والمحتاجين، لا كسر النفوس، وتحطيمها، وإذلالها، فيكفيه ذُل الحاجة عن ذُل آخر من قِبل هذا المُعطي.
أتوقف اليوم عند هذا، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:366).
- طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:366).
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم برقم (106).