بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
نواصل الحديث -أيها الأحبة- في الهدايات من قوله -تبارك وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:261].
مضى الكلام في الليلة الماضية عن صدر هذه الآية، وبقي من المعاني والهدايات التي تُستخرج من هذه الآية ما دلَّ عليه قوله -تبارك وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وقلنا: إن الراجح أن هذه المضاعفة في الزيادة على السبعمائة لمن شاء الله -تبارك وتعالى، فهذا يدل على سعة فضل الله -تبارك وتعالى- وثوابه لعباده، فيجزي العاملين على أعمالهم التي هداهم إليها، ووفقهم، وعلمهم إياها، ويجزيهم على نفقاتهم التي كانت تلك الأموال من رزقه وفضله وعطائه ومنه، فهو يُعطي ويوفق العبد ويهديه ويدله على سبيل مرضاته، ثم يُسمي ذلك أجرًا، والأجر هو ما يُعطى للعامل إزاء عمله، فالله هو الذي أعطى، وهو الذي هدى، وهو الذي وفق، وهو الذي علّم.
ولم تكن الحسنة بحسنة فقط، كما يُقال في أعمال الناس، وما يحصل بينهم من فصل الخصومات، إذا اختلفوا على الأجرة، ونحو ذلك، فالمعلوم أنه يُعطى أُجرة المِثل، ما لم يكن هناك اتفاق يوضح ما له من الأجر، أما هنا فالحسنة، وهي الصدقة، بسبعمائة، إلى أضعاف كثيرة، فهذا لا يوجد إلا في عطاء الله -تبارك وتعالى، فهو يُعامل بالفضل؛ ولهذا كان من أسمائه الشكور، فهو يجزي العاملين على أعمالهم، فلا تضيع عنده، ويُنميها، ويُربي هذه الصدقات، فتزيد وتضعف وتربو عند الله -تبارك وتعالى.
أتظنون أن هذه الصدقات التي تقدمونها تجدونها كما هي: الريال بريال، والمائة بالمائة، والتمرة بتمرة؟ أبدًا، فلو تبرع بما هو أعظم من التمرة كأن أعطى وجبة لفقير، أو قارورة ماء لعامل في الشمس، فهو عند الله عظيم، وتلك المرأة البغي التي سقت الكلب، ماذا كان جزاؤها عند الله -تبارك وتعالى؟ وهو عمل قد لا تحسب له حسابًا، ولكن له عند الله شأن آخر، وهكذا المعاملة مع الله، ومن رحمته أن السيئة بواحدة.
ولهذا يقول العلماء -رحمهم الله: "هلك من غلبت آحاده عشراته"[1]، الآحاد هي السيئات، سيئة بسيئة، والوزن عند الله -تبارك وتعالى- بحسب الرُجحان في كفة الحسنات والسيئات، فمن غلبت آحاده عشراته، فمعنى ذلك أنه في غاية التفريط، فإذا كانت الحسنة بعشر إلى سبعمائة، ومع ذلك رجحت كفة السيئات، فمعنى هذا أن هذا الإنسان قد ضيع حظه ونصيبه وربحه وتجارته مع الله جل جلاله، وتقدست أسماؤه، فهو لم يُقدم شيئًا ينفعه من الحسنات، ولم يتوق ما لاح له من السيئات، فرجحت سيئاته على حسناته، والفوز عند الله -تبارك وتعالى- هو برُجحان كفة الحسنات على السيئات.
فانظر إلى فضل ربنا العظيم، حبة بسبعمائة، ألف بسبعمائة ألف، إلى أضعاف كثيرة، مليون بسبعمائة مليون، ولو قيل للناس: مساهمة، ادفع ريال بسبعمائة ريال، وألف بسبعمائة ألف، ماذا سيصنع الناس؟ لباع الناس ثيابهم وأثاثهم ودورهم ومراكبهم وطعامهم، في مساهمات دون ذلك، ولا تبلغ عُشر معشار هذا، باع الناس بيوتهم وأغنامهم وإبلهم، وما عندهم من مؤسسات، وغير ذلك من أجل الدخول في تلك المساهمات التي قيل لهم: إنها قد تصل إلى ثلاثين وأربعين بالمائة، يعني ليست الضعف، يعني قريب من الثُلث، وهناك سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فهذا هو التعامل مع الله -تبارك وتعالى، ولكن ضعف اليقين -أيها الأحبة- هو الذي يُقعدنا عن ذلك، والطريق مفتوح في كل كبد رطبة أجر[2]، فكم من عامل وفقير محتاج، وتوجد جمعيات تكفيك مؤنة البحث عن المحتاجين والأرامل والفقراء والمساكين، يعرفونهم وقد أحصوهم إحصاءً دقيقًا، لكن بقي هذه النفس التي تحتاج إلى مجاهدة.
ولاحظ هذا التمثيل والتصوير في هذه الآية: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:261] يصور لك ذلك كأنك تشاهده، حبة يخرج منها ساق، ينشعب منه سبع شُعب، ثم في كل شُعبة تكون سُنبلة فيها مائة حبة، ويكون مجموع ذلك سبعمائة حبة، فهذا يُقرب للأذهان -كما سبق، وفيه ما فيه من ضروب البلاغة، حيث مثّل هذه النفقة ومثل الذين ينفقون، كمثل حبة وزارعيها، فذكر المُنفق أولاً مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ لأن ذلك في مقام الثناء عليهم، فأبرز حال هؤلاء.
وفي هذا المثل أيضًا: الحث على البذل والإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى، حيث شبهه بالزرع والزرع ينمو ونماؤه لا ينقطع ولا يتوقف، وهذا العدد الكثير الذي ذكره، لا شك أنه يُلفت الأنظار مقابل الحبة سبعمائة! فهذا يدل على أن الله -تبارك وتعالى- يفعل ذلك في أعمال العاملين، وصدقات المتصدقين، وقربات أهل البذل والجود والإحسان، فهذا كله من لطفه ورحمته وفضله وإحسانه، حيث ضرب لنا الأمثال، وبيّنها غاية البيان، ثم ختم هذه الآية بقوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ فلا يُستكثر مثل هذا؛ لأنه واسع، ومن معاني الواسع -كما تحدثنا في الكلام على الأسماء الحسنى- أنه واسع الغنى، والجود، والعطاء، فكل ذلك من معانيه، وهو واسع الأوصاف والكمالات، وذلك لا يُنقص مما في خزائنه.
وهو كذلك أيضًا (عليم) بهذه النفقات وبهؤلاء المنفقين، وبمواضع هذه النفقة، وبما يقوم في قلوب هؤلاء من صدق الرغبة والإخفاء، وحب الخير، والرحمة بالناس، عليم بنفقاتهم، فلا يحتاج الواحد منهم أن يُعلم الآخرين، أو يُعلن عن صدقته وإحسانه، فالله -تبارك وتعالى- يعلم ذلك، فإذا بذلت وقدمت وبنيت مسجدًا، أو أقمت وقفًا، أو نحو ذلك فلا داعي لإشهار ذلك باسم يُرقم عليه، فالله عليم.
وهكذا نجد في ختم الآيات من الأسماء الحسنى ما يُنمي هذه المعاني في القلوب، ويربط الناس بربهم وخالقهم ومليكهم ، وتقدست أسماؤه، فيكون التعامل معه، فالله عليم بهذه النفقات، ولو بُذلت هذه النفقات للقرابات، ومن يحتف به، ثم بعد ذلك وجد شيئًا من التنكر من قِبل هؤلاء، أو من بعضهم، فالله عليم؛ ولهذا لا يحتاج الإنسان إلى أن يوثق هذه العطاءات، ويوثق هذا الإحسان، بتصوير ولا بتوقيع، ولا بغير ذلك؛ لأن التعامل مع العليم.
فالواسع يحفز النفوس على مزيد من البذل والعطاء والإحسان، ولن ينقص ذلك من خزائن الله -تبارك وتعالى- شيئًا إطلاقًا، المخلوق حينما يقول: بأنه سيعطي شيئًا من الأرباح الكثيرة بالنظر إلى عطاءات المخلوقين، وأرباح المخلوقين ربما يُستكثر ذلك عليه، ويُنظر في أرصدته، وما عنده من إمكانات، وهل سيستطيع الوفاء بهذا أو لا؟ وهل سيستطيع النهوض به أم لا؟
أما الله -تبارك وتعالى- فهو واسع، فما أنفقه منذ خلق السماوات والأرض لم ينقص من خزائنه وملكه شيئًا، فلو اجتمع الأولون والآخرون في صعيد واحد، وسألوا فأعطى كل واحد مسألته، واجتهدوا -كل هؤلاء- في السؤال، وكل واحد يتخيل ما يريد ويسأل ما يشاء، لو قال مثلاً: أريد مثل الأرض عشر مرات، وأعطي كل واحد مسألته، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله، إلا كما ينقص المخيط -الإبرة- إذا وضعت في البحر، ماذا تُنقص الإبرة إذا وضعت في كأس ماء، وليس في البحر؟! فهذا ربنا -تبارك وتعالى، فالتعامل معه -أيها الأحبة- ينبغي أن يكون على حال لائقة من نوع البذل، فلا يتخير الإنسان رديء النفقات، وقليل الفئات من النقود، ولا يكون ذلك أيضًا مشوبًا بالمقاصد الفاسدة، فالله واسع وعليم، وإذا عرف العبد أنه يتعامل مع من هو بهذه المثابة والصفة، فهنا التعامل ينبغي أن يكون دقيقًا، أخف هذه الصدقة غاية الإخفاء.
فـ(عليم) صيغة مبالغة على وزن (فعيل) لا يخفى عليه شيء إطلاقًا، ولا يضيع عليك شيء إطلاقًا، ولن يُنسى شيء إطلاقًا، كل ذلك ستجده مُحصى، فيا لها من معانٍ -أيها الأحبة- تُربي الأرواح والقلوب، فتسمو وترتفع، وتتخلص من كثير من الشُح وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [سورة الحشر:9] فالشُح مركب في النفوس؛ ولذلك أضافه إليها شُحَّ نَفْسِهِ [سورة الحشر:9] وأشار إليهم بإشارة البعيد فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9].
فأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (5/ 157).
- أخرجه البخاري في كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء برقم: (2363) ومسلم في السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها برقم: (2244).