بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ما زال الحديث -أيها الأحبة- متصلاً عن هذه الآية الكريمة من سورة البقرة، وفي هذا المثل المضروب لمن يُنفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن الله، ولا باليوم الآخر، بعد أن نهى عن إبطال الصدقات بالمنّ والأذى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:264].
وتحدثنا عن صدر هذه الآية الكريمة، وما يُؤخذ من الهدايات، ونواصل الحديث في هذه الليلة فيما بقي من ذلك، وكان آخر ما تحدثنا عنه: أن هذا المنّ والأذى قد يكون صادرًا من الأفراد المنفقين، وقد يكون ذلك صادرًا من مؤسسة تقدم بذلاً وإنفاقًا وصدقات، قد يكون هذا موجهًا لأفراد، وقد يكون موجهًا إلى جمعيات ومؤسسات، كل ذلك داخل في هذه الآية لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى وخصّ الصدقات بالمنّ والأذى ربما كان ذلك لمعنى، وهو أن وقعه أشد؛ وذلك أن هذا المُعطى والمحتاج والمُنكسر القلب لا يحتاج إلى مزيد من الإرهاق والإذلال، فيكفيه ذل الحاجة.
فالآية في الصدقات، لكن أيضًا المنّ والأذى مذموم، في العلم والرأي والجاه وما أشبه ذلك، فلا يصح معه المنّ والأذى، فالذي ينفق علمه ويمنّ على الناس، ويؤذيهم، فهذا أيضًا لا يصح، وكذلك الذي يقدم مشورة للناس ويقدم لهم رأيًا، ويمنّ عليهم ويؤذيهم، والذي يبذل جاهه بالشفاعات، ويقصده الناس لهذا، فيمنّ عليهم، ويقول: أنا الذي شفعت لك في كذا، أنا السبب في دخولك في هذه المدرسة، أو الجامعة، أو الوظيفة، أو نحو ذلك، فهذا لا يصح، أو يشفع له ويُسمعه من الكلام ما يجرح معه مشاعره، فهذا الكلام لا ينساه، يبقى عالقًا في ذهنه، ويتأذى بمثل هذا الكلام.
فينبغي على الإنسان أن يبذل ويُنفق سواء كان من أهل المال، أو من أهل الرأي، أو من أهل الجاه، أو كان من أهل العلم، فيبذل من غير منّ ولا أذى؛ ولهذا فإن قوله -تبارك وتعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [سورة الضحى:10] فالسائل يدخل فيه السائل الذي يسأل المال، فيكفيه ذل الحاجة، ويدخل فيه الذي يسأل عن العلم، فلا يحتاج إلى زجر ونهر، أو إغلاق السماعة -كما يُقال- في وجهه، أو نحو ذلك، وإنما يُرد بالرد اللائق، واحترام مشاعر الآخرين، وسد حاجاتهم، وما إلى ذلك، فإن لم يستطع يتلطف بالاعتذار، لكن لا ينهر وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [سورة الضحى:10] فيدخل فيه هذا وهذا على ما ذكره جماعة من أهل العلم.
هذا بالإضافة إلى معنى آخر: وهو أن المنّ يكون مذمومًا من قِبل العبد إذا صدر منه؛ لأن المِنة لله وحده، فهو الذي أعطاه، وأولاه، ووفقه وهداه وأعانه على نفسه، وهو الذي يُثيبه، فلا يصلح المنّ إلا لله بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [سورة الحجرات:17] فالمِنة لله وحده، وليس للإنسان أن يمنّ على عباد الله -تبارك وتعالى، ويقول: أنا وقفت معكم، وأنا أعطيتكم، وأنا كنت عضدًا لكم، ونحو ذلك، فهذا لا يليق، وإنما يبذل الإحسان وينساه، فالمنِة لله وحده، فإذا صدر شيء من ذلك من المخلوقين، فإن هذا لا يليق بحال من الأحوال، ويكون نقصًا فيه، ويكون سببًا لذهاب الأجر، بل يكون أيضًا سببًا للوزر؛ لأن هذا من الأعمال السيئة التي يُعاقب الإنسان عليها، فهذا المان كأنه يستعبد الآخرين، ويُذلهم، بهذه العطية والإحسان، وهو فضل من الله -تبارك وتعالى، فكيف يمنّ عليهم بذلك؟!
وفي قوله: كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ هذا يحتمل أن يكون المعنى: لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كإبطال الذي يُنفق ماله رئاء الناس، فهذا بيان لكون المنّ والأذى مُبطلان للصدقة، كما أن النفاق والرياء يُبطلان الصدقة، فهذا معنىً.
والمعنى الثاني -أو الاحتمال الثاني: أن يكون المعنى هكذا: لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي يُنفق ماله رئاء الناس، فلا تكونوا كالذي يُنفق ماله رئاء الناس، فهو نهي عن مشابهتهم، فإن ذلك من صفاتهم وأخلاقهم، فالذين لا يريدون ما عند الله -تبارك وتعالى- يصدر عنهم من الرعونات ما يكون من هذا القبيل: المنّ والأذى؛ لأنه لا يرجو ما عند الله -تبارك وتعالى، فهذا تقبيح لهذا الفعل، حيث شبه المنّ والأذى بذاك الذي يُنفق ماله رئاء الناس، والجامع المشترك هو: البطلان، هذا يبطل عمله، وهذا يبطل عمله، هذا تبطل صدقته وبذله، وهذا تبطل صدقته وبذله.
وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فهذا يُشعر أن هذا الذي يمنّ ويؤذي إنما كان ذلك لنقصٍ في إيمانه بالله، واليوم الآخر، ولو كان يؤمن إيمانًا كاملاً بالله واليوم الآخر، لكان في غاية الاحتساب، وأبعد ما يكون عن هذه الأوصاف المذمومة، وكثيرًا ما يُذكر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله، باعتبار أن الإيمان باليوم الآخر هو الدافع والمحرك للامتثال، فالذي لا يرجو لقاء الله -تبارك وتعالى، ولا الجزاء ولا الحساب، يصدر عنه من التصرفات ما لا يُراعي فيه حدود الله -تبارك وتعالى.
وتأمل هذه الآية في سورة البقرة: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:264] والآية الأخرى في سورة إبراهيم: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [سورة إبراهيم:18] فالمثل هنا للعامل مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ [سورة إبراهيم:18] وفي سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:264].
فهذا الذي في سورة البقرة هو المُنفق والعامل والباذل والمتصدق، فضُرب المثل له، فجاء تقديم نفي قدرته لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وفي آية إبراهيم المثل للعمل مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ يعني: مثل أعمال الذين كفروا بربهم، ولهذا قال: لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ [سورة إبراهيم:18] وفي سورة البقرة لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ففي سورة البقرة يتعلق بالعاملين، فهم لا يقدرون على شيء مما كسبوا، وهنا في سورة إبراهيم المثل مضروب للأعمال، فقال: لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا فقدم الكسب الذي هو العمل؛ لأن المثل مضروب للعمل، والله تعالى أعلم.
وفي قوله : فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا هكذا القلوب المقفرة من الإخلاص والأعمال التي تفتقر إلى النيات، والمقاصد الصحيحة، فهذه لا تُورث قبولاً عند الله -تبارك وتعالى، ولا قبولاً عند الخلق، كالحجر المكسو بالتراب، فهذا لا يُخرج زرعًا، كالنفقات التي يبذلها الإنسان ليس له فيها نية صالحة، فإن ذلك يذهب هباءً، ولا يجد صاحبه ثوابه وأجره عند الله -تبارك وتعالى، فليس له عائدة.
وقل مثل ذلك -أيها الأحبة- في النفقات المتنوعة غير المال: إنفاق العلم، والخطيب حينما يقف على المنبر ويتكلم، وهذا الذي يكتب ويُغرد، وذاك الذي ربما يرعى الفقراء والأيتام، أو غير ذلك، وهذا الذي يذهب ويجيء ويسافر في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، إن لم يكن لهم نية، فإن هذه الأعمال والمزاولات والكلمات لا تجاوز الأفواه، ولا تصل إلى القلوب، فلا تورث ثمرة؛ ولذلك لا تجد النفع أبدًا منها، فلا ينتفع الناس بها، يسمعون الخطيب ويخرجون كما دخلوا.
وهذا الإنسان الذي يذهب ويقدم برامج كثيرة هنا وهناك في قنوات ووسائل تواصل، ونحو ذلك، ويكتب سيل من التغريدات، في اليوم والليلة، لكنها عديمة التأثير، وقد تُشاهد برنامجًا طويلاً في قناة فضائية يتكلم بكلام صحيح، ولكن إذا نظرت إلى التأثير لا يصل إلى القلوب؛ لماذا؟ قد يكون الخلل -والله أعلم- في النية، إذا لم تصح المقاصد مهما بُذل من الأموال، ومهما أُقيم من المشروعات، ومهما قيل من المحاضرات، وأُلقي من الخُطب والبرامج، فإن مثل هذا لا يكون له ثمرة، هي أعمال كثيرة كالطبل له ضجيج، لكنه مجوف خاوي، لا أثر ولا نفع ولا عائدة -نسأل الله العافية.
كما جاء في هذه الآية: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا فشبّه إنفاق الأموال رياء بالتراب الذي يوضع على الصخر الأملس، فيأتي المطر الغزير، فيذهب به، فلا يبقى له أثر، وترجع الأمور على حقائقها، وتذهب عائدة هذه النفقة، ويذهب مال هذا الإنسان الذي بذله، وما حصله من مدح وثناء وإطراء كل ذلك يتلاشى، ويذهب أدراج الرياح، وقد قيل، كما جاء في الحديث: ... ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار[1].
وتأملوا -أيها الأحبة- عبر القرون الماضية، وعلى تطاول الزمان، أولئك الذين عملوا من أجل أن يُحصلوا شيئًا من المدح والثناء والإطراء، ماذا بقي لهم من هذا؟ ذهبوا وذهب مدحهم وإطراءهم، ولم يبق إلا الحقائق والأعمال الصالحة، أو الأعمال السيئة، لكن أهل الأعمال الخالصة لله -تبارك وتعالى- بقيت أعمالهم مذخورة ومرصودة، وبقي نفعها، وقد بقيت بعض الأوقاف منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، إلى اليوم، وهذا لإخلاص أصحابها، والله تعالى أعلم.
وقد تكون كلمة بسيطة يقولوها إنسان بنية صالحة يقع لها من الأثر ما لا يُقادر قدره، وقد يكون كلام كثير، وربما تُكتب مجلدات، ولكن من غير نية، لفظتها هذه المطابع، فولدت ميتة، وهكذا.
فهذا حال هذا الباذر المنفق كالحارث على الصفوان الذي يضع بذره على حجر صلد، عليه شيء من التراب، ثم بعد ذلك يأتي الوابل، فيزيل ذلك جميعًا؛ لأن ذلك ليس موضعًا للإنبات، وهكذا الأعمال والنفقات التي تكون بلا قصد ولا نية، فَمَثَلُهُ يعني: كالذي يُنفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله مثل هذا، هذا أقرب ما ذُكر بعده، والضمير يعود إلى أقرب مذكور، وكذلك هو مفرد (مثله) وذلك تشبيه لهذا المنافق في إنفاقه وبذله وعطائه.
ويحتمل فَمَثَلُهُ أن يعود على المانّ المؤذي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ مثل المانّ المؤذي كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ والأقرب أن ذلك يرجع للمرائي، وذُكر هذا للمانّ من أجل التنفير عن المنّ والأذى؛ لأن ذلك يصير في النهاية والغاية إلى حال كحال ذلك المُرائي الذي يذهب أجره وعمله لفساد قصده، والله تعالى أعلم.
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ الصفوان -كما ذكرنا- الحجارة الملساء، لكن هذه الكلمة (صفوان) على وزن (فعلان) يدل على الشدة والغلظة للمبالغة؛ لأن هذا الوزن يدل على الامتلاء، كما يقال: غضبان وجوعان وعطشان، ونحو ذلك؛ ولهذا قيل بأن الرحمن أبلغ من الرحيم، والله تعالى أعلم.
فهذه حجارة في غاية الصلابة لا تنصدع ولا تتحرك بالإنبات، وضرب هذا المثل كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ فيه إثبات القياس، فهذه التشبيهات والتمثيلات -كما هو معلوم- هي من دلائل القياس، كما يذكره الأصوليون، فهذه الأمثال المضروبة هي أقيسة المقصود بها الاعتبار.
وأيضًا هؤلاء الذين يكونون بهذه الصفة لا يقدرون على شيء مما كسبوا، هذا يدل على تحسر الإنسان حينما يفوته مطلوبه من الأجر، وعائدة هذا العمل، فلا يقدر على شيء من ذلك في أحوج الأوقات إليه، وكما سيأتي في مثل آخر قريبًا -إن شاء الله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ [سورة البقرة:266] فهذا يدل أيضًا على الحسرات، حيث تذهب الأعمال في أوقات الحاجة الشديدة إليها.
فالمثل ضُرب للمنافقين؛ لأنه قال: كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فهذا في المنافق هو الذي لا يؤمن بالله، وليس كل مُرائي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، لكن هذا في أسوء أحوال المنافقين، وأحط الدركات في مراتبهم، فجاء التعقيب وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ليدل على أن المنافق كافر، وهذا يدل أيضًا على أن الكفر من أسباب منع الهداية، وأيضًا يدل على أن المنّ والأذى ليس من صفات أهل الإيمان، فالإيمان يقتضي خلاف ذلك.
ودل قوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ على أن هذه الأعمال ليست من أعمال أهل الإيمان، ولا يعني أن الذي يمُنّ أو يؤذي بصدقته أن يُرائي أنه يكون كافرًا، فليس هذا هو المراد -كما هو معلوم، ولكن قد يكون في الإنسان شُعبة من شُعب النفاق، وهو مؤمن، وقد يكون فيه شُعبة من شُعب الجاهلية، وهو مؤمن، وقد يكون فيه شُعبة من شُعب الكفر، وهو مؤمن.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار برقم: (1905).