بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لا زال الحديث متصلاً بهذا المثل المضروب لنفقات المنفقين، أو للمنفقين في سبيل الله؛ وذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة:265].
فقوله -تبارك وتعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ هذا تمثيل لنفقات المخلصين ابتغاء مرضاة الله، الذين جاءت نفقاتهم على الوجه المشروع، وطلبًا للتثبيت وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فلا يحصل لهم تردد، ولا اضطراب عند النفقة، كما سبق، ثم بعد ذلك مثّل هذه النفقات أو حال هؤلاء المنفقين بجنة بربوة أصابها وابل، فآتت أُكلها ضعفين.
جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ بستان في مكان مرتفع كما سبق، أَصَابَهَا وَابِلٌ يعني: المطر الغزير، فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فهذا تحضيض على الإنفاق، وهو المراد بسياق هذا المثل، حيث شبه إنفاق الأموال الخالص من الرياء الذي يُبتغى به ما عند الله -تبارك وتعالى- بالبُستان الذي يكون في ذلك الموقع، أصابه مطر كثير، فضاعف في مخرجاته من الزروع والثمار، ونحو ذلك، فإن لم يقع له ذلك المطر الكثير، فمطر قليل الطل، يكفيه ليُخصب، ويُخرج من كل زوج بهيج، فهذا كله في النفقات، وفي تضعيف جزائها عند الله -تبارك وتعالى.
فهي تتضاعف وتعظُم بحسب ما يحتف بها: من شدة الإخلاص ومن أثرها، ومن طيب مكاسبها، ومن واقعها، حيث تكون في الأقارب، أو في أحوال تكون الحاجة إليها شديدة، أو تكون في أنفع الأبواب أجرًا وعائدة عند الله -تبارك وتعالى، هو ما يحصل في قلب العبد من اليقين بأنها مخلوفة، وأنه لا يضيع عند الله -تبارك وتعالى- شيء، وما يحصل في قلبه من الثبات عند إخراج هذه النفقة فيُخرجها وهو مُستبشر فرح مغتبط بذلك، بخلاف الذي يُخرج هذه النفقة وعنده شيء من التردد، أو شيء من الامتعاض والتثاقل، ونحو ذلك، فهذا يُنقص أجره، وكما سبق في صفة المنافقين وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [سورة التوبة:54] فالمؤمن لا يكون بهذه المثابة.
فالمقصود: أن هذه النفقات تتضاعف بحسب ما يحصل من هذه المطالب التي تقوم في قلب العبد، أو التي تكون متعلقة في نفس المال، أو تكون في وجه الإنفاق، فكل ذلك ينبغي مراعاته، فهي تجارة مع الله -تبارك وتعالى، نُفتش عما في قلوبنا ونفوسنا وصدورنا، ماذا نريد بهذه النفقة؟ وما الذي يعتلج في هذه القلوب من التردد والثقة والثبات؟ وما يتعلق بالإخلاص، وأن ننفق من المال الطيب، ومما نُحب، لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92] فلا يُخرج الإنسان ما يكره، كما سيأتي، الذي لا يأخذه لو أُعطيه إلا بشيء من الإغماض، وغض الطرف، وأيضًا يتحرى الوجوه الأجدى والأنفع في هذه النفقات، فهنا تزكو هذه الصدقة، وتربو عند الله وتعظم، وتكون بهذه المثابة.
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ مثّل المنفقين بباذر حبة، كما سبق في المثل الأول في الإنفاق، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ فهنا مَثَل نفقات الذين ينفقون كمثل جنة بربوة، بمعنى أن ذلك يمكن أن يكون التمثيل فيه قد ضُرب لهذه النفقات بجنة بربوة، فمثّل في الأول بحبة، وهنا بجنة، ولا شك أن هذا المثل يصور وجه هذا الإنفاق، وثمرته وعائدته بصورة تنجذب إليها النفوس، حيث بيّن وذكر أحسن المواقع للبستان والجنة، وذكر أيضًا المطر الكثير الذي ينزل عليها، أو المطر القليل، فهذا كله يُبرز هذه الصورة التي توضح مقصود الشارع من الحث على الإنفاق.
وقوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ مَثَل نفقة الذين يُنفقون كمثل جنة، أو مثل الذين ينفقون، كمثل غارس جنة، كما قلنا في المثل الأول الذي هو: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [سورة البقرة:261] هنا المُنفق يُمثل بحبة، كمثل باذر حبة، إذا كان المثل مضروب للمنفقين، وإذا كان المثل مضروب للنفقات، مثل نفقات الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [سورة البقرة:261].
وهنا وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ غارس جنة، إذا كان المثل قد ضُرب للمنفقين، وإذا كان المثل قد ضُرب للنفقات: ومثل نفقات الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتًا من أنفسهم، كمثل جنة، فهذا يحتمل، وبين الأمرين (المُنفق والنفقة) مُلازمة، والمقصود: بيان عِظم عائدة هذه النفقة، وما يكون لها من ثمرة، وعائدة تعود على صاحبها عند الله -تبارك وتعالى.
فالذي يُنفق ماله رئاء ناس مثله بالصفوان، الذي عليه تراب، فأصابه وابل فغسله، ولم يرجع من ذلك بشيء، وهنا على عكس ذلك: جنة بربوة، فهذا لا شك أنه بيان للبون بين الحالين، والفرق العظيم بين هؤلاء وهؤلاء.
ويؤخذ أيضًا من هذا المثل: أن هذه الجنة لطيب أرضها يُؤثر فيها المطر الكثير، والمطر القليل، فهؤلاء الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله إن أنفقوا نفقة كبيرة فذلك عظيمٌ ينفعهم، كهذا الوابل الذي وقع على هذه الجنة؛ لأن الأرض طيبة، فيزكو فيها النبات، وإن أنفقوا نفقة صغيرة فإن ذلك يزكو عند الله -تبارك وتعالى، والجامع المشترك في ذلك كله هو زكاء هذه النفقات، وأنها تعظم عند الله -تبارك وتعالى، ولا تضيع، وكلها يُضاعف، الكثير يُضّعف، والقليل يُضّعف عند الله .
فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ يحتمل أن يكون المراد أنها تؤتي أُكلها ضعفين على ظاهر اللفظ، ويحتمل أن يكون المقصود بذكر الضعفين الكثرة، يعني: آتت أضعافًا مُضاعفة، والعرب قد تُعبر بمثل هذا، وتقصد به كثرة التضعيف، لا أن المقصود بذلك شفع الواحد ضعف ما أنفق، وإنما الكثرة ضعفًا بعد ضعف، وهذا أبلغ في التشبيه، والله -تبارك وتعالى- أخبرنا في المثل السابق أنه كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [سورة البقرة:261] فذلك أعظم من الضعفين، والمنفق لا يكون له ثواب حسنتين، وإنما المقصود بذلك التكثير، أو أن المقصود بالمثل هو بيان ما يحصل من الزكاء والكثرة والنماء لهذه النفقات، فهي تُضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر، والله يُضاعف لمن يشاء، كما سبق.
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ هناك كان الحديث عن الغائب وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أي: هم، ثم قال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ فوجه الخطاب إليهم، فكان ذلك من قبيل الالتفات من الغائب إلى المخاطب؛ لأن هذا مقام إيقاظ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيُحرك في نفوسهم الإخلاص والمراقبة، والاحتساب عند الله -تبارك تعالى، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ [سورة يونس:61] وهكذا في كل الأعمال التي يزاولها الناس، يستشعر المؤمن، ويستحضر النية الصالحة عند العمل، ويبتعد عن المقاصد الفاسدة من الرياء والسمعة، وما إلى ذلك، فكل هذا لا يُغني عنه شيئًا، ولا ينفعه عند الله -تبارك وتعالى.
وقوله -تبارك وتعالى: وَاللَّهُ بِمَا فـ(ما) هذه تفيد العموم، فيدخل فيه ما ذُكر من النفقات دخولاً أوليًا، يعني: والله بما تعملون من الإنفاق بصير، فإذا كان كذلك فينبغي أن يكون العبد محتسبًا أجر هذه النفقة، وأن لا يقع في قلبه شيء من التردد، وأن يكون قصده خالصًا، إلى غير ذلك مما يُطلب في هذه النفقات، وهذا ترغيب بكثرة الإنفاق أيضًا، ويدخل في ذلك عموم الأعمال بِمَا تَعْمَلُونَ بكل عمل تعملونه بصير، والعمل يدخل فيه الإنفاق وبذل المال، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، والأعمال القلبية، وما يقوم في القلب من الإخلاص، أو التردد، أو الرياء، أو السمعة، فيكون ذلك أيضًا من قبيل الزجر عن المقاصد الفاسدة.
بَصِيرٌ هذه صفة من صفاته -تبارك وتعالى- على بناء المبالغة، يعني: أنه نافذ البصر، فلا يخفى عليه شيء، يرى دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصفاة السوداء، ويرى العباد والسر عنده علانية، فهذا يحمل المؤمن على أن يجُوّد هذه النفقات، وأن يُنفق مما يُحب، ولا يتحرى في نفقاته ما يكره، أو يتخير من فئات العملات النقدية الأقل ليعطيه إلى الفقير، والإنسان يكون مع صدقته بحسب حال هذه الصدقة.
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فهذا في النفقات وفي غير النفقات، فإذا أراد الإنسان أن يعصي الله، أو أن يعمل طاعة فليتذكر هذا، وإذا أراد أن يقوم الليل وتثاقل أو أصابه شيء من الكسل، يتذكر أن الله بصير، وإذا خلا وأُتيحت له معصية فإنه يتذكر أن الله بما يعمل بصير، وأعماله الصالحة التي يعملها لا حاجة لأن يوصل إلى الآخرين رسائل بأي لون من الألوان إما صراحة وإما كناية: أنه قد عمل العمل الفلاني، فالله يعلم عمله، ولا يخفى عليه خافية، فيكون التعامل مع الله فحسب، ولا حاجة لاطلاع المخلوقين على أعمالنا، ولا حاجة لكتابة أسمائنا على هذه الأعمال التي نقوم بها ونبذلها، فالله بما نعمل بصير، فيكون ذلك سببًا لتربية المراقبة.
ونحن في أوقات -أيها الأحبة- وفي زمان أصبح الرادع الوحيد الذي يمكن أن يردع الناس عن كثير من الشرور هو مراقبة الله وحده، وإلا فإن الناس يصلون إلى أنواع الشرور في أرجاء المعمورة، عبر هذه الوسائط والوسائل، فكل ذلك متاح يصل إليه الصغير والكبير، لكن يبقى نظر الله ، ورقابته، فيخشاه العبد، ويرعوي، ويتعامل معه على هذا الأساس: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فهذه التعقيبات في هذه الآية وفي غيرها مما يُربي النفوس على هذه المعاني.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.