بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة البقرة:267].
فهذه الآية الكريمة مضى الكلام على صدرها وبقي من الفوائد والهدايات المستخرجة منها ما يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، أنفقوا فالأصل أن الأمر للوجوب أنفقوا، وهذا يدخل تحته النفقات الواجبة التي هي الزكاة مثلاً، ويدخل النفقات المستحبة فهو عام، منه ما هو واجب، ومنه ما ليس بواجب، أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، ذكر هذين النوعين طيبات ما كسبتم فهذا التجارات ونحو ذلك، تُكتسب بالبيع والشراء ونحوهما، ومما أخرجنا لكم من الأرض، هذا الزروع والثمار، فذكر هذين النوعين.
وهناك أنواع أخرى تخرج منها الزكاة كما هو معلوم، فهل هذا يدل على الاختصاص بهذين النوعين؟
الجواب: لا، ولكن يمكن أن يُجاب عن هذا بأحد جوابين يذكرهما أهل العلم:
الأول: أن يكون ذلك باعتبار أن هذا هو الغالب في الأموال التي بأيدي الناس ولربما في ذلك الزمان، التجارة والزروع، المهاجرون أهل تجارة والأنصار أهل زرع، فذكر هذين النوعين.
والثاني: ويحتمل أن يكون ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أنها الأصول، يعني: التجارة يدخل تحتها سائر أنواع التجارات من البيع والشراء والإيجارات كذلك أيضًا المضاربات ونحو ذلك.
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، يدخل فيه ما أخرجه الله -تبارك وتعالى- من الأرض من الزروع والثمار والمعادن، الركاز ونحو ذلك كل هذا يدخل فيه، فيكون ذلك شاملاً عامًا فتكون هذه التجارة مثلاً قد تكون في المواشي وقد تكون في العقارات وقد تكون في غيرها، هذا احتمال، وإن كان هذا الجواب قد لا يكون متوجهًا بصورة واضحة قوية؛ لأن المواشي لا تدخل تحت التجارة إلا إن كانت من عروض التجارة لكن السائمة لا تدخل في هذا ولا تدخل في قوله: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، فيكون هذا باعتبار أن هذا هو الغالب مثلاً أنها كانت الأموال التي بأيديهم في ذلك الوقت هذا يحتمل والعلم عند الله .
ويدل أيضًا قوله -تبارك وتعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، أن الزكاة تخرج من المعادن فهي من جملة ما يخرج من الأرض.
كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، يعني: الآن بقي المال الموروث هذا لم يكتسبه الإنسان بعمله وسعيه وبذله ولهذا يقال فلان حارث وليس بوارث، أو فلان وارث وليس بحارث، يعني: لم يحصل هذا المال بسعي وعمل وبذل وجهد وإنما ورثه من غيره.
يحتمل أن يكون ذلك باعتبار أن الإنسان إذا أخرج من المال الذي اكتسبه وهو أحرص ما يكون عليه؛ لأنه تعب في جمعه وتحصيله فإنه يُخرج ما عداه من باب أولى، فالأموال التي يرثها الإنسان الغالب أنه لا يُبالي كيف أنفقها، يعني: قد يُنفق هذه الأموال بأمور ليست ذات أهمية باعتبار أنه ما تعب فيها وقد يُضيع هذه الأموال بألوان من التصرفات التي لا تُجدي عليه نفعًا، هذا يحتمل.
ويحتمل أيضًا أن يكون ذلك مما يدخل في المكاسب بشيء من التوسع، والحديث: لا تزولا قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن...، -وذكر منها: وعن ماله من أين اكتسبه[1]، فيدخل فيه إذا كان وارثًا أو إذا كان قد حصله من مصادر أخرى غير الإرث.
كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، أي: ومن طيبات ما أخرجنا لكم بحيث لا يتخير من الزروع والثمار الرديء فيُخرج ذلك في الزكاة أو في الصدقة، وهذا الرجل الذي وضع العذق من الشيص وقال فيه النبي ﷺ: إن صاحبه ليأكله شيصًا يوم القيامة[2]، هذا مما أخرج الله من الأرض، هذا من الزروع، فليس للإنسان أيضًا أن يُخرج الرديء بل عليه أن يُخرج الطيب من الخارج من الأرض فهذا واضح باعتبار أن ما قبله مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ دل عليه، وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ هنا أعاد "من" للدلالة على التأكيد والتنصيص على أن هذا يجب فيه، أو ينبغي فيه، أو أن هذا مما يُخرج ومما يُنفق منه في سبيل الله وهذا أيضًا كذلك.
فكل هذه الأموال ينبغي أن يُنفق الإنسان منها وكل بحسبه، فإذا كان الإنسان صاحب تجارة يُنفق من هذه الأموال، وإذا كان صاحب زروع يُخرج من الثمار والحبوب، وإذا كان هذا الإنسان صاحب ماشية فإنه يُخرج منها، وقد تكلم أهل العلم على المُخرج من هذه الأنواع في الزكاة هل يُجزئ أن يُخرج المال عنها أو لا؟
بالنسبة لعروض التجارة لا بأس أن يُخرج الإنسان القيمة، عنده مثلاً تجارة في المعدات، أو تجارة في الأقمشة أو المواد الغذائية لو أخرج من القيمة لا إشكال إن شاء الله وإن لم يكن هذا محل اتفاق، لكن الخلاف أقوى في مثل السائمة هل له أن يُخرج القيمة؟ وفي مثل الزروع والثمار هل له أن يُخرج القيمة أو لا مما يجب فيه الزكاة؟ عنده تمور نخيل هل له أن يُخرج قيمة يُقدر ثم يُخرج القيمة أو لا؟
هذا خلاف قوي بين أهل العلم والأحوط أن لا يفعل، والقول بأن ذلك لا يُجزئه قول له وجه قوي من النظر وعليه أدلة.
وبهذه المناسبة أقول: مما أخرج الله من الأرض النخيل التي في بيوت الناس واستراحاتهم، وهذه يغفلون عنها كثيرًا، يظن كثيرًا من الناس أنه إنما يُخرج من الزروع والثمار ما كان في المزارع لكنهم قد يزرعونه في بيوتهم النخيل مثلاً، وقد تجد ذلك يبلغ النصاب يعني النبي ﷺ ذكر أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، والوسق ستون صاعًا، فقد يكون الثمر لهذه النخيل في البيوت أكثر من هذا المقدار، يعني: مما يجب فيه الزكاة، يعني: يوجد في البيت أحيانًا أكثر من ثلاثين نخلة وهذه ثمرها في الغالب يتجاوز النصاب فتجد هؤلاء الناس يتساهلون مع أنهم قد يهدون كثيرًا ويتصدقون لكن لا يخطر ببالهم الزكاة مع أنها تجب الزكاة فيها، وهكذا بعض الناس قد يعمل في استراحة أو نحو ذلك يعمل زروع يعمل محميات ويرى أنها من باب التسلية، أو أنها من باب إشغال العامل، أو نحو هذا وقد يكون ثمرها يتجاوز النصاب أو يبلغ النصاب فلا يخرج الزكاة ولا يخطر ذلك بباله ليس بخلاً فيها هو ينفقها هنا وهناك لربما يعطيها ويهديها لكن لا يعلم أنه يجب عليه فيها الزكاة، فهذه الأمور ينبغي أن تُراعى.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، فُهم من هذا أن المتعين أن يُخرج من طيبات الأموال، لكن قال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ، هذا فيه زيادة بالتأكيد مع أن ذلك مفهوم من قوله: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، وكذلك في قوله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ، لا تيمموا يعني لا تقصدوا تتوجهوا إلى الخبيث فهذا يدل على شيء من التكلف في التعني وطلب الرديء من الأموال، فجاء بصيغة التفعل: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ، منه تنفقون ما قال: تنفقون منه فقدم المجرور وهذا فيه إشعار بالتخصيص، وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ، والتعبير بالفعل المضارع يدل على الاستمرار فتقديم ذلك الجار والمجرور منه، يدل على التخصيص فكأن هذا من ديدنه أن يُخرج الرديء، لا يخرج إلا الرديء تنفقون، لكن كما ذكرنا أن الإنسان إذا كان بيده شيء لا رغبة له فيه أو فضلة من طعام أو ثياب مستعملة هو لا يرميها ولا يهدرها بل ينبغي حفظ هذه النِعم وإعطاء ذلك لمن ينتفع به، لكن المقصود تيمموا يتقصد الرديء وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ، كأنه لا يلتجأ إلا لهذا ولا يتوجه إلا إليه ولا يخرج إلا الرديء مِنْهُ تُنفِقُونَ يدل على الاستمرار فعل مضارع، هذه ديدنه في نفقاته لا يخرج، تجد المرأة تقلب الثياب وإذا رأت لربما ينتفع به أو جيد أو فيه جِدة قالت: لا، هذا حسافة، حسافة على ماذا؟ حسافة على الصدقة، فتطويه، ثم تبحث عن الرديء جدًا وتقول: هذا أخرجوه، تمر لا هذا جيد هذه نوعية جيدة، هذا أصفر، هذا فاخر خلوه، طيب وما الذي يُخرج؟ يُخرج الرديء القديم الحويل الأسود الذي لا يأكله ولا تطلبه نفسه فهذا لا يجوز، وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ، ولاحظ مع قوله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92]، لا ينال الإنسان بما يرجوا عند الله -تبارك وتعالى- حتى علقه بهذا، وحتى للغاية: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92]، ما قال: تنفقوا كل ما تحبون لكن مما تحبون.
فينظر الإنسان في الطعام الجيد فيُخرج منه، ينظر في اللباس الجيد ويُخرج جديد، الذي لم يُلبس يقول هذا الثوب الذي ما لبسته هو الذي سأخرجه، هذه العمامة التي ما لبستها هي التي سأتصدق بها، أو على الأقل إذا أخرج شيئًا لا تهفو نفسه إليه ولا تطلبه يُخرج معه شيئًا آخر جيدًا، فهذا ينبغي أن يُراعى هذا حيث يُعطى للمحتاج وللفقير، لكن هذا الذي يوضع في الصناديق صناديق الملابس الذي يظهر -والله أعلم- أنه لا يدخل في هذا أصلاً، والسبب أن أفخر قطعة لباس ولو كانت جديدة بأغلى ثمن هي وأردى قطعة لباس بأقل ثمن ما لا تساوي ربع ريال سواء؛ لأن هذا يُباع لا يُعطى للفقراء يُباع بالجملة، حملة هذه السيارة كم، كم حملة الشاحنة هذه؟ بسبعين ألف، لو أنها ممزقة، لو أنها ما تصلح لمسح الأرض هي والجديد واحد، هذا ليس بمقصود، وأما بما يجري أحيانًا بعقد إجارة أنه يؤجر هذا الصندوق على جهة أخرى مستفيد يعني يؤجر له ويقال له: بالسنة مثلاً بكذا من المال بسبعين ألف أو بمائة ألف أو بمائتين ألف بالسنة هذا لا يصح؛ لأن هذا عقد إجارة على مواد يتملكها الطرف الآخر المشتري، وهي ليست إجارة، الإجارة عقد على المنافع وليست على الأعيان، وهذا يتملك أعيان بعقد إجارة هذا لا يوجد شرعًا، إضافة إلى أن هذه الإجارة على مجهول، يعني: ما هي الثياب التي ستوضع؟! ما مقادرها؟ قد تكون قليلة وقد تكون كثيرة، وكثير من الناس قد يتساهل ويُسلي نفسه يأخذ ثيابه كلها عشرة ثياب ويقول: كل ستة أشهر سأجدد الثياب، والحمد لله أتصدق بها، ويضعها في هذا الصندوق، الواقع أنها هذا مصيرها أنها تُباع جزافًا هي وأردى الثياب واحد، وهكذا هذه الأجهزة الكهربائية وغير الأجهزة الكهربائية التي توضع هذا المكان هي تباع هكذا لربما بسعر الحديد توضع بميزان حديد، الصالح وغير الصالح واحد لربما، لكن لو أنك أعطيتها للفقير أو من يعطيها للفقير فهذا يُراعى فيه هذه الأمور، -والله المستعان.
وكثير من الناس لربما يسرعون ويكثرون من تغيير الأثاث ويعتقدون أن هذا لا بأس هم يتصدقون به في سبيل الله المستعمل ما علموا أنه يُباع لربما بعُشر معشار الثمن، ولو علموا ما أخرجوه، لكن لو أوصلوه للفقير فهذا جيد.
كذلك يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، يعني: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[3]، اللائق بالإنسان أنه يجعل نفسه دائمًا مكان الآخرين، ما الذي تحبه لنفسك؟ ضع أخاك في موضعك إذا خاطبته إذا عاملته إذا أعطيته، إذا أهديته، إذا تصدقت عليه، ضع نفسك مكانه: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، إذا كنت ما تأخذ هذا إلا على إغماض يعني بغض الطرف حياء ومجاملة للمعطي ولربما أخذته من هنا وأخرجته من الباب الآخر أو من الجهة الأخرى لا تريده، فكيف بعد ذلك ترضى ذلك لغيرك، كيف ترضى ذلك لأخيك فهذا يُشبه القياس.
إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، هو لا يقبله إلا على سبيل الإغماض حياء فهذا الإغماض يعني كأن الإنسان يقول: قبل ذلك على شيء من الإغماض كأنه يُغمض عينيه فلا يراه ولا ينظر إليه حياء أو كراهية أو نحو ذلك على سبيل الإغماض، بمعنى أنه لو نظر إليه وصوب النظر إليه فإنه لا يقبل ذلك ولا يحتمله على سبيل الإغماض التجاوز التمرير والإغضاء كما يقال وهو مثل: الإغماض، الإغضاء وأصل ذلك بالبصر، ويكون ذلك بسبب الحياء أو غير ذلك من الدواعي، إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، فهذا يحصل في الشيء المكروه الذي يكرهه الإنسان.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، اعلموا هذا يدل على الاهتمام والإيقاظ والتنبيه، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، هم يعلمون ذلك ولكن أراد التأكيد على هذا المعنى والتنبيه وإيقاظ الأذهان والقلوب بأن الله غني حميد، بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- غني عن هذه الصدقات وهو محمود في غناه، فهذا الذي يتصدق وهو غني ويعطي الرديء هذا ليس بمحمود، هذا من الشح والبخل الذي يُذم صاحبه، وتنحط مرتبته، فالله غني وهو أيضًا حميد، وعامة أهل العلم يفسرون الحميد بالحامد الذي يحمد خلقه، هذا الذي عليه السواد الأعظم، ونقل عليه ابن القيم الإجماع.
والواقع أنه وجد من خالف في هذا فإذا كان حامدًا -تبارك وتعالى- فهو معلوم أيضًا أنه محمود فله الحمد ، حميد فاجتماع الحمد مع الغنى هذا كمال آخر؛ لأن الغنى في كثير من الأحيان يكون سببًا للمزاولات غير محمودة غير جيدة: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7]، أو البخل وهذا كثير، أن الغنى يوجد معه شيء من الإمساك والتقتير والبخل ونحو ذلك من الصفات المذمومة، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، غني عنكم وعن صدقاتكم هذه فكيف تقصدون هذا الرديء وأنتم من ينتفع بهذه الصدقات.
وحميد على وزن فعيل هذه صيغة مبالغة فهو يُثني على فاعل الخير والمتصدق والمنفق، وأما هذا الذي يتخير الرديء فهو مذموم قد قال الله : الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37]، وكذلك: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [سورة الماعون:2]، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى [سورة العلق:9، 10]، إلى آخر ما قال الله ، هذه من صفات الكفار ومن صفات المنافقين.
وقال: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128]، وقال: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9]، فهذا الشُح مغروس في النفوس فيحتاج إلى مجاهدات من أجل أن يتخلص الإنسان منه، والنفس طُلعة تتطلع كثيرًا إلى المزيد إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج:19-22]، ثم ذكر أوصافهم، فالتخلص من مثل هذه الأوصاف يحتاج إلى مجاهدات ومزاولات وأعمال من الصلاة والمحافظة عليها وما إلى ذلك؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب في القيامة، برقم (2417)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7300).
- لم أجده بهذا اللفظ ولكن أخرج أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة، برقم (1608)، عن عوف بن مالك، قال: دخل علينا رسول الله ﷺ المسجد وبيده عصا، وقد علق رجل قِنًّا حشفًا، فطعن بالعصا في ذلك القِنو، وقال: لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها، وقال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة، والنسائي، كتاب الزكاة، باب -قوله : وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [سورة البقرة:267]، برقم (2493)، وابن ماجه، أبواب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله، برقم (1822)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1426).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، برقم (13)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، برقم (45).