بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنواصل الحديث في الكلام على هذه الهدايات المستخرجة من هذه الآيات التي يذكر الله -تبارك وتعالى- فيها الإنفاق ويحث عليه في أواخر سورة البقرة، وقد بلغ الحديث قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [سورة البقرة:269].
هذه الآية جاءت في ثنايا الآيات التي تتحدث عن الإنفاق، كما قلنا في آية الدعاء في سورة البقرة: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186]، أنها جاءت في ثنايا آيات الصيام، وقلنا: بأن ذلك يُشعر بأن للدعاء مزية في وقت الصوم لاسيما في شهر رمضان، وقد أخبر النبي ﷺ أن للصائم دعوة مستجابة[1]، فهذه الدعوة في وقت صومه من أوله إلى منتهاه، وأما ما ورد من أن ذلك عند فطره فإنه لا يصح عن النبي ﷺ وإنما الصحيح: للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه[2]، فالصائم إذا أراد أن يتحرى الدعاء فعليه أن يتحرى ذلك في وقت الصوم لاسيما في الأوقات التي يُستجاب فيها، أيضًا كما بين الأذان والإقامة، وكذلك في الأحوال كحال السجود.
فهنا يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، ما العلاقة بين هذه الآية وآيات الإنفاق؟ ذكر أهل العلم وجوهًا في الارتباط وهو ما يُعرف بالمناسبة بين الآية وما قبلها، أو ما بين الآية وما بعدها، فذكر بعضهم أن ذلك باعتبار أن تلك التوجيهات التي وجّه الله عباده بها في نفقاتهم، وضرب لهم الأمثال، وبين لهم ما يُخل بهذه النفقات مما يتصل بالمقاصد والنيات الإخلاص، وكذلك ما يتعلق بالمن والأذى، فالذي يفقه عن الله الذي يفهم عن الله، الذي يعقل عن الله هو الذي أوتي الحكمة، من يعقل تلك الآيات والتوجيهات الربانية هو من آتاه الله الحكمة.
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [سورة البقرة:269]، وذكر بعضهم وجهًا آخر وهو وجيه، وله حظ من النظر، وذلك باعتبار أن هذه النفقات وما لها من الفضائل فقد جاء الترغيب فيها والحث عليها، وضرب الأمثال لذلك وهنا نوع آخر من النفقات وهو الحكمة، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وهنا قال: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.
والحكمة فُسرت بمعانٍ لا منافاة بينها، وهي بحسب السياق، ففُسرت بالفقه في الدين وهذا معنى صحيح والنبي ﷺ يقول: لا حسد، -أي: لا غبطة- إلا في اثنتين: -يعني: في خصلتين- رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق..[3]، هؤلاء أهل الإنفاق في الآيات السابقة.
الثاني: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويُعلمها، وهذا هو العلم بالله والفقه في دينه، هذه توجيهات ومناسبات ذكروها في وجه الارتباط، فالحكمة فُسرت بهذا الفقه في الدين، فُسرت بالعلم في كتاب الله -تبارك وتعالى- ولا شك أنه الفقه في الدين.
وفُسرت أيضًا بوضع الأشياء في مواضعها وإيقاعها في مواقعها، فالحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه.
وفُسرت أيضًا بالإصابة بالقول والعمل وهذه معاني صحيحة مُلتئمة لا منافاة بينها، فهذا الذي عنده الفقه في الدين هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ويوقعها في مواقعها، هو الذي يوفق للصواب في القول والعمل.
وفي بعض المواضع تُفسر بالنبوة كما قال الله -تبارك وتعالى- عن داود في آية سبق الكلام عليها: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:251]، فهذه الحكمة فُسرت بالنبوة، مع أن بعضهم قال غير ذلك، لكن تفسير ذلك بالنبوة في تلك الآية أقرب، وهكذا في قوله تعالى عن داود : وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [سورة ص:20]، فالحكمة النبوة، وفصل الخطاب قيل فيه معانٍ منها قول: أما بعد، فصل الكلام بين مقدمته والثناء على الله -تبارك وتعالى- وما يعقب ذلك من مقصود الكلام الذي يشرع فيه المتكلم، فيقول: أما بعد.
هنا: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، يؤتي الإصابة في القول والعمل، الفقه في الدين، العلم بكتاب الله -تبارك وتعالى- من يشاء، من يشاء من عباده، من أنعم الله عليه بذلك، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، ومن يُعطى الحكمة يوفق للإصابة بالقول والعمل ويُفقه في دين الله -تبارك وتعالى- فقد أوتي خيرًا كثيرا، فدل ذلك وهذا الوجه الثاني في المناسبة الذي أشرت إليه إلى أن هذا النوع من الإنفاق أعظم من النوع الأول، يعني: بذل العلم أعظم من بذل المال؛ لأنه هنا قال: فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، ولم يقل ذلك بالمال بل قال عن المال وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة القصص:60]، فهذا المال مهما أوتي الإنسان منه فهو متاع الحياة الدنيا، وبينما هنا: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، هذا لم يرد في المال بحال من الأحوال.
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [سورة البقرة:269]، أصحاب العقول الراجحات الذين يعقلون عن الله -تبارك وتعالى، العقول التي استنارت بنور الله -جل جلاله، وتقدست أسماءه.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، أن ما يكون عند الإنسان من الفقه في الدين والعلم والعقل وحسن النظر في الأمور كل ذلك من فضل الله -تبارك وتعالى- عليه، فهذه هبات من الله ولذلك فإن العلم الشرعي هو رزق من الله فهذا الفقه في الدين: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، هذا من الله.
من الناس من يقضي زمنًا طويلاً في طلب العلم ولكنه لا يُحصل منه شيئًا، ومن الناس من لا يوفق إلى سلوك ذلك من أصله فلا يرفع بذلك رأسًا فإذا وفق الله عبدًا من عباده إلى الفقه في الدين والعلم بكتاب الله -تبارك وتعالى- فينبغي أن يزيده ذلك إخباتًا وتواضعًا لله وتواضعًا للناس، فلا يورثه ذلك غرورًا وكبرًا وتيهًا فيتعاظم في نفسه ولا يرى الناس شيئًا فهذا لا يتفق مع هذا الإفضال والإنعام من الله ، فإذا استشعر المؤمن هذا المعنى فإنه يتواضع ويكون مخبتًا خاضعًا منكسرًا لا يترفع بهذا العلم بحال من الأحوال.
وهذه المعاني هي التي تربي النفوس، إذا أخذ العلم من مأخذه الصحيح وكما يقول الشاطبي -رحمه الله- في أول كتابه الموافقات حيث ذكر: أنه لا يُحل لأحد أن ينظر في كتابه -وكتابه من أدق كتب أصول الفقه ومن أعظمها وأجلها- يقول: إلا من رباه الشيوخ، إلا من تخرج على يد الشيوخ[4]، يعني: بذلك أنه أخذ العلم من مأخذه الصحيح، لكن إذا كان الإنسان يأخذ العلم من مأخذ غير صحيح من قراءات ونحو ذلك بعيدًا عن ثني الركب بين يدي العلماء، والأخذ من هديهم، وسمتهم ودلهم، وما أشبه ذلك، العلماء الربانيين فإنه قد يزداد بهذا العلم صلفًا، وتيهًا، وكبرًا، وغرورًا، ويرتكب ما يرتكب من أنواع الحماقات ولربما يظلم من تحت يده، ويتأذى به من خالطه، ولربما أقرب الناس إليه الزوجة والأولاد فمثل هذا لا يليق.
فهذا هو الطريق، وليس ما ذكره أبو حامد الغزالي حيث كان في آخر حياته قد تصوف، واعتزل العلم، واعتزل الناس، وألف كتابًا أو رسالة في هذا المعنى وذلك أن العلم والفقه في الدين وما إلى ذلك أنه يورث الآفات من الكبر، والصلف، والغرور، والعُجب، ورؤية النفس، وما أشبه ذلك فلا يرى الطريق في طلب العلم، وإنما يرى الطريق في التعبد والزهد والخلوة، وهذا غلط، لا يُعبد الله إلا بما شرع، فلا يمكن أن يُعبد بالجهالة ولكن أيضًا ذاك الذي يأخذ العلم من غير مأخذه الصحيح لا شك أن هذا قد يقع في كثير من الآفات.
وقد أخبر النبي ﷺ عن الثلاثة الذين هم أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة، وذكر منهم: الذي تعلم العلم وفي بعض الروايات: قرأ القرآن[5]، فهذا تعلم ليُقال عالم وقد قيل فيؤمر به إلى النار، وذاك قرأ ليُقال قارئ فالعلم يكسره إذا كان ذلك قد أخذه من مأخذه الصحيح، هذا هو الفرق، قد تجد من لديه معلومات كثيرة حصل من العلم أشياء كثيرة لكن لا تستطيع مقاربته هو عبارة عن مجموع من الآفات تجد فيه من الكِبر ما لا تجد عند كبار أهل الدنيا، وتجد فيه من الصلف ما يمكن أن يوزع على فئام من الناس، تجد فيه من الغرور والتيه فهذا لا يليق بحال من الأحوال، والإنسان قد يُسلب ذلك ويتلاشى هذا العلم والحكمة فيتحول إلى حال مرذولة.
يؤخذ من هذه الآية أيضًا: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ، إذا كان الله هو الذي يؤتي الحكمة من يشاء فهو أولى بذلك، فالله من أسماءه الحكيم، ومن صفاته الحكمة، فهو واهب الكمال، وواهب الكمال أولى به، والقاعدة: أن كل كمال أُضيف إلى المخلوق فالخالق أولى به؛ لأنه مُعطي الكمال، وهذه القاعدة مقيدة، المقصود بالكمال الذي يوصف به المخلوق ويكون الخالق أولى به يعني الكمال المطلق ليس الكمال النسبي، يعني الولد والزوجة بالنسبة للمخلوق والأكل والشرب والنوم من الكمالات؛ لأنه لو لم ينم لكان عليلاً، ولو لم يأكل ويشرب لكان معتلاً قد اختل مزاج بدنه، وهكذا الزوجة كمال، والولد كمال، لكن هذا كمال نسبي بالنسبة للمخلوقين لكن ليس بكمال مطلق، أما الحكمة فهي كمال مطلق بلا قيد، العلم كمال مطلق، وهكذا أوصاف الكمال: كالعظمة والرحمة وكذلك الإحسان ونحو ذلك.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، إثبات المشيئة لله وأن ذلك عن علم وحكمة، فالله -تبارك وتعالى- يعطي من شاء ما شاء من العطاء الدنيوي والعطاء الأخروي: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [سورة الإسراء:21]، فهذا التفضيل حاصل بين الخلائق منه تفضيل وهبي بمعنى أن الله يُعطي من المواهب لبعض عباده من غير جهد منهم، ومنه ما يكون من قبيل الوهب الكسبي يعني بمعنى أنه يجد ويجتهد ويوفق ويُحصل فذلك عن علم وحكمة.
ومن ثَم فإذا علم الإنسان ذلك فإنه لا يكون بحال من الأحوال منطويًا على شيء من الحسد؛ لأن هذا الحسد اعتراض على قسمة الله وتدبيره وتصريفه أمر الخليقة، فهو الذي يُدبر ويُعطي من شاء عن علم وحكمة، فهذا الحاسد معترض على عطاء الله : أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32]، يعني: النبوة، ردًا على أولئك الذين اعترضوا على نزولها على النبي ﷺ وحسدوه على هذا.
فهنا إذا أدرك المؤمن ذلك فإنه يعلم أن هذه العطاءات من الله فيكون قلبه طيبًا نظيفًا لا يحمل حسدًا على أحد من الخلق، وإنما يعلم أن ذلك من الله فيسأل ربه -تبارك وتعالى- أن يهبه، هذا زكريا لما رأى مريم: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا [سورة آل عمران:37]، وتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتًا حسنا، فدعا ربه أن يهبه ذرية طيبة زاكية: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [سورة آل عمران:38]، فلما يحسد أمها، ولما يحسد أباها، وإنما سأل الواهب الغني ، فهكذا ينبغي للمؤمن إذا رأى شيئًا يُعجبه فإنه يدعوا لصاحبه بالبركة ثم يتوجه إلى الله ويسأل ربه أن يعطيه، وأن يمنحه، وأن يهبه فتكون القلوب سالمة من هذا الداء الحسد.
كذلك أيضًا: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأن صلاح القلب وحقه والذي خلق من أجله هو أن يعقل عن الله[6]، يعقل الأشياء، يقول: لا يعلمها فقط بل أن يعقل ذلك، قد يعلم الشيء من لا يكون عاقلاً له بل غافلاً عنه، ملغيًا له، لدينا معلومات كثيرة ولكن العقل عن الله شيء آخر، فهذا العقل عن الله كما يقول شيخ الإسلام هو الذي يُقيده، ويضبطه، ويعيه ويُثبته في قلبه فيكون وقت الحاجة إليه غنيًا فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره، يقول شيخ الإسلام: هذا هو الذي أوتي الحكمة هو الذي قال فيه: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وقد قال أبو الدرداء : "إن من الناس من يؤتى علمًا ولا يؤتى حكما وإن شداد بن أوس ممن أوتي علمًا وحكما"[7]، هذا محصل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[8].
وهنا: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [سورة البقرة:269]، فهذه الآية تتصل بموضوع الإنفاق من جهة أن أولئك الذين أوتوا المال هذا فضل من الله والتوفيق إلى إنفاقه فضل آخر، ولكن الذي يؤتى الحكمة قد أوتي ما هو أفضل من هذا وبذل هذه الحكمة للناس أعظم وأجل.
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فهنا يذكر مراتب الأعمال، والأشياء والتحصيل الذي يحصله الناس من المطالب المادية، والمطالب المعنوية من المطالب الدنيوية والمطالب الأخروية.
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، والتنكير في قوله: فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا، يدل على التعظيم أنه أعطي، وهذا أين تجده في الأوصاف المذكورة في القرآن، فهذا شرف لمن آتاه الله الحكمة، هذه الحكمة لا تتأتى إلا لمن فقه الله في دينه، وذلك كان على المؤمن أن يسعى في التفقه في الدين، وأن يعرف ما يأتي، وما يذر، والأحكام المتعلقة به ولا يشترط في ذلك أن يتحول الناس جميعًا إلى طلبة علم، وأن يتركوا المهن والأعمال والتخصصات الأخرى ويشتغلون بالعلوم الشرعية، ولكن لا ينقطع، ولا يكون بعيدًا فيقع في المخالفات وهو لا يشعر ويجني على نفسه في تصرفاته وهو لا يشعر فإن الجاهل يكون عدوًا لنفسه، يريد نفعها وصلاحها فيوقعها في مهاوي، وفي أمور قد لا يستطيع الخروج منها، وقد يُغرر بنفسه فيقع في عظائم قد تذهب بدنياه وبآخرته، ولذلك تجد الأشرار قد يتخيرون الأغرار الصغار ممن ليس لهم تجربة كثيرة في الحياة ولا فقه في الدين فيُغررون بهم في أمور تذهب بدنياهم وقد تذهب بآخرتهم وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعا، يأتي بأسوأ الأعمال يتقرب بها إلى الله ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.
ثم أيضًا هذه الحكمة كما قال بعض الحكماء: من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه فلا يُذل نفسه إلى أهل الدنيا فيتحول طالب العلم أو العالم إلى حال مرذولة من التذلل عند أهل الأموال وأرباب الدنيا، ويكون بذلك قد أذى نفسه وأزرى بها وأزرى بهذا العلم الذي يحمله، فصاحب الحكمة صاحب العلم يكون عزيزًا، يكون عزيزًا لا يُذل نفسه.
وينبغي لمن آتاه الله ذلك أن يتذكر ويتفكر أنه ما قطع هذا العمر الطويل في تحصيل العلم من أجل أن يتحول إلى ذليل عند أرباب الدنيا، وإنما يكون عزيزًا كما ذكر هذا المعنى القرطبي -رحمه الله[9]، وعلل ذلك بأن ما أعطيه هذا فقد أوتي خيرًا كثيرًا لا يُقارن بما أعطيه أولئك وذلك أن الله سمى متاع الدنيا بالقليل، قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [سورة النساء:77]، وهنا: فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فهذا الذي أوتي خيرًا كثيرا يذل أمام هذا المتاع متاع الدنيا من أولها إلى آخرها، فمتاع هنا مفرد مضاف وذلك يُكسبه العموم كل متاع الدنيا من أولها إلى آخرها قليل، كل ما في أيدي الناس كل هذه الأشياء التي تراها جميلة والمراكب والقصور ونحو ذلك والدور والحدائق كل ذلك قليل لو جُمع كل ما عند هؤلاء فهو قليل، لكن الحكمة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.
وإذا أردت أن تُقارن لكن أن تُقارن عبر التاريخ في الماضي، ولك أن تنظر في الواقع المعاصر، الأئمة الكبار الذين ملئوا الدنيا وعلومهم تُدرس، ويُذكرون في المساجد، ويُترحم عليهم، والناس عالة عليهم وعلى علمهم، الإمام مالك النجم، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، والليث بن سعد، والإمام الأوزاعي، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وإبراهيم النخعي، وغير هؤلاء قائمة طويلة سُطرت المجلدات الكبار في ذكر سيرهم ومآثرهم وفضائلهم، هؤلاء بماذا حصلوا ذلك؟! كم من أهل الدنيا في زمانهم أين هم! سمي لي واحدًا من أهل الدنيا من التجار في زمان مالك أو الشافعي أو أحمد أو غير هؤلاء.
ثم تصور لو أن أمهات هؤلاء حملوهم على الاشتغال بأمور أخرى، لو أن أم الإمام مالك أو أم الشافعي أو أم أحمد أو سفيان أو غير هؤلاء قالت له: يا بُني وهي ترقصه وتلعبه أتمنى أن أراك كذا أو كذا أو كذا يعني من المهن الدنيوية، كما تفعل الأمهات اليوم يكون الولد موهوبًا، يكون قابلاً للعلم، لديه من الذكاء والقدرة على الحفظ والنباهة ما أعطاه الله من ذلك ثم لربما يكون هناك طموح قصير المدى والأمد في أول أيام الزواج يتمنون أن الولد لربما يكون عالمًا ويحفظ القرآن، ثم ما يلبث أن يُصرف قهرًا وقسرًا إلى مجالات لا يرغبها، والمحل قابل للعلم الشرعي بحجة أنه يأكل بذلك عيشًا، لقصر نظرهم يعتقدون أنه إذا توجه إلى ذلك التخصص الآخر المادي أنه بهذا يُحصل الظفر، تصور لو أن هؤلاء الأئمة الكبار فعلوا ذلك وربوا على هذه التربية.
تصور أن المعاصرين العلماء هؤلاء الذين في عصرنا، سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله، سماحة الشيخ محمد الصالح العثيمين، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي علماء العصر الكبار، تصور لو أن هؤلاء ربوا هذه التربية وتخرج واحد منهم يقود طائرة، والثاني تخصصه في الهندسة النووية، والثالث تخصصه في نوع من التخصصات الصحية أو الطبية، وفي كل خير، الأمة بحاجة إلى هذه التخصصات لابد منها، وهي من فروض الكفايات، ولا نهون منها، ولكني أقول ذلك لبيان حقيقة وهي: أن الكثيرين لربما يصرفون أولادهم عن مجالات يمكن أن يبدعوا من خلالها، وأن يكون الواحد منهم شمسًا عبر القرون يعم نفعه الأمة بأسرها، ثم بعد ذلك تقتل هذه الموهبة والقدرات ونحو ذلك، ويحول إلى شيء آخر، يُختزل في مجال محدود ضيق ثم يعيش يتعلم من أجل أن يأكل.
لا يُفهم من هذا التهوين من أي تخصص من التخصصات النافعة، هي فروض كفايات يجب أن توجد، لكن من الناس من يمكن أن يكون بارعًا في العلم فيُصرف عن ذلك، أتحدث عن ما أُشاهد يأتي هذا الولد ويحاول ويُصرف من قِبل أبويه بحجة أنه يريدون أن يرون هذا الولد في تخصص من هذه التخصصات الدنيوية أين هذا من قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [سورة البقرة:269].
ومن الفوائد التي تؤخذ من هذا: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، الحكمة وضع الأشياء في مواضعها، فقد يكون عند الإنسان من العلم ما لا يكون معه حكيمًا، فالعلم وحده لا يكفي بل لابد من العقل الراجح، فالحكم تكون من مجموع مركب الفقه في الدين وراجحة العقل، فقد يكون الإنسان عنده فقه في الدين عنده علم لكنه يتصرف تصرفات غير موزونة، ويصدر عنه كلمات لربما يكون ضررها أكثر من نفعها، يتكلم في وقت غير مناسب، يُفتي بفتوى مطلقة، وهذا قد يكون صالحًا لشخص معين، وقد يكون سريع الانفعال فيتكلم بكلام لربما يضر أكثر مما ينفع في لحظة انفعال، فإذا رجع تراد إليه عقله ندم على ذلك، ولربما قال: أنا ما قلت هذا، ومن حوله يقولون: نحن سمعنا ذلك منك.
فقد يكون الإنسان من أوعية العلم ولكنه ليس من أهل الحكمة، فالعلم وحده لا يكفي، وقد يكون الإنسان من أعقل الناس ولكن لا علم له ولا فقه فذلك العقل قد لا يُسعفه في كثير من المقامات، فلابد من اجتماع هذا وهذا، العقل والعلم، وبهذا يكون الإنسان في حال من الاعتدال فيكون ممن يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، يكون ممن رُزق الإصابة في القول والعمل وهذا كثير فيما يتعاطاه الناس.
ويمكن أن تُذكر أمثلة لهذا، سواء كان ذلك في أنواع التعبدات، أو الاشتغال والاهتمامات، وكذلك أيضًا التخصصات، وكذلك أيضًا في باب النفقات فإن ذلك أيضًا يحتاج إلى الحكمة أين يضع هذه النفقة، فهذه تجارة مع الله، قد يبني مسجدًا كبيرًا لا يصلي فيه إلا ربع صف، وقد يبني مساجد بقيمة هذا المسجد إلى غير ذلك مما لا يخفى.
كذلك في قوله تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [سورة البقرة:269]، هذا يدل أيضًا على فضيلة العقل، فاللُب هو العقل الراجح، فهذا التذكر لا يحصل إلا لأصحاب العقول الراجحة، أما من خف عقله فإنه لا يتعظ ولا ينتفع ولا يعتبر، لا يعتبر بما يقع لغيره، ولا يعتبر بما يقع له في نفسه، ولهذا قالوا: العاقل من وعظ بغيره والشقي من وعظ بنفسه، فمن الناس من لا يعتبر لا بهذا ولا هذا، ولذلك تجد هذا الإنسان يرى العِبر والشواهد والأمثال ولا يُغير فيه قليلاً ولا كثيرًا، يدخل المسجد ويخرج كما دخل، يسمع الخطبة ويخرج كما دخل.
وَمَا يَذَّكَّرُ [سورة البقرة:269] فالذي يذكر وينتفع بما يسمع وبما يُشاهد هؤلاء هم أولوا الألباب، فينظر العبد في نفسه، هل هو ممن يتذكر، هل هو ممن يعتبر، هل هو ممن يتعظ، هل هو ممن ينتفع بما يسمع، فهذه المواعظ الكونية أو الشرعية إنما ينتفع بها أصحاب العقول الذين يتدبرون ويتفكرون، ولهذا خصهم الله : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ، ولم يقل: لكل الناس، وإنما قال: لِأُولِي الأَلْبَابِ [سورة آل عمران:190].
وليس أيضًا لأصحاب العقول فقط هؤلاء الكفار لهم عقول أوتوا عقولاً ولكنهم لم يؤتوا زكاء، ومن هنا لم ينتفعوا بهذه العقول بمعرفة المعبود ، والتقرب إليه، والخضوع له، فهنا قال الله في سورة آل عمران: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة آل عمران:191]، إلى آخر ما ذكر الله من مقالهم ودعاءهم ومناجاتهم، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بهذه العقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران:190، 191].
فكل من أوتي العقل ولكنه لم يكن بهذه الصفة ممن يذكرون الله قيامًا وقعودًا لا يعرف الله فهذا عقل معيشي، يعني يستوي مع البهائم، البهيمة لها عقل معيشي تقتات، تأكل، ترعى تفرق بين المرعى والمرعى، فتذهب إلى المرعى الخصب وتترك الناحية الأخرى الجدباء فلها عقل معيشي تُدبر فيه مثل هذه الأمور، تستطيع أن تصل إلى بعض ما تريد ولو بحيلة لكن العقل واللُب الذي أثنى الله على أصحابه هو الذي يوصل به إليه، ولهذا بعض الناس قد يمدح بعض الأمم الشرقية أو الغربية، وما عندهم من الدقة، والنظام والانضباط والصناعات والاستغلال كل شبر من الأرض بزراعات منتجة، وما إلى ذلك، وثمار وفيرة على مساحة صغيرة يعيشون فيها، وأرخبيل مُعرض لكثير من الآفات من الزلازل وغيرها والبراكين وانظر يقول: كيف حصلوا، ويذكرون ذلك في ضروب الأمثال، لكن هؤلاء مع ما أوتوا هم لا يعرفون أهم المهمات وهو الله، لا يعرفونه.
فنسأل الله أن يُبصرنا وإياكم بما نسمع، وينفعنا وإياكم بذلك، وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وذهاب أحزاننا وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، برقم (2376)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (3624)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (4325).
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم، برقم (1904)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم (1151).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب إنفاق المال في حقه، برقم (1409)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن، ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه، أو غيره فعمل بها وعلمها، برقم (816).
- الموافقات (1/ 142).
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرياء والسمعة، برقم (2382)، والنسائي في الكبرى، برقم (11824)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1713).
- انظر: مجموع الفتاوى (9/ 309).
- انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 264)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (22/ 410).
- انظر: مجموع الفتاوى (9/ 309).
- تفسير القرطبي (3/ 417).