بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما بين الله -تبارك وتعالى- لعباده أنه عالم بصدقاتهم ونفقاتهم ونذورهم: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [سورة البقرة:270].
ذكر بعد ذلك أن إظهار الصدقات وإخراج النفقات علانية أن ذلك لا يضر، وذلك أنه قد يُفهم من قوله -تبارك وتعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [سورة البقرة:270]، أنه حث على الإسرار بالنفقة، فالله يعلمها فلماذا الإظهار؟ ولماذا الإعلان؟ ولماذا الإخبار للآخرين بأنك قد أنفقت وبذلت؟! فهنا بيّن أن إظهار النفقة لا ينافي الإخلاص: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [سورة البقرة:271].
كذلك أيضًا حينما حثهم في الآية السابقة وفي الآيات قبلها على الإنفاق كانت الآية السابقة حاثة عليه أيضًا وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [سورة البقرة:270]، أي: أنفقوا والجزاء عنده سيكون وافيًا لا يخفى عليه شيء من نفقاتهم فهذا إغراء بالنفقة فقد يؤخر المنفق نفقته حينما تقتضي الحال ويدعوا المقام؛ ليكون ذلك في حال الإسرار.
قد تكون هذه النفقة قام موجبها وظهرت الحاجة إليها بحضرة الناس، فينبغي أن لا يتأخر، فمن الناس من قد يترك الإنفاق في مثل هذه المقامات رجاء أن تكون نفقته في حال الإسرار، فالله يقول لهم: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة:271]، فهذا بيان لما قد يتوهم مما سبق من الآيات الحاثة على الإخلاص وعلى الإسرار بالنفقة، وهذا ما يُسمى بعلم المناسبة، المناسبة بين هذه الآية وما قبلها من الآيات.
ومعنى قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ أي: أن تُظهروا الصدقات فتكون علانية يطلع عليها الناس فذلك شيء محمود وحسن فنعم ما تصدقتم به فَنِعِمَّا هِيَ، أي: فنعم شيء هي، فهذا مدح لهذه الصدقة البادية المُظهرة المُعلنة وليست بذاهبة الثواب وليست إلى البطلان وإنما هي محفوظة عند الله -تبارك وتعالى- ممدوحة، فلا يمنعكم ذلك من إخراجها ورجاء عائدة هذه النفقة من الثواب عند الله -جل جلاله، وتقدست أسماءه، فقد يؤخر الإنسان ثم تقوم العوارض في نفسه ويُزين له الشيطان ويسوس فيُغريه بالترك وصرف النظر عن النفقة التي عزم عليها حينما يؤخرها، يبدأ يُعيد الحسابات، وكذلك قد تزول الحاجة التي عرضت ويقوم ما يسد هذه الحاجة فيفوت الأجر والثواب والإنفاق، هكذا تُقرر هذه الآية: فَنِعِمَّا هِيَ، فنعم شيء هي، هذه المُعلنة.
وَإِنْ تُخْفُوهَا [سورة البقرة:271]، يعني: الإسرار بها وتعطوها للفقراء فهذا أفضل؛ لأنه أبعد عن الرياء والمقاصد الفاسدة، وذلك يكون سببًا لتكفير الذنوب والسيئات وذلك من جزاء الصدقة فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة البقرة:271]، فهنا جاء هذا الختم لهذه الآية بهذين الاسمين الكريمين وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فليست القضية تتصل بالإخفاء أو الإعلان وإنما ما يقوم في قلب الإنسان، قد يُخرج الصدقة سرًا ولكنه يحصل في قلبه من الإدلال على الله -تبارك وتعالى- والعُجب بالعمل والتعاظم وكأنه يمن على ربه -تبارك وتعالى- وقد يؤذي الذي أعطاه سرًا وقد يمن عليه فتذهب تلك الأجور المرتبة على الصدقة بسبب هذه الموانع والقوادح من العُجب أو المن أو الأذى، فالله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه شيء من أحوال العباد سيُجازيهم على ذلك.
يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، الصدقات هنا ظاهره العموم يدخل فيه صدقة الفرض التي هي الزكاة، ويدخل فيه صدقة التطوع، وقد تكلم العلماء -رحمهم الله- على هذا وفصلوا فيه فيما يتعلق بالزكاة، هل الأفضل الإسرار أو الإعلان؟
فمن أهل العلم من قال: بأن الأفضل في الزكاة أن تكون معلنة من أجل إظهار هذه الشعيرة، والعبادة ومن أجل الاقتداء به فيتتابع الناس على إخراج الزكاة ومن أجل دفع التهمة عنه، يعني: يعرف الناس أن عنده أموال ولكن لا يرون شيئًا فهو يُخرجها سرًا فقد يُتهم أنه لا يُخرج الزكاة، ولهذا ذهب طوائف من أهل العلم إلى أن إخراج الزكاة علانية أنه أفضل، قالوا: لاسيما أنها واجبة ولا منة له فيها ولا فضل، هي واجبة وهي غسيل لماله، يعني أنها تغسل درن المال وأوساخ المال وهي أيضًا طُهرة لنفسه من الشُح ولهذا كانت الزكاة أوساخ الناس[1]، ولهذا لم تحل للنبي ﷺ ولا لأهل بيته، وكذلك لا يعطي المزكي هذه الزكاة لأصوله ولا لفروعه؛ لأنه يجب عليه النفقة، ثم كيف يرضى لهم بأوساخ المال.
فهنا: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، أما بالنسبة للتطوع فالأصل أن الأفضل فيه الإسرار لكن هذا من حيث الأصل، ولكن الأحوال قد تقتضي خلاف ذلك، يعني مثلاً في الزكاة قد يكون الأفضل الإسرار، وذلك فيما إذا كان الإنسان لا يضبط نيته، يقول: أنا إن أخرجتها وأعلمت الناس أو أخرجتها علنًا هذه الزكاة فنيتي تضطرب وقلبي يتقلب ويتحول فهذا الأفضل في حقه الإسرار بل قد يكون واجبًا، وهكذا بالنسبة لصدقة التطوع الأفضل فيها الإسرار.
لكن قد يقتضي المقام إظهار ذلك علانية من أجل أن المقام اقتضاه وجدت الحاجة أمام الناس بحضرة الناس، فالنبي ﷺ حينما يدعوا إلى الصدقة ويأتي رجل بصدقته ويطلع على ذلك الآخرون، أبو بكر جاء بصدقته، عمر جاء بصدقته، الأول أبو بكر جاء بكل ماله، عمر جاء بشطر ماله، هذا مقام لا مجال فيه للإخفاء، الرجل الذي جاء بصُرة كادت يده أن تعجز عنها[2]، فإذا دعا النبي ﷺ إلى الصدقة دُعي إلى الصدقة فلا مجال للإسرار يتتابع الناس.
إنسان أُعطي جائزة في مناسبة من المناسبات حصل نجاحًا وتحقيقًا لظفر فأُعطي جائزة قد تكون ثمينة، وقد تكون نقدية فقام وشكر المُعطين ثم بعد ذلك أعلن أن هذه الجائزة تبرع لجمعية تحفيظ القرآن الكريم مثلاً، فصار الذين يأتون بعده ممن يعطون هذه الجوائز يفعلون فعله، فهذا من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها[3]، فقد يفعل ذلك للاقتداء، والنبي ﷺ قال هذا الحديث كذلك أيضًا في الرجل الذي تصدق فتتابع الناس على الصدقة فقال النبي ﷺ ذلك.
فهنا إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ، الفرض والنفل منها فَنِعِمَّا هِيَ، نِعم شيئًا هي إبداء الصدقات، فهذا مدح لها بنعم وكذلك بما التي دخلت على نِعم، وذلك فيه ما فيه من المبالغة في المدح فَنِعِمَّا هِيَ.
وذلك أيضًا: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ بعد أن قال: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [سورة البقرة:270]، من نفقة: أي نفقة فالله يعلمها إذا كانت سرًا أو كانت علانية، فهنا هل يكون الإعلان أو الإسرار أفضل ويُطلب من المتصدق أن يُسر بصدقته أما ماذا؟ هل تقبل نفقة العلانية؟
قال: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ، ولذلك بدأ بها، مع أن الإسرار أفضل، ولكن يرد هذا التساؤل لدى السامع حينما سمع الترغيب في الإسرار إذًا ما حال نفقة العلانية قال: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، فبدأ بالمفضول لدفع هذا السؤال أو الإشكال الذي يرد لدى السامع المتدبر لكلام الله -تبارك وتعالى، والمؤمن يتعامل مع ربه -تبارك وتعالى- بما يُكثر ويوفر الأجور والأرباح والعوائد في ميزان حسناته، فجاء هذا الجواب مقدمًا فيه الإظهار.
كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فهذا نص صريح بأن الإخفاء أفضل من الإعلان، لكن هذا من حيث الأصل؛ لأن الإخفاء أقرب إلى الإخلاص من جهة ومن جهة أستر للمُعطى حينما يُعطيه علانية يكون لربما في ذلك ما فيه من الغض منه واليد العليا خير من اليد السفلى[4]، فهذا يكون أستر للمتصدق كما ذكر بعض أهل العلم.
لكن فرق بين ما يُقال من حيث الأصل وما يعرض من الأحوال التي قد تُرجح خلافه إما بالنسبة لبعض المُكلفين كما قلت ممن لا يستطيع مثلاً أن يضبط نيته أو نحو ذلك، أو كان ذلك باعتبار المقام الذي اقتضى الإعلان مثلاً، ولذلك سيأتي في قوله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سورة البقرة:274]، بحيث لا يتردد إذا دعت الحاجة فلا يؤخر صدقة النهار حينما يقوم مقتضيها إلى الليل بحاجة أنه أستر، وأن ذلك أدعى للإخلاص؛ ولئلا يطلع عليه أحد، لا، إذا دعا إلى ذلك داعٍ بالنهار بادر، وإذا دعا داعٍ بالليل بادر؛ فلا يقول الصباح رباح، وإذا أصبحنا أخرجت هذه الزكاة، لا، وإنما حيث قام الداعي إلى ذلك فإنه يُبادر بهذه الصدقة.
وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ، أنه هنا أطلق في لفظ الْفُقَرَاءَ، ما قال تؤتوها فقراءكم، يعني: فقراء البلد، والنبي ﷺ قال حينما بعث معاذًا إلى اليمن وذكر له ما يعلمهم به ومن ذلك: صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرد على فقراءهم[5]، فَهِم منها بعض أهل العلم من هذا الحديث أن الزكاة تُخرج لأهل البلد ولا يجوز نقلها إلى غيرهم.
والواقع أنه الأولى بالزكاة بالنسبة للزكاة، الصدقة أمرها واسع لكن الحديث في الزكاة، أن الأولى بالزكاة أهل البلد الذي يكون فيه المُزكي يكون لأهل البلد، لأهل البلد الذي يكون فيه الذي يعتمل فيه، الذي يقيم فيه، الذي يكتسب فيه، أولاً: لأن لهم حق في هذا المال، والأقربون أيضًا أولى بالمعروف لهم حق من جهة أنه إنما يكتسب ويُحصل الأرباح من تعامله معهم، لو أن هؤلاء قطعوه ولم يبع أحد أو يشتري منه لأفلس، هؤلاء التجار بماذا يحققون التجارات والأرباح عن طريق من يتعاملون معه من الناس، فهؤلاء لهم حق عليهم في هذه الأموال والنفقات.
فهنا قال: وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ، ولم يُقيد ذلك فدل على أنه يصح أن تُعطى للفقراء مطلقًا، ولا يشترط أن يكون ذلك لأهل البلد، لكن أهل البلد أولى، لكن إن وجد حالات أشد أو اقتضت المصلحة ذلك، أو لم يوجد في بلده فقراء فإنه ينقلها، والزكوات كانت تجبى إلى النبي ﷺ في المدينة، وكذلك أيضًا: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة:271] يدل على تفاضل هذه الصدقات وهي تتفاضل باعتبارات منها ما يتعلق بما يقوم في قلب المنفق: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [سورة المؤمنون:60]، الإخلاص الإخبات استشعار إنعام الله على العبد والتوفيق، الإنعام بالمال، والتوفيق إلى الإنفاق.
كذلك أيضًا ما يكون بحسب متعلقها من الزمان والمكان، فالنفقة مثلاً في الحرم أعظم، كذلك أيضًا حينما تكون للقرابات، حينما تكون في وقت شريف منُفق عليه، وكذلك أيضًا وقت الإنفاق في رمضان في عشر ذي الحجة، والمنفق عليه كالقرابات والحاجات الشديدة: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [سورة البلد:11-15]، إلى آخر ما قال الله -تبارك وتعالى.
فهنا: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [سورة البقرة:271]، من هذه تبعيضية باعتبار أن الصدقات والنفقات تكفر بعض السيئات ولا تكفر كل السيئات، الكبائر تحتاج إلى توبة؛ ولكن كما قال النبي ﷺ: وأتبع السيئة الحسنة تمحها[6].
ولما جاء رجل إلى النبي ﷺ وذكر له ما وقع منه مع امرأة غير أنه لم يُجامعها أنزل الله -تبارك وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [سورة هود:114][7].
والله يقول: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [سورة التوبة:103]، فهذه الأموال وهذه الصدقات لا شك أنها تُطهر من الذنوب، وتطهر النفوس من الشح، وتطهر الأموال مما قد يُداخلها، وهذه الآية آية براءة: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [سورة التوبة:103]، قال بعض أهل العلم: بأنها الزكاة، قال: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة:103]، فكان النبي ﷺ إذا جاء أحدهم بصدقته يعني بزكاته قال: اللهم صل على آل فلان، اللهم صل على آل أبي أوفى[8].
وبعضهم قال: هذا عام صدقة من التطوع ومن الزكاة المفروضة، وكأن هذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
إذًا دل هذا على أن الصدقة والزكاة من باب أولى صدقة التطوع والزكاة أولى بذلك أنها تُكفر من سيئات الإنسان ولهذا أخبر النبي ﷺ بأن: الصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان[9]، فكذلك هذه الصدقات هي من أسباب تكفير الذنوب، فالذي يريد حط الأوزار فعليه بهذه الصلوات المكتوبات، والصيام، وقيام الليل، والصدقة صدقة تطوع، وكذلك أيضًا الزكاة: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [سورة هود:114].
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية أن البذل الواسع عن إخلاص يغسل الذنوب، سواء كان علانية، أو كان سرًا: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة البقرة:271]، فهنا قد يتسارع الناس إلى الإظهار لاعتبارات معينة مثلاً من باب الاقتداء يقول أو لأن المقام اقتضى ذلك على حسب إخلاصه.
فهذه القضية كما قال الله في مخالطة الأيتام في أموالهم: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [سورة البقرة:220]، فهذا لا يخفى على الله -تبارك وتعالى، فهنا قال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فما هذه تفيد العموم بكل ما تعملون خبير يدخل فيها أعمال القلوب من النيات والمقاصد، فمن أخرج هذه الصدقة مخلصًا لله ، أو أخرجها رياءً فلا يخفى على الله، إذا كان التعامل مع الله العالم بالخفيات فينبغي على العبد دائمًا أن يُصحح نيته، قد ينطلي على الناس، قد يخفى على الناس ما بقلب الإنسان فحينما يقوم يصلي أو يتصدق أو غير ذلك من الأعمال الصالحة يُكرر الحجة والعمرة ونحو هذا لكن الله مُطلع على حاله، مُطلع على حال العبد في حال سكوته وفي حال كلامه، وفي حال قيامه، وقعوده، وسجوده، وتقلبه، فهذا كله يدعوا إلى محاسبة النفس، وتصحيح المقاصد والنيات والأعمال، تكون على الوجه المشروع وأن يُنفق من الجيد لا يُنفق من الرديء: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
وهذا قد يُشعر أيضًا بأن الإسرار أفضل فإذا كان هو الخبير -تبارك وتعالى- بالأعمال ومعنى الخبير هو الذي يعلم بواطن وخفايا الأمور، فإذا كان هو الخبير فهذا إذًا التعامل معه لا يحتاج إلى إظهار وإعلان وما أشبه ذلك، مهما استطعت أن تجعل عملك خفيًا فافعل، ولذلك كانت صلاة الليل والنوافل، ما عدا الفرائض كانت في البيوت أفضل منها في المساجد لكن ذلك يختلف باختلاف الناس.
كذلك أيضًا: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، لما ذكر الإخفاء: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة البقرة:271]، إذًا هذا الإخفاء الذي يحصل من المتصدق من المُنفق عالم به ولو كان الإخفاء شديدًا فجاء بالخبير: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، وفيه إثبات هذا الاسم الكريم لله -تبارك وتعالى.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة، برقم (1072).
- أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم (1017).
- أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (1017).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، برقم (1427)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة، برقم (1033).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، برقم (1496)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم (19).
- أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في معاشرة الناس، برقم (1987)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (97).
- أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة كفارة، برقم (526)، ومسلم، كتاب التوبة، باب قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [سورة هود:114]، برقم (2763).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام، ودعائه لصاحب الصدقة، برقم (1497)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته، برقم (1078).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، برقم (233).