الإثنين 16 / جمادى الأولى / 1446 - 18 / نوفمبر 2024
(235) قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ..} الآية:273
تاريخ النشر: ٠٤ / رمضان / ١٤٣٧
التحميل: 882
مرات الإستماع: 1061

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فذكر الله -تبارك وتعالى- في الآية السابقة أن الهدى إلى الله -تبارك وتعالى- وحده: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:272]، لا تمتنع من إعطاء من ليس بمؤمن أو من ليس بتقي من أجل سوء حاله فإن الهدى بيد الله: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:272].

بعد ذلك بيَّن الأولى بهذه النفقات أولى الناس بها، أحق الناس بهذه النفقات، الآية السابقة تبين أنه لا يضيع عند الله شيء، وأن هذه النفقات يرجع أثرها إليكم بصرف النظر عن حال هذا المُعطى من جهة الصلاح والتقوى والإيمان.

وفي الآية التي بعدها بيَّن الأولى من الناس بهذه العطاءات والصدقات فقال: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [سورة البقرة:273].

لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الفقراء بعضهم يقول: التقدير أعجلوا للفقراء، أو اقصدوا الفقراء بهذه النفقات، أو اجعلوا ما تنفقون للفقراء المهاجرين، هذه تقديرات ذكرها أهل العلم، والمعنى للفقراء الذين يعني اجعلوا هذه الصدقات للفقراء، اقصدوا بها الفقراء الذين ذكر صفتهم: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فهم حبسوا أنفسهم، تركوا كل شيء لله وفي الله، فقراء المهاجرين أحصروا.

بعض أهل العلم يقول: إنه بالهمز أحصروا يعني حصرهم العدو، وكما في قوله -تبارك وتعالى- في الإحصار في الحج: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، فهنا قال: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بمعنى أن العدو حصرهم لا يستطيعون السفر للتجارة والتقلب في الأرض، والحصر في الحج لا يختص بحصر العدو وإنما يكون أيضًا ذلك بكل مانع من مرض أو كسر أو نحو ذلك، لكن هنا حصرهم العدو.

أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ، الضرب هو السير وذلك من التقلب في الأرض طلبًا للرزق والتجارة فهؤلاء أيضًا مع شدة ما هم فيه من الحاجة والفقر يقول الله -تبارك وتعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، فقراء ولا يستطيعون التصرف والتقلب والسفر والتجارات مع ذلك هم أهل تعفف كامل.

يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ يعني يظنهم الجاهل بحالهم أنهم أغنياء؛ لأنهم لا يسألون الناس لا صراحة ومباشرة، ولا يتعرضون للناس من أجل أن يعطوهم فيكون ذلك سؤالاً غير مُباشر بالوقوف في طريقهم، والتعرض لهم، ونحو ذلك، فهم لا يفعلون شيئًا من ذلك، لكن هنا قال: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، الإلحاف هو الإلحاح، ومنه اللحاف؛ لأنه يشتمل على المُلتحف به من كل جانب، فهذا المُلحف المُلح بالمسألة لا يترك طريقة إلا يفعلها، بالترجي بالإلحاح بالسؤال المُباشر بالتعرض له بمحاجته بمد يده بتخويفه وتذكيره بالله -تبارك وتعالى- إلى غير ذلك من الوسائل والأساليب الكثيرة، لا يترك سبيلاً إلا فعله.

هذا المُلحف المُلح في السؤال وهي صفة مذمومة مُستكرهة للنفوس، فذكرها هنا قال: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، مفهوم المخالفة أنهم قد يسألون لكن من غير إلحاف؛ لأنه قال: لا يسألون الناس مُلحفين إِلْحَافًا، إذًا هم قد يسألون لكن من غير إلحاف برفق وأدب وذوق من غير إلحاح، هكذا فهم بعض أهل العلم، ولكنه لا يخلو من إشكال ونظر؛ لأن هذا مقام مدح يمدحهم الله فالأقرب أن المعنى أنهم لا يسألون مطلقًا لا بإلحاف ولا بغير إلحاف، ووجه التقييد هنا؟ لماذا لم يقل لا يسألون الناس أصلاً؟!

قال: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا فذكر هذه الصفة المشينة وذلك أن القاعدة من قواعد التفسير أن الشيء في القرآن قد يرد نفيه مقيدًا والمراد نفيه من أصله من أساسه، نفيه أساسًا، قد يرد نفيه مقيدًا والمقصود نفيه من أساسه فيقيده بقيد كهذا مستكره للنفوس، والمقصود أنهم لا يسألون أصلاً لا بإلحاح ولا بغير إلحاف، والدليل على ذلك أنه قال هنا: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ.

فالجالب لهذا الظن أنهم أغنياء ليس أنهم يلبسون الفاخر من الثياب، ويأكلون الفاخر من الطعام، لا، من التعفف، فلا يعرفهم إلا المتفرس، ولهذا قال: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، تعرفهم بسيماهم المقصود بذلك كما قال ابن جرير -رحمه الله[1] أنه ما يظهر على الإنسان من الأمارات من رثاثة اللباس، وشحوب الوجه، وأمارات الحاجة والمسغبة والفقر، إذا رآه الإنسان عرف أن هذا فقير دون أن يتكلم: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، يعرفهم المُتفرس، ثم رغب بإعطاء هؤلاء قال: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [سورة البقرة:273]، يعني: سيجازيكم عليه.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[2] يقارن بين هذه الآية وبين آية أخرى، يقول: هنا في الصدقات في آية البقرة هذه والآية الأخرى وهي آية الفيء في سورة الحشر، فقال في الصنف الأول وهو المذكور في هذه الآية: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [سورة البقرة:273].

وقال في الصنف الثاني المذكورة في سورة الحشر يقول: وهم أفضل الصنفين: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحشر:8]، فالأوصاف أكمل في سورة الحشر، في سورة البقرة ذكر الفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، لكن في سورة الحشر ذكر التنصيص على فقراء المهاجرين: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، الأول الهجرة وهي من أجلّ الأعمال بعد الإيمان، والثاني: أخرجوا من ديارهم، فهم مظلومون تركوا كل شيء، تحولوا إلى حال من الفقر، أخرجوا من ديارهم وأموالهم، ثم شهد لهم بصحة هجرتهم، وصدق نياتهم، وسلامة مقاصدهم: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثم انظر هذه الشهادة الكبيرة التي هي فوق كل شهادة قال الله : أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحشر:8]، وبهذه الصيغة القوية أولئك الإشارة إلى البعيد؛ لرفعة منازلهم، ثم جاء بضمير الفصل "هم" بين طرفي الكلام لتقوية النسبة، كأنه لا صادق إلا هؤلاء أولئك، ثم دخول "ال" على الخبر الصادقون كأن هؤلاء قد استجمعوا هذا الوصف وحصلوا أكمله، تقول: هذا هو الكريم، هذا هو الرجل، هذا هو العفيف وهذا لا يخفى.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كأن اللام هذه على بعض الأوجه في التفسير تكون للتمليك، الصدقات للفقراء مثلاً، فمعنى ذلك أنهم يعطون الصدقة، لا تتصرف بالنيابة عنهم إلا بتوكيل كما ذكرنا في الأصناف الثمانية لمصارف الزكاة، في الأربع الأولى جاء بـ (اللام) وما عُطف عليها، وفي الأربع الثانية قال: وَفِي، الأربع الأولى في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، هذه أربعة كلها معطوفة على الأول إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ، باللام واللام للتمليك، والأربع التي بعدها: وَفِي الرِّقَابِ، فهنا جاء بـ (في) وما عُطف عليه؛ فذلك يعني أنه تصرف في هذا السبيل وإن لم تعط لهؤلاء مباشرة، هنا في هذه الآية: لِلْفُقَرَاءِ فيملكون ذلك، ولا يُتصرف بالنيابة عنهم.

لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وسبيل الله إذا أطلق في القرآن فالمراد به الجهاد، هذا هو الغالب في القرآن، ولهذا فسره بعض السلف بأن هؤلاء حبسوا أنفسهم عن التصرف والتجارة والكسب اشتغالاً بالجهاد في سبيل الله، أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ، وهنا عبر بالضرب عن التجارة؛ لأن شأن التاجر أن يتقلب في البلاد ويسافر؛ ليبتاع ليشتري ويكتسب فهو يضرب الأرض برجليه أو برجلي دابته.

أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، يحسبهم الجاهل يعني يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء لأنهم لا يسألون، لا يسألون الناس شيئًا من التعفف، وذلك أن الجالب لهذا الوصف هو طلب التعفف، يعني ترك السؤال، تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، العلامة التي تظهر عليهم مما يدل على فقرهم من آثار قلة ذات اليد، ولا يسألون الناس إلحافا، يعني: كما قلنا هذا نفي للسؤال من أصله، يعني: هذه الصيغة تعتبر مدح وثناء عليهم حيث بالغ في نفي ذلك عنهم بهذه الطريقة أو بهذا الأسلوب.

يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، وهنا التعفف على صيغة التفعل، التعفف يجتهدون في طلب العفة، يعني: يبذلون ما يستطيعون من أجل أن لا يصدر عنهم شيء يُنبأ عن حاجتهم لا بطريقة صريحة، ولا بطريقة غير صريحة، فهم يجتهدون في ذلك، تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، هذا يُبين قوله -تبارك وتعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، إذًا كيف نعرفهم؟ فجاء الجواب: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، كيف نصل إليهم وفقرهم خفي؟

قال: يعرفون بأمارات يطلع عليها المتأمل والمتفرس بحالهم، تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، والسمة هي العلامة، وهذا لا يظهر لكل أحد، ويؤخذ من هذا أن الفراسة والتفرس أن ذلك من الأمور المطلوبة، فبه يحصل الميز بأمور كثيرة، والناس يتفاضلون في ذلك، ويتفاوتون وهي نوعان، الفراسة نوعان:

نوع يكون ناتجًا عن نور الإيمان الذي يقذفه الله في قلب العبد، إذا استنار القلب عند ذلك كان صاحب هذا القلب المستنير على نور من الله -تبارك وتعالى- فيرى الأشياء ويعرفها كما قيل: "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها على صفحة وجهه وفلتات لسانه"[3].

هذه الأمارات قد تكون ظاهرة جدًا كما هو الحال بالنسبة لوجوه الكفار ووجوه أصحاب البدع الغليظة، والجرائم الكبار، يعني أصحاب المخدرات أصحاب الفواحش يظهر هذا على وجوههم يراه كل أحد، لكن يبقى هناك أشياء قد تدق لكن يعرفها أهل الإيمان أهل الفراسة، ولهذا دخل رجل على عثمان فقال: "يعصي أحدكم ويدخل عليّ؟!، فقال الرجل: أوحي بعد رسول الله؟ فقال: لا، ولكنها فراسة المؤمن"[4]، هذا النوع الأول، وهذا لا يأتي لا بدراسة، ولا تحصيل، ولا كسب الإنسان، وإنما نور يقذفه الله في القلب فيستنير فيرى يميز بين البر والفاجر والتقي والصالح وكذا.

النوع الثاني من الفِراسة: وهو ما كان بسبب كثرة المزاولة مع الفطنة يعني لا يتأتى هذا إذا كان المحل غير قابل فطنة مع كثرة مزاولة هذا يوجد عند أصحاب المهن والصنائع والأعمال وما إلى ذلك، يعني: الصيرفي المتمرس بمجرد نظرة أو بمجرد اللمس بين الزيوف من الدراهم وغيرها، كذلك من زاول عملاً من الأعمال وله فطنة فإنه يُميز في السلع ونحو ذلك بمجرد النظر إليه يستبين له الجيد من الرديء والمغشوش وما إلى ذلك.

كذلك الأعمال فمثل هذا مثلاً ما يذكر عن القضاة أمثال شُريح، والقضاة المشاهير الذين اشتهروا بالفراسة فكان عندهم من هذا عجائب وذلك لكثرة المزاولة مع شدة الفطنة، يعني: تجد الواحد من هؤلاء القضاة يرى رجلاً يمشي في الطريق ويقول: هذا من أرض كذا من ناحية كذا قد أبق له مملوك أعور بهذه الأوصاف الدقيقة وهو لا يعرفه رآه فقط، فيذهبون إليه ويسألونه تبحث عن شيء؟ قال: نعم، مملوك، ما صفته؟ يقول: أعور، من أين قدمت؟ من واسط، نفس الكلام الذي قاله لهم هذا القاضي، هذه فراسة قوية، فقالوا له: كيف عرفت؟ سألوا القاضي لما تحققوا كيف عرفت مثل هذا؟ فقال: رأيته ينظر في وجوه الناس في أعينهم إذا مر به مملوك نظر في وجهه، ينظر في عينيه، ورأيت في ثيابه طينًا أحمر، والطين الأحمر من واسط في ذلك الوقت، فهو يبحث عن مملوك أعور، هذا مثال.

وآخر رجلاً جلس وتربع فقال: هذا معلم صبيان معلم غلمان في الكتاتيب، فقيل له كيف عرفت؟ فقال: رأيته جلس جلسة الملوك وليست بهيئة ملك، وإذا مر به صبي سلم عليه، يعني: هو معتاد على الصبيان والغلمان فهم الذين يلفتون نظره فإذا مر غلام سلم عليه وجالس جلسة متربع فيقول: هذه جلسة الملوك ولكنها ليست هيئة ملك، فلما نظروا في حال الرجل وجدوه فعلاً معلم غلمان بالكتاتيب.

فهذه تأتي بكثرة المزاولة إذا كان المحل قابلاً، يعني: يوجد فطنة، أما هذه الدورات التي أربعة أيام يقولون: تعلم الفراسة من الخط أو التوقيع أو غير ذلك فهذه إنما هي أخذ لأموال الناس، ولا تسمن ولا تغني من جوع ليست بشيء، ولا يُبنى عليها شيء لا بتوقيع ولا بقراءة خط ولا غير ذلك، أبدًا.

فقوله -تبارك وتعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، الصيغة سيما بِسِيمَاهُمْ على وزن فعال من السِمة والوسم فهذه صيغة مبالغة يعني أن ذلك إنما يتحقق للمدقق المتأمل من أصحاب الفراسة، تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [سورة البقرة:273]، فكما ذكرنا في نفي الإلحاف أنه نفي لأصل السؤال.

وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [سورة البقرة:273]، أعاد الحث على الإنفاق بهذه الصيغة في خاتمة هذه الآية، وهذه هي المرة الرابعة.

فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [سورة البقرة:273] معنى ذلك أنه يجازيكم عليه إذًا أنفقوا، فالله مطلع على نفقاتكم، وذلك معلوم لا يخفى إذا كان الغني الكريم الأعظم عالمًا بهذه النفقات فما ظنكم!

وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا تُنْفِقُوا وهذا التركيب يدل على العموم، وكذلك أيضًا من قوله: مِنْ خَيْرٍ فخير نكرة سبقت بـ"من" فهي نص صريح في العموم سواء كان كثيرًا أو قليلاً، لا تحقرن من المعروف شيئا[5].

وكذلك أيضًا: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ أنه لا يُنفق بالحرام والمال والكسب غير الطيب إنما يكون ذلك بالمكاسب الطيبة، فهذه أربع مرات ترد فيها هذه الجملة يُرغب الله -تبارك وتعالى- فيها بالإنفاق.

هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. انظر: تفسير الطبري (5/ 29).
  2. مجموع الفتاوى (8/ 532).
  3. الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 136).
  4. انظر: تفسير القرطبي (10/ 44)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 455)، والرياض النضرة في مناقب العشرة، لمحب الدين الطبري (3/ 41)، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/ 327).
  5. أخرجه الإمام مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، برقم (2626).

مواد ذات صلة