بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنواصل الحديث في الكلام عن قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275].
تحدثنا عن صدر هذه الآية، وبقي في الحديث بقايا فمن ذلك أن الله -تبارك وتعالى- حينما قرر وحكم هذا الحكم القاطع: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فليس لأحد بعد ذلك أن يستحل الربا أو يتأول، كما أنه لا يكون لمؤمن أن يعتقد بحال من الأحوال أن الربا مصلحة، أو أنه عصب الاقتصاد، أو أنه لا قوام لحياة الناس إلا به فلو كان كذلك لما حرمه الله -تبارك وتعالى- فإن الله لا يمكن أن يُحرم على الناس ما تقوم به مصالحهم أو تتوقف مصالحهم عليه، فإن الله -تبارك وتعالى- يُحل لنا الطيبات ويُحرم علينا الخبائث، وجاء ذلك في صفة النبي ﷺ في الكتب السابقة كما أخبر القرآن: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [سورة الأعراف:157]، فلما حُرم الربا دل ذلك على أنه خبيث، والخبيث لا يمكن أن يتحقق منه المصالح بحال من الأحوال.
ثم أيضًا: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، لا يمكن أن يُفرق الله -تبارك وتعالى- بين مُتماثلين في الحكم فإن هذا خلاف الحكمة، فأفعاله -تبارك وتعالى- وأحكامه كما ذكرنا مبناها على الحكمة، وهي مُعللة سواء أدرك الخلق ذلك أو لم يُدركوه، فإذا فرق الله بين أمرين فأحل هذا وحرم هذا دل على اختلافهما، سواء أدرك الإنسان ذلك أو لم يُدركه مع أن أكثر الناس يُدركون الفرق بين البيع والربا؛ لكن لو جاء أحد وقال: أنا لا أُدرك الفرق بينهما، يقال: عليك أن تُسلم وتُذعن لحكم الله -تبارك وتعالى؛ لأنه فرق بين الأمرين في الحكم، ولا يمكن أن يُفرق بين المُتماثلين، كما أنه لا يمكن أن يسوي بين المختلفين.
كذلك أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ، هنا سمى العلم بذلك موعظة، والموعظة تُطلق بإطلاق واسع، القرآن كله سماه الله موعظة، وكذلك أيضًا لما ذكر الله -تبارك وتعالى- حكم الظهار والكفارة ذكر أن ذلك أيضًا مما نوعظ به، كذلك قد تُطلق الموعظة على الأحكام الفقهية كما في هذا المثال، وتُطلق على الأمر والنهي المقرون بالترغيب أو الترهيب، يعني ما يُرغب الناس أو يُرهبهم، وهذا هو الشائع في إطلاق الموعظة.
المقصود أن الموعظة وصِف بها القرآن والله -تبارك وتعالى- أخبر عن نفسه بذلك، فليس لأحد أن يستنكف من الوعظ ويعتقد أنه نقيصة في حقه؛ لأن بعض المشتغلين بالعلم سواء علوم الآلة كأصول الفقه أو علوم الحديث أو أصول التفسير ونحو ذلك لربما يستنكف الواحد منهم ويترفع عن أن يكون واعظًا.
وكذلك بعض المشتغلين بعلوم المقاصد كالحديث والفقه والتفسير ونحو ذلك قد يترفع عن هذا، ويعتقد أن هذه صنعة العوام أو الجُهال أو من لا حظ له في العلم، وهذا غير صحيح، فالله -تبارك وتعالى- أخبر عن نفسه بذلك والنبي ﷺ أيضًا "وعظنا رسول الله ﷺ موعظة وجلت منها القلوب"[1]، وكذلك وصف القرآن بهذا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ.
ويؤخذ من هذا الموضع أيضًا: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، هنا أحوال وصور ومقامات، الربا الذي يتعاطاه الناس قبل نزول الحكم قبل نزول التحريم قبل نزول هذه الآية هذا فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، يعني: قبل نزول هذه الآية الربا الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية، هذا بالإجماع بلا إشكال ليس فيه خلاف، أنه حينما نزلت هذه الآية: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ، بلغه الحكم، فَانتَهَى من الربا وأخذه أو استحلاله: فَلَهُ مَا سَلَفَ، يعني: مما أخذ من الربا سابقًا قبل النزول: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ، أخذ يعني بعد الحكم، بعد العلم بالحكم بعد نزول الآية بعد التحريم: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، فهذه الصورة الأولى من تعاطى الربا أخذ أموالاً ربوية قبل نزول الحكم ما كان يتعاطاه أهل الجاهلية فهذا لا إشكال أنه له ما سلف بنص الآية أي صورة.
الصورة الثانية: من أسلم دخل في الإسلام وكان يتعامل بالربا فهذا يُقال: فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ؛ لأن الإسلام يجُب ما قبله، لا يُقال لا يُطالب أن يُعيد الأموال المحرمة التي أخذها الربا ونحو ذلك، فهذه الصورة الثانية بلا إشكال من دخل في الإسلام، فالإسلام يجُب ما قبله.
الصورة الثالثة: وهي من تعامل بشيء من الربا جهلاً، هذا يقع فيه كثير من الناس يتعامل بمعاملات وهو لا يعلم أن هذا من الربا، فمثل هذا يمكن أن يُقال: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، ما أخذه قبل العلم بأن هذه المعاملة محرمة فهو له، قبل العلم، لماذا، هذا ما لم يكن مفرطًا؛ لأن من شروط التكليف بلوغ الخطاب خطاب الشارع فالعلم به داخل في ذلك، هذه من الشروط العامة.
هناك شروط للتكليف في كل تكليف مثل العقل والبلوغ، وأيضًا بلوغ خطاب الشارع هذا في كل التكاليف، هناك شروط خاصة في كل تكليف مِثل مثلاً: الصلاة لها شروط من دخول الوقت، واستقبال القبلة، الطهارة وهكذا، الصيام صيام رمضان دخول الشهر، وكذلك أن يُبيت النية من الليل ونحو هذا، فبلوغ الخطاب شرط فهذا الذي ما بلغه أن هذا حرام ما علم، فله ما سلف وأمره إلى الله، لكن بعد ما علم لا يجوز له أن يأخذ أقساطًا ربوية، لا يجوز له أن يأخذ شيئًا من الربا، بقيت له أقساط، كل هؤلاء الثلاثة لا يجوز لهم أن يأخذوا شيئًا بعد العلم، أو بعد نزول الحكم أو بعد دخول ذاك في الإسلام، هؤلاء الثلاثة.
الصورة الرابعة والأخيرة: وهي موضع خلاف بين أهل العلم، وهو من تعامل بالربا وهو على علم بأنه ربا وبعد نزول الحكم ثم تاب فهل يُقال: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ، يعني: إذا تاب وهو يعلم، كان يتعامل بالربا عصيانًا من غير استحلال فتاب فهل له ما سبق، أو يجب عليه التخلص من الأموال الربوية التي أخذها؛ لأنه أخذها من غير حلها والحكم نازل وهو عالم بالحكم فلم يكن له أن يأخذها، ذهب طوائف من أهل العلم إلى أنه داخل في الآية: فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إذا كانت توبته صادقة صحيحة، وقالوا: هذا أدعى إلى الترغيب بالتوبة والإقلاع عن الربا.
وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يدل على أنه يقول بذلك فهو يقول الموعظة تكون لمن علم التحريم يعني هذه الحالة الرابعة لمن علم التحريم أعظم لمن تكون لمن لم يعلمه، ولهذا قال الله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [سورة النور:17]، يعني: في قصة الإفك والخوض والحديث فيه، أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [سورة النور:17]، مع أنهم يعلمون أن هذا حرام، لا يجوز قذف الأعراض وأهل العفاف، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [سورة النور:17]، فذكر الوعظ لهم، حذرهم من العود إليه مع علمهم به، فشيخ الإسلام يقول: "الموعظة تكون أشد وأبلغ في حق هذا الذي كان يعلم من ذاك الذي تعاطى الربا مثلاً وهو لا يعلم"[2].
والقول الآخر: أنه يجب عليه أن يتخلص من هذه الأموال التي أخذها بغير حق؛ لأنه عالم بالحكم مخاطب بخطاب الشارع فمن توبته أن يتخلص من الغصوب، الأموال التي غصبها ومن الأموال التي اكتسبها من غير حِلها، لو كان عنده أموال من مُخدرات مثلاً، عنده أشياء مسروقة لا يعلم أصحابها إذا كان يعلم الأصحاب لا إشكال أنها ترجع إليهم، وفرق بين حقوق الناس.. فهذه يجب إرجاعها، فهذا في التوبة، ومن شروط التوبة: أن يُعيد المظالم إلى أصحابها، لكن في الربا ماذا يفعل؟
القول الآخر: أن عليه أن يتخلص من هذه الأموال ما أخذ من زيادات من أُناس يعرفهم يُعيد ذلك إليهم؛ لأنه أخذها منهم بغير حق، وهذا القول له وجه قوي من النظر -والله تعالى أعلم، لكن ذاك الذي أخذ قبل العلم لا يُعيد لكن بشرط التوبة.
فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، أمره إلى الله، فالتعبير هنا لاحظ العبارة فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ من ربه ما قاله مثلاً موعظة من الله، فذكر هذا الاسم الكريم الرب؛ لأن من معاني الرب أنه هو الذي يُشرع ويُحلل ويُحرم فذلك من مقتضيات ربوبيته أنه هو الذي يملك وحده التحليل والتحريم والتشريع، فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ، وفيه معنى التربية والتربيب فالله -تبارك وتعالى- يُربي خلقه وعباده، التربية من الناحيتين: الناحية الجسدية بما يغذوهم به فينبتون وهم في بطون أمهاتهم حتى يخرجوا بعد ذلك فيشب الواحد منهم ثم يشتد، وكذلك أيضًا يُربيهم التربية الأخرى بالإيمان، والهدايات وما إلى ذلك يُرسل إليهم الرسل ويُنزل عليهم الكتب.
فهنا: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ، وفيه لُطف الله -تبارك وتعالى- بعباده حيث يُرشدهم ويُبين لهم ويعظهم ويتجاوز عن ما وقع منهم قبل علمهم بذلك أو قبل التحريم: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15]، وهذا من رحمته -تبارك وتعالى- بخلقه، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [سورة الطلاق:7]، ولذلك هذا في كل الأمور، ومسألة العلم بالحكم بعد نزول التشريع تتفاوت يعني العلماء يذكرون المعلوم من الدين بالضرورة.
والواقع أن هذا أيضًا يختلف من زمانٍ إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، يعني: الذين في آخر الزمان يقولون لا يعرفون إلا هذه الكلمة لا إله إلا الله، يقولون: أدركنا عليها آباءنا، لا يعرفون صلاة ولا صيامًا، لا يعرفون شيئًا، يعني تندرس معالم الدين تمامًا، يعرفون هذه الكلمة، لكن حينما توجه هذا السؤال ما تُغني عنهم هذه الكلمة؟ قال: تُنجيهم أو تُنقذهم من النار؛ لأنهم لا علم لهم بشيء من حقائق الدين ودعائمه، لا يعرفون صلاة ولا زكاة، في آخر الزمان، لكن ليس لمن علم بذلك أن يترك هذه الأمور ويقول: تكفيني هذه الكلمة، لا.
وكذلك أيضًا الشواهد على هذا كثير جدًا، معاوية السُلمي : "لما عطس وتكلم في الصلاة وقال: واثكلا أُمياه وجلس يلتفت وينظر إليهم يقول: فجعلوا يرمقونني بأبصارهم"[3]، تكلم بهذا في الصلاة ويبدوا أن كل الصلوات التي كان يُصليها كانت على هذه الحال، فالنبي ﷺ ما أمره بالإعادة؛ لأنه جاهل، وقل مثل ذلك أيضًا فيما وقع من عمار : "حينما أصابته جنابة فتمعك كتمعك الدابة وصلى"[4].
وكذلك عمرو بن العاص: "حيث صلى بأصحابه وهو جُنب في يوم بارد محتجًا بقوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة النساء:29]، فخشي على نفسه الضرر ولم يعلم بالتيمم فلم يأمره النبي ﷺ بالإعادة"[5].
وحمنة حينما قالت: "إنها تُستحاض سبع سنين تدع الصلاة والصيام علمها أن هذا ليست بحيضة ولم يأمرها بقضاء الصلاة والصيام في وقت الاستحاضة"[6]، معنى ذلك أن الواجب عليها أن تصلي وتصوم، وهناك أمثلة كثيرة تتعلق بالعُذر بالجهل، ومسائل تتعلق بالتكفير، ونحو ذلك.
فهنا: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى، إن لم يأتيه ذلك لم يبلغه الخطاب خطاب الشارع فوجد فيما يُسمى بالجمهوريات الإسلامية التي كانت هي أجزاء من ما يُسمى بالاتحاد السوفيتي سابقًا، وكانت الشيوعية هي المسيطرة الحاكمة في تلك النواحي الشاسعة، وكانوا يُحاربون كل مظاهر الدين، والناس يستخفون بصلاتهم إن صلوا، وبصيامهم إن صاموا.
فالشاهد أنه بعد ما سقط ذلك الباطل المُنتفش وزار بعض طلبة العلم تلك البلاد وجدوا كثيرًا من المسلمين لا يعرفون الصلاة، وجدوا بعضهم لا يعرفون إلا ثلاث صلوات، ووجدوا من قدّم لهم الخمر على المائدة فلما رآهم نفروا من ذلك طمأنهم بأن هذه الخمر من عرق جبينه ومن كسبه فلا عليهم أن يشربوا منها لا إشكال؛ لأنها لم يأخذها بغصب أو سرقة أو اختلاس، هكذا يعتقد، فلما بُين له أن ذلك لا يجوز، أراقها فما شربه قبل ذلك قبل العلم، لاحظ مع أن قضية الخمر معلومة.
وقدامة بن مظعون في القصة المعروفة في زمن عمر لما شربوا الخمر في البحرين، ودعاهم عمر إلى المدينة وسألهم وأقروا على ذلك، واحتج قدامة بن مظعون وهو من أهل بدر بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [سورة المائدة:93]، هذه نزلت بسبب السؤال الذي ورد حيث قُتل من قُتل في غزوة أحد والخمر في أجوافهم قبل نزول التحريم: إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا [سورة المائدة:93]، فيقول: نحن اتقينا وآمنا وعملنا الصالحات وشهدنا بدرًا، يعني: هو شربها مستحلاً لها لم يعلم بالتحريم فهم الآية هكذا، فعمر عذره بهذا[7].
كذلك يؤخذ من هذه الآية: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى، "موعظة من ربه" هنا أضاف ذلك إلى الضمير "موعظة من ربه فانتهى" فقد يُفهم أن هذه من الربوبية الخاصة التي من مقتضياتها التوفيق والهداية والإرشاد، ونحو ذلك.
هنا أيضًا قال الله -تبارك وتعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، "فانتهى" فإذا أخذ بعد ذلك فهذا لم ينته.
كذلك أيضًا: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، ما قال هو في حِل أو قد غُفر له، أو تجاوز الله عنه، وإنما قال: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فجعل له حبلاً -الرجاء، ولكنه لم يكن ذلك بشيء قاطع يمكن أن يركن الإنسان إليه، وإنما يبقى على حال من الوجل: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، يبقى مُلازمًا للخوف يُكثر من الحسنات والأعمال الصالحة والاستغفار.
وهكذا ينبغي للمؤمن إذا اُبتلي بشيء من هذه الأعمال والمنكرات والذنوب أو ترك الصلوات أو ترك الصيام أو نحو ذلك فهداه الله وامتن عليه بالتوبة تاب عليه وهداه أنه ينبغي أن يُكثر من الأعمال الصالحة والاستغفار، والتوبة ونحو ذلك وهذا من أمارات صحة توبته، وقد تكلمنا على التوبة في مجالس كثيرة، وذكرت كلامًا للحافظ ابن القيم -رحمه الله[8] في هذا المعنى أن التوبة النصوح تلك التي تكون خالصة وصادقة وجازمة لا تردد فيها، وتكون أيضًا هذه عامة شاملة من كل الذنوب، ويكون حال العبد بعد ذلك إلى صلاح وتُقى وطاعة، أن يُقبل على الطاعات، لا أن يقول: أنا تائب ثم يكون في حال من الإعراض والغفلة على ما كان عليه، وإنما يُقبل على الله وتصلح حاله، وتستقيم أموره، هذه هي التوبة الصحيحة الصادقة النصوح.
فهنا وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، فهذا يجعل الإنسان دائمًا في حال من الخوف والوجل، ولا يضمن المغفرة والتوبة، وبعض الناس يسألون أسئلة غريبة يقول: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه[9]، إذًا أفعل ما شئت، ومن يضمن لك أنه قُبل هذا الصوم، من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر[10]، فيقول: هذه بثلاثمائة، الحسنة بعشر أمثالها، والست أيام بستين، ثلاثمائة وستين هذه عن السنة إذًا لماذا أصوم عاشوراء؟ ولماذا أصوم عشر ذي الحجة؟! ولماذا أصوم عرفة؟! ولماذا أصوم الاثنين والخميس؟!
وردني سؤال يقول: ثبت أن من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله[11]، إذًا لماذا لا يكفي هذا عن التراويح؟ ما شاء الله، كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [سورة الذاريات:17، 18]، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً [سورة المزمل:2]، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [سورة السجدة:16]، وهذا في هذه الحال من الاستغناء، إذًا فليقل لا أقرأ القرآن، أقرأ قل هو الله أحد ثلاث مرات والسلام، هذه ختمة، هذا ليس بصحيح، ليس بهذا الفهم، أو يقول مثلاً: أصلي ركعتين في قباء ويكفيني عن العمرة، لماذا أذهب إلى العمرة، ومن يرى حسن الحديث أو صحة الحديث: من جلس بعد الفجر يذكر الله حتى ترتفع الشمس ثم صلى ركعتين كان له أجر حجة وعمرة تامة تامة[12]، ولماذا نحج إذًا؟! هذا الفهم غير صحيح إطلاقًا.
فأسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم (4607)، والترمذي، أبواب العلم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم (2676)، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (8/ 107)، برقم (2455).
- بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 83).
- أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، برقم (537).
- أخرجه البخاري، كتاب التيمم، باب التيمم ضربة، برقم (347)، ومسلم، كتاب الحيض، باب التيمم، برقم (368).
- أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، برقم (334)، وأحمد في المسند، برقم (17812)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف، فيه عبد الله بن لهيعة، وهو سيئ الحفظ، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (361).
- أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب عرق الاستحاضة، برقم (327)، ومسلم، كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم (334).
- أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (5270).
- انظر: بدائع الفوائد (3/ 11)، وطريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:231)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 316).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، برقم (37)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، برقم (759).
- أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعا لرمضان، برقم (1164).
- أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، برقم (656).
- أخرجه الترمذي، أبواب السفر، باب ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، برقم (586)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6346).