الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
(240) قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ..} الآية:277
تاريخ النشر: ٠٩ / رمضان / ١٤٣٧
التحميل: 926
مرات الإستماع: 1154

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- صفة المرابين: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، وذكر موجب ذلك: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، ورد عليهم بقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275]، ثم ذكر مآل الربا: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [سورة البقرة:276]، فلما بيّن حال هؤلاء وما توعدهم به من النار، وكذلك أيضًا ما يحصل من المحق للربا سواء كان ذلك بنزع بركته، بركة المال، أو كان ذلك بعدم قبول الصدقات والنفقات التي يتقربون بها إلى الله من هذا الكسب الحرام.

قال بعد ذلك: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:277].

هذه الآية جاءت في ثنايا الآيات التي تتحدث عن موضوع الربا، فما علاقة ذلك بالربا؟

يمكن أن يُقال -والله تعالى أعلم: بأن ذلك باعتبار أنه حينما قرر وصف هؤلاء المرابين، وكذلك أنه لا يحب كل كفّار أثيم، قال: ذاكرًا أوصاف أضدادهم ومن يقابلهم، من يُقابل هؤلاء من أهل الربا الذين يتبجحون باستحلاله حيث قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، انقادت قلوبهم وأذعنت، وأقروا بما يجب الإقرار به الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، آمنوا بإلهية الله، وربوبيته، وأسماءه وصفاته، وأتبعوا ذلك بالأعمال الصالحة، وذكر نوعين من الأعمال الصالحة خصهما بالذكر لأهميتهم: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [سورة البقرة:277]، فهؤلاء بخلاف حال أهل الربا أولئك استحلوا الربا وبالغوا في الاستحلال، وهؤلاء آمنوا كما قال الله في آخر هذه السورة كما سيأتي: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، أي: آمنوا، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، هذا كله يدخل في قوله: إن الذين آمنوا، آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ، فهو داخل في هذا، فهؤلاء بخلاف أولئك الذين يعترضون على حكم الله، ويقولون: لماذا فرق بين الربا والبيع، والربا مثل البيع؟

ثم أيضًا هؤلاء من المرابين أبعد ما يكونون عن هذه الأوصاف، فهذه الصفات التي ذكرها الله الإيمان: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، فإيمانهم يحجزهم عن مثل هذا الاستحلال وارتكاب هذه العظائم.

وكذلك أيضًا الأعمال الصالحات لاسيما إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ومن أعظم الفحشاء ومن أعظم المنكر استحلال الربا وأكل الربا، وإيتاء الزكاة كذلك فإن هذا الذي يُخرج الزكاة يُطهر نفسه من الشُح وغوائله، ويُطهر ماله من كل ما يشوبه يبتغي بذلك ما عند الله -تبارك وتعالى- بخلاف هذا المُرابي الذي يجني على نفسه بهذا الربا فيُدنسها، ويجني على ماله فيلوثه بهذه المكاسب الخبيثة فهذا حال مخالفة ومغايرة تمامًا لحال أولئك المرابين: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، فالإيمان يمنع صاحبه، ولهذا سيأتي في الآية بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [سورة البقرة:278]، كما سيأتي فإن إيمانكم يمنعكم من ذلك من أخذ الربا والتعامل به إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة البقرة:277]، وهذا يدل كما سيأتي على أثر هذه الصفات حيث تكون حاجزًا بين صاحبها ومواقعة هذه العظائم والقبائح.

لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، لهم ثوابهم عند الله -تبارك وتعالى، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، نفى عنهم الخوف بجميع صوره وأنواعه، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، لا يتطرق إليهم الحزن على أمر فائت.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، الملازمة بين الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان ودعوى الإيمان وحدها لا تكفي بل لابد من العمل الصالح، وهذا كثير في القرآن، فهذا العمل من الإيمان؛ فالإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، فالتصديق الانقيادي والإقرار هذا من الإيمان، وهو ركن فيه، كذلك النطق بالشهادتين لابد منه، كذلك العمل الصالح لابد من العمل، ثم أيضًا ينضاف إلى ذلك هذا العمل ينقسم إلى عمل اللسان كالذكر وقراءة القرآن ونحو ذلك، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا كله من عمل اللسان، وعمل القلب كالخوف والرجاء والمحبة ونحو ذلك، وأعمال الجوارح من صلاة وغيرها.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، أطلق الصالحات هنا فشرائع الإسلام كثيرة، فهذه الصالحات منها ما هو من قبيل الفرائض وهي أفضل وأكمل عند الله -تبارك وتعالى، وفي الحديث: ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه[1]، فالفرائض أثقل في الميزان من النوافل، فصلاة العشاء أفضل من هذه الصلاة التي صليناها بعدها صلاة التراويح، وصيام رمضان هذا الذي نصومه أفضل من صيام النوافل، صيام المحرم وعشر ذي الحجة والاثنين والخميس وما إلى ذلك، والزكاة التي نخرجها أفضل من الصدقة.

وكثير من الناس يغفل عن هذا يكون حرصه على النوافل كأن يصلي من الليل وينام عن الفجر، أو أنه يصوم تطوعًا فينام عن الصلوات في النهار وصلاة الفريضة أولى وأهم من هذا الصوم النافلة الذي ضيع عليه صلاة الفرض، وكثير من الناس يُجادل في أمور تتعلق بالزكاة وهو حريص على الصدقة، يعتقد أن هذا النوع من الأراضي ليس فيه زكاة، أو في المرأة في الذهب الذي تلبسه لربما تجادل وليست من أهل العلم، لماذا يكون في الذهب المستعمل زكاة! هي ليست مجتهدة، ولم تقلد عالمًا ترتضي فتواه بأنه لا زكاة فيه، لا، لكنها تجد أن ذلك يثقل عليها وهي في الوقت نفسه تتصدق، وتحرص على الصدقة، هي لو كانت زكاة فهذا أبرأ في الذمة وأثقل في الميزان، الزكاة أثقل في الميزان من الصدقة.

وقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، يدل على أنه لا يُتقرب إلى الله بالبدع والمحدثات؛ لأنها ليست من الصالحات، فالله لا يُعبد إلا بما شرع، من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[2]، كثير من الناس يتقربون إلى الله بأوراد مبتدعة، وبعبادات ما أنزل الله بها من سلطان في أوقات معينة في اليوم والليلة أو السنة، ليلة كذا من شهر كذا، أو يعتقد في العمرة في وقت معين مما لم يرد فضله عن الشارع، فيتهافت هؤلاء الناس ويبذلون الأموال الطائلة حتى يحصلوا هذا العمل، وليس ذلك مما ورد عن الشارع، ولا يكون العمل صالحًا إلا إذا كان خالصًا لله -تبارك وتعالى.

فالعمل قد يكون في صورته على الوجه المشروع، لكن النية فاسدة صاحبه يلتفت إلى المخلوقين، ينتظر منهم الثناء أو الحمد، سواء كان صدقة عمارة مسجد، أو كان ذلك بصلاة يصليها أو غير ذلك، قد يصوم يومًا ويُفطر يومًا سائر العام، وهو يتزين بهذا، وينتظر من الآخرين أن يحمدوه على هذا العمل، ويُشعرهم أنه يصوم يوم ويُفطر يوم فهذا لا يكون له إلا ما نوى وإنما لكل امرئ ما نوى[3]، فهذا في أحكام العاملين وأحكام الأعمال إنما الأعمال بالنيات، فيذهب أجره ويكون عليه الوزر يعني لا يخرج بسلامة.

وحديث: أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة[4]، وذكر منهم أصحاب هؤلاء الأعمال الجليلة، القارئ، والمجاهد، والمنفق، لكن هؤلاء كانوا يريدون أن يُقال وقد قيل، فيؤمر بهؤلاء إلى النار، يُبتدئ بهم، فالعمل لا يكون صالحًا إذا كان من غير إخلاص، فشأن الإخلاص عظيم أن يُحسن الإنسان نيته وقصده ويُحاسب نفسه ولا يلتفت إلى الناس، الناس مساكين وهو مسكين معهم أيضًا، لا ينظر إليهم بحال من الأحوال من هذه الحيثية، وكما ذكرت مرارًا انظر إلى هؤلاء أمثال الذر حينما يبدو هؤلاء بلقطات وصور عالية أو من أعلى وهم في ساحات الحرم وحوله يجولون أمثال الذر، ذر صغار، فمثل هؤلاء كيف يُصرف لهم العمل ويُترك العظيم الأعظم -جل جلاله، وتقدست أسماءه.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضًا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [سورة البقرة:277]، فهنا قال: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ أقاموا ولم يقل: وأدوا الصلاة ولم يرد في موضع واحد في القرآن أدوا الصلاة، في الزكاة آتوا أن يعطيها لكن في الصلاة أقاموا، فإقامة الصلاة أن يأتي بها مستوفية لأركانها وشروطها وواجباتها ومستحباتها من الخشوع وغير ذلك، فهذه الصلاة هي التي تؤثر فيه، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، ولهذا قال الله : وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت:45].

فالوصف هو الإقامة والحكم الذي يكون لذلك هو أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، تنهى عن الفحشاء، متى تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر؟ إذا أُقيمت، ما هو إذا أُديت إذا أُقيمت، فإذا نقرها نقرًا لا يُقيم ركوعها ولا سجودها ولا يحضر قلبها فيها يخرج عند المسجد ويفعل أنواع المنكرات ويسب ويشتم ويغش ويكذب ويحلف كاذبًا وهو يبيع عند باب المسجد أو غير ذلك، ما أثر هذه الصلاة لا أثر لها، لماذا؟ لا أثر لها؛ لأنه أداها وما أقامها، وَأَقَامُوا الصَّلاةَ، وهذا جواب عن السؤال الذي يرد كثيرًا وهو: هؤلاء الذين يصلون قد لا يبدو على بعضهم أثر الصلاة حيث لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر فأين أثر الصلاة؟

نقول: كلام الله حق، ولكن هؤلاء أدوها وما أقاموها، وهذه القاعدة: أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، يعني بقدر ما يكون من الإقامة لها باستيفاء الشروط والأركان والواجبات يكون أثرها من نهيها عن الفحشاء والمنكر، فإذا ضعُفت الإقامة ضعُف الأثر، فإذا انعدمت الإقامة انعدم الأثر، هذا معناه في غاية الاختصار والإيضاح بعيدًا عن التطويل في هذا بكلام لربما يذكره بعض الوعاظ، هذا هو السبب، وهذا هو العِلة التي من أجلها لا نرى للصلاة كبير أثر على كثير من المصلين ما أقاموها.

وإذا أردت أن تأتي بصلاة مطمئنة مؤثرة يحتاج الإنسان أن يُبكر للصلاة أما هذا الذي يدخل وهو ثائر النفس يريد أن يُدرك الركوع أو يريد أن يُدرك الركعة الأخيرة دائمًا في أواخر الصفوف دائمًا يقضي، فهذا لن يحضر قلبه في هذه الصلاة، وهو بهذا الإسراع وتتابع النفس، يحتاج أن يأتي الإنسان مُبكرًا ويصلي قبلها السنة الراتبة إن وجِد أو يُصلي تحية المسجد يذكر الله تصلي عليه الملائكة، وهي تستغفر له وهو في مصلاه، يحصل له سكينة وهدوء نفس، طمأنينة فإذا أُقيمت الصلاة قام وهو مُتهيأ، فإذا كبّر الإمام كبّر معه، هذه الصلاة تؤثر، فلنصلي صلاة مؤثرة تنهانا عن الفحشاء والمنكر.

وقوله: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ، كثيرًا ما يقرن ربنا -تبارك وتعالى- بين هاتين العبادتين إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقد ذكرت الجواب عن ذلك، فمما ذكره العلماء في وجه هذا الاقتران: أن العبادات نوعان: عبادات مالية، وعبادات بدنية، فرأس العبادات البدنية الصلاة هي أعظمها، ورأس العبادات المالية هي الزكاة فهي أعظمها، العبادات المالية كثيرة من الكفارات والنذور والصدقات ونحو ذلك، والعبادات البدنية كثيرة لكن أعظم العبادات البدنية الصلاة، فذكر رأس العبادات البدنية ورأس العبادات المالية.

ويمكن أن يُقال في توجيه ذلك بأن الصلاة صلة بين العبد وربه، والزكاة صلة وإحسان إلى المخلوقين، وسعادة العبد دائرة بين الأمرين حُسن الصلة بالله والإحسان إلى المخلوقين، فذكر هاتين العبادتين، ومهما يكن من أمر فإن ذكر الصلاة والزكاة بعد الأعمال الصالحة -والصلاة والزكاة من جملة الأعمال الصالحة- هذا من قبيل عطف الخاص على العام؛ وذلك لأهمية الخاص، وإلا فهما داخلان في عموم الصالحات، كقوله -تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [سورة البقرة:98]، فجبريل وميكال -عليهما السلام- من جملة الملائكة ولكنه أفردهما بالذكر وخصهما لشرفهما وعظيم منزلتهما، فهذا يدل على قدر هاتين العبادتين وشرفهما فكيف يُفرط فيهما، كيف يُفرط الإنسان بالصلاة؟! وكيف يُفرط بالزكاة؟! يتأول لنفسه تأويلات.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فقدم الضمير المتعلق بهما لَهُمْ أَجْرُهُمْ؛ للاعتناء بالمطلوب الأهم هم يريدون ما يعود إليهم أولاً ما يتعلق بذواتهم بأشخاصهم فقال لهم كأنه يقول: اطمئنوا لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وهذا أيضًا -الأسلوب- يُشبه الحصر لَهُمْ أَجْرُهُمْ، وسماه أجرًا وهذا من رحمته -تبارك وتعالى، يعني: هو الذي أعطى وهو الذي شرع وهو الذي هدى ووفق وهو الذي يُثيب، فسماه أجرًا، والأصل أن الأجر هو ما يتقاضاه مقابل العمل، فالله يُعطي ويوفق ويهدي ويُثيب على ذلك فهو الأول والآخر ، لَهُمْ أَجْرُهُمْ فسماه أجرًا فهذا من عظيم رحمته ولطفه بعباده -تبارك وتعالى، وأضاف الأجر إليهم لاختصاصه بهم فلا يذهب أجر الإنسان إلى غيره، فأجره يرجع إليه.

وكذلك أيضًا في قوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ هنا ذكر هذه الصيغة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يدل على عظمة هذا الأجر؛ لأنه عند العظيم الأعظم الغني، إذا قال عظيم من الناس أجرك عندي عملك عندي، معناها خلاص لا تسأل عن مقداره ولا تسأل عن الضمان أنه سيأتي متحقق لن يضيع، قال: أجرك عندي تطمئن وترتاح، فهذا عند الغني الغناء الكامل الكريم الأعظم الشكور الذي يُجازي بالحسنات ويُضاعف الجزاء.

عِنْدَ رَبِّهِمْ وذكر اسم الرب هنا وأضافه إليهم فهذه ربوبية خاصة، ومن معاني هذا الاسم السيد، وكذلك أيضًا المالك المتصرف المُدبر المُربي خلقه فلا يُضيع شيئًا من عملهم، يُربي هذه الصدقات ويُربيها فتعظم عنده -تبارك وتعالى، عِنْدَ رَبِّهِمْ فيه معنى التربيب والتربية، فالله يُربي الصدقة لصاحبها حتى تكون مثل الجبل، فإذا جاء إلى الكريم الأكرم الرحيم وجد هذه الأعمال والحسنات والصدقات أمثال الجبال نمت عند الله -تبارك وتعالى.

فهذا من كمال فضله ومن معاني ربوبيته -تبارك وتعالى- أنه يُحسن إلى خلقه هذا الإحسان، ويدخر لهم هذه الأعمال ويُجازيهم عليها بعد أن وفقهم ويُضاعف لهم الأجور.

وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، كما ذكرنا في نظائره وَلا خَوْفٌ قلنا: نكرة في سياق النفي فتنتفي جميع أنواع المخاوف في الدنيا والآخرة والبرزخ وَلا خَوْفٌ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، نفى الحزن عنهم، وقلنا الخوف قلق من أمر مستقبل والحزن بعكسه لأمر فائت، هنا لا يحزنون على ما فات، فمن أراد السعادة وينتفي عنه رُكنا الشقاء في الدنيا، الخوف قلق يعني والحزن، فإن الناس فيما يعانون يدورون بين هذا وهذا، بين هذين الأمرين الخوف قلق يعني من المستقبل أو الحزن لأمر مضى.

فمن أراد السعادة فعليه أن يضبط هذه الصلاة أولاً، ولذلك كان النبي ﷺ يقول: قم يا بلال فأرحنا بالصلاة[5]، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة[6]، اشتد عليه أمر، وهكذا كان أصحابه ، ابن عباس -رضي الله عنهما- لما نُعي إليه أخوه كُثم نزل وقرأ هذه الآية وهو في سفر اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [سورة البقرة:153]، واستقبل القبلة وصلى ركعتين، الإنسان قد يكون في حال من البلاء والشدة تنزل به مصيبة ونحو ذلك فعليه أن يفزع إلى هذه الصلاة أن يضبطها وليس في لحظتها فقط أن يكون له رصيد سابق، أن يكون عرف الله في الرخاء فيعرفه الله في الشدة، فهذا يكون في حال من الطمأنينة والراحة والسعادة. 

كذلك الزكاة، كذلك سائر الأعمال الصالحة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فالإيمان والعمل الصالح كل ذلك من أسباب السعادة الحقيقية، والنفوس إذا كانت شاردة عن ربها ومولاها ومليكها -تبارك وتعالى- تشقى ولو كانت تتمرغ الأجساد على الحرير، ولذلك تلاحظون الذين يعيشون في رغد ونعمة ويتقلبون في الملاذ يسئمونها وتجد الواحد منهم دائمًا في ضيق ويمل أنواع المأكولات والمطعومات والملاذ التي بين يديه ولربما يحمله أهله حملاً أو البنت هذه على أن يأكل من هذه الطيبات ونفسه تأبها لا يجد لها طعمًا، وكذلك لا يجد لهذا الفراش الوفير لا يجد له أيضًا أثرًا في راحة أو نحو ذلك؛ لأن النفس مستوحشة شاردة مظلمة، فهذه لا يُنعمها نعيم الجسد إطلاقًا، ولذلك قد يكون الإنسان يعيش في صحراء أو في كوخ أو في ناحية لربما في غاية الضعف والضيق والشدة وتجده في سعادة وراحة وقرير العين.

وآخر يعيش في بحبوحة من العيش، ومع ذلك هو تعيس، وقد يحتاج الذهاب إلى الأطباء من أجل أن يأخذ مُهدئات أو شيء من هذا القبيل، وأتعس الناس هم الكفار الذين لا يعرفون الله أصلاً، ولذلك تكثر عندهم هناك المصحات النفسية مع ما هم فيه من الرفاهية، فلماذا حصلت لهم هذه التعاسة وهم في رفاهية، كل شيء مُذلل وكثير من أبناء المسلمين يذهبون هناك من أجل أن ينظروا في تلك البلاد وما أعطاهم الله وما حباهم ومع ذلك هم في شقاء؛ لأن النفس شاردة بعيدة غير متصلة بمولاها فلابد من أثر لذلك وهو أن يكون الإنسان منقطعًا عن كل سبب من أسباب السعادة.

هذا وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من السعداء في الدنيا والآخرة، وأن يُلهمنا رُشدنا، وأن يُعيننا على ذكره وشكره وحُسن عبادته، وأن يغفر لنا ولوالدينا، ويتقبل منا ومنكم أجمعين -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم (6502)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم (2675).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، برقم (1718).
  3. أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ؟، برقم (1)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنية، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907).
  4. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرياء والسمعة، برقم (2382)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1713).
  5. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، برقم (4986)، وأحمد في المسند، برقم (23154)، وقال محققوه: "رجاله ثقات، لكن اختلف فيه على سالم بن أبي الجعد".
  6. أخرجه أبو داود، أبواب قيام الليل، باب وقت قيام النبي ﷺ من الليل، برقم (1319)، وأحمد في المسند، برقم (23299)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4703).

مواد ذات صلة