بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما ذكر الله -تبارك وتعالى- أحكام هذه المعاملات من الربا، وما ينبغي من الإرفاق بالمدين المُعسر، ذكر بعد ذلك أحكامًا تتصل بالمداينات في آية الدين من سورة البقرة، وهي أطول آية في كتاب الله، في أطول سورة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [سورة البقرة:282] إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية الكريمة.
فهذه أطول آية، وقد قال بعض السلف: بأنها أرجى آية في كتاب الله ، بمعنى أنها أكثر آيات القرآن ترجية بسعة رحمة الله ، وهذا قد يبدو لأول وهلة غريبًا، ولكن إذا عُرف مأخذه اتضح وجهه؛ وذلك أنهم قالوا: إن الله -تبارك وتعالى- احتاط لمال عبده المؤمن بهذه الاحتياطات الكثيرة؛ لئلا يضيع، ولو كان قليلاً، وشيئًا يسيرًا، فالمؤمن أعظم حرمة عند الله -تبارك وتعالى- من ماله، فإذا كان الله قد احتاط لمال المؤمن، فالمؤمن أعظم حرمة عنده -تبارك وتعالى، فإذا كان لم يُضيع ماله، واحتاط له هذه الاحتياطات، فذلك يعني أن الله لا يُضيع عبده المؤمن، فهذا وجه القول بأنها أرجى آية في كتاب الله، مع أن المشهور أن أرجى آية في كتاب الله هي قوله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [سورة الزمر:53] وهناك آيات أخرى قال قائلون من السلف بأنها أرجى آية في كتاب الله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يا من أقرت وأذعنت وانقادت قلوبهم لما يجب الإذعان والإقرار به.
إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إذا تعاملتم بمداينة، فليكن ذلك مكتوبًا، وهذا يشمل سائر أنواع الديون، مما يحصل فيه التأخير، إما للثمن، أو المُثمن، يعني: إما الثمن وهو المال الذي يُدفع، فيؤخر، أو أن يكون المُثمن كالسلَم مثلاً فيُعطيه المال على أن يتقاضى منه حبًا من البُر مثلاً، لكن بكيلٍ معلوم، أو إذا كان الشيء موزونًا بوزن معلوم، فيكون الأجل معلومًا، فهذه المداينات بأنواعها داخلة في هذا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إلى وقت معلوم فاكتبوه؛ وذلك احترازًا وحفظًا للحقوق، والأموال، ودفعًا للخصومات، فقد يتطرق النسيان، أو الشك، أو غير ذلك.
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ الذي ينهض بالكتابة يكون من أهل الأمانة والضبط، من أجل أن لا يحصل منه تبديل أو تغيير أو بخس، ثم أرشد هذا الكاتب أن لا يمتنع وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فلا يمتنع من الكتابة كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ يحتمل المعنى هنا يعني كما مّن الله عليه بهذه النعمة، وهي الكتابة، فليبذل ذلك، فليكن شاكرًا لنعمة الله عليه، وليكتب لغيره إذا احتاج الناس إلى كتابته.
ويحتمل أن يكون المعنى: أن يكتب على الوجه المشروع، كتابة على الجادة صحيحة، كما علمه الله في حدود الكتابة والأمانة والعدل، من غير أن يُغير، أو يُبدل أو يزيد على هذا، أو يُنقص من حق هذا، فهذانٍ معنيان، والقرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهو مأمور بالكتابة تأدية لحق هذه النِعمة، وكذلك تكون هذه الكتابة على وجه مرضيٍ صحيح، وموافق لشرع الله -تبارك وتعالى.
وأيضًا فالذي يقوم بالإملاء على هذا الكاتب، فالكاتب لا يكتب من عند نفسه، وإنما وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا يُملل الذي عليه الحق؛ لماذا يُملل الذي عليه الحق؟ يعني المدين؛ لأن هذا إقرار منه، فليس الذي يقوم بالإملاء هو الدائن؛ لأنه صاحب المال، فقد يزيد، ولكن الذي عليه الحق قد يُنكر ما أملاه الدائن، ويقول: زاد عليّ، غيّر وبدّل، لكن المطلوب هو إقرار الذي ستوجه إليه المُطالبة فيما بعد، ويُقال له: عليك الوفاء، فمن أجل ألا يحتج فيقول: إن ذلك كُتب عليّ وأنا لم أرضه، ولم أُسلم بهذا، فأنا لا أعترف بهذه الكتابة؛ لماذا لا تعترف بها؟! ولهذا قال: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ولم يقل: وليُملل صاحب الحق، وإنما قال: الذي عليه الحق، لماذا؟ لأنه إقرار.
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ذكّره بالتقوى من أجل ألا يبخس ولا يُنقص من هذا الحق، فيتجارى مع هواه وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا.
ففي قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خاطبهم باسم الإيمان -كما ذكرنا في مناسبات سابقة- لأن هذا الإيمان الذي أقروا به، وأذعنت قلوبهم بذلك، هو الذي يكون سببًا للقبول عن الله ، والرضا بشرعه وحكمه، فهذا هو السبيل إلى الإذعان، فإن من شأن المؤمن أن يُسلم لربه وخالقه -تبارك وتعالى، فهذا الإيمان الذي أقررتم به يقتضي أن تفعلوا ما أمركم الله به.
ويُؤخذ أيضًا من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أن هذا العمل المذكور الذي طُلبوا به من الإيمان، وهذا يدل على أن الإيمان قول وعمل، وأن هذه الشريعة تشمل العبادات، والمعاملات، يعني: هذه معاملة مالية بحتة، ومع ذلك خاطبهم باسم الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهذه الشريعة جاءت لتحكم الناس في كل شأنٍ من شؤونهم، وليست قضايا تتعلق بصلة العبد بربه في المسجد، وإنما في المسجد، والسوق، وفي كل مكان.
ثم أيضًا قوله: إِذَا تَدَايَنتُمْ جاء بـ(إذا) ولم يقل: "إن تداينتم بدين" والفرق بين (إذا) الشرطية، و(إن) أن إن الشرطية تُستعمل فيما يندُر وقوعه، أو يبعُد وقوعه، بينما (إذا) تكون في كثير الوقوع، وهذا باعتبار أن المداينات تقع من الناس كثيرًا؛ وذلك أن مصالحهم قد تتوقف على ذلك، فقد يكون الإنسان من أهل الحذق والنشاط والجد والابتكار والصنعة والإدارة، لكن ليس بيده مال، ولو كان بيده مال لأقام المشروعات، وعمل المصانع والأعمال التي من شأنها أن تُدر الأرباح، وتنمو التجارات، فهذا يحتاج أن يستدين ويقترض، فهو رجل لا ينقصه شيء في فكره ونشاطه وعمله وجده، لكن ليس بيده مال.
وقد يكون من أهل الأموال، ولكن ماله قد لا يكون حاضرًا في ساعته، ففي هذه الحال ماذا يصنع؟ قد يحتاج إلى أن يستدين، فصاحب المال قد يقصر ماله عن بعض مطالبه في تجارته، ونحو ذلك، فيحتاج إلى أن يستدين، فهذه المُداينات كثيرة في أعمال الناس، لا سيما ما تقوم عليه مصالح هؤلاء الناس، يعني في باب السَلم مثلاً، فالمزارع عنده أرض، ولكن ليس عنده ماله يزرع، فهو يحتاج أن يشتري البذر، ويحتاج إلى عاملين في هذه الأرض في السقي، ونحو ذلك، فيستعطل لو لم يُحصل المال، فيأتيه آخر عنده مال، وليس عنده أرض، فيُعطيه، ويقول له: هذه مائة ألف ازرع هذه الأرض، وأستوفي منك وقت الحصاد بقدر كذا، ويُحدد له الكيل، أو الوزن الذي يتفقون عليه، أو يقول: أنا اشتري منك مثلاً الصاع بكذا بهذا المال، فآخذ فيه كذا وكذا من الأوسق مثلاً، والوسق: ستون صاعًا، فيُعطيه مالاً ويقول: هذا أتقاضاه منك عشرة أوسق من التمر، فهذا ينتفع بأخذ المال، ويعمل ويغرس ويزرع ويبذر، وذاك في النهاية تاجر يأخذ هذا الثمر بالقدر الذي اتفقوا عليه، ويبيعه ويربح فيه، ونحو ذلك.
وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يدل على جواز هذه المعاملات والمداينات، ولكن ليس ذلك بإطلاق، فإن الدين شأنه عظيم، وقد جاء عن سلمة بن الأكوع قال: كنا جلوسًا عند النبي ﷺ، إذ أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا، قال: فهل ترك شيئًا؟ قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله، صل عليها، قال: هل عليه دين؟ قيل: نعم، قال: فهل ترك شيئًا؟ قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها، قال: هل ترك شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فهل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله، وعلي دينه، فصلى عليه[1].
فكان النبي ﷺ يسأل أبا قتادة عن هذين الدينارين، ما فعل الديناران؟ فلم يُصل عليه بسبب دينارين، فكيف بالذي عليه ملايين؟! فكيف بالذي أخذ أموال الناس وضيعها؟! فالتساهل في الديون أمر غير محمود، لكن قد تتوقف حاجات الناس ومصالحهم على هذا، كزارع حياته وقوته مع عياله من هذه المزرعة، فيبيع بالسَلم بهذه الطريقة، فلا إشكال في هذا، لكن الكلام في صور أخرى وممارسات، كمن يريد أن يُحصل أرباحًا وثروة زائدة على قدر حاجته، يُريد أن يتكثر فيقترض من البنوك، والبنوك تعطيه تسهيلات، وتُغريه بهذه القروض، لا سيما بهذه البطاقات التي أصبح الإنسان يدفع المال، ويصرف، وأمواله هناك، ومعه هذه البطاقة البلاستيكية، هو لا يشعر حينما يسحب، وحينما يشتري ما لا حاجة له فيه.
وبعض هذه البطاقات -كما هو معلوم- تكون بديون تركب هذا الإنسان وتُغرقه، وربا يتضاعف عليه، ثم بعد ذلك يجد نفسه في بحر من الدَّين، لا قِبل له به، وإذا توقف هؤلاء عند سقف معين، ذهب إلى آخرين، وأخذ منهم، وإلى ثالث، فإذا استوفى هؤلاء ذهب إلى بائع السيارات، واشترى جملة من هذه السيارات بالديون، وهو يعلم أنه لا يملك الوفاء؛ لأنه في النهاية موظف أو مُعلم راتبه لا يستطيع أن يوزع؛ ولذلك تجد هذا الإنسان في النهاية يقول: لا يبقى عندي خمسمائة ريال، قد يكون راتب هذا الإنسان عشرة آلاف، أو خمسة عشر ألف، أو أكثر، لكنه لم يبق عنده منها خمسمائة ريال، وأحيانًا لا يستطيع أن يوفر الطعام لأهله -لزوجته وأولاده، ويبقى في حسرات، ما الذي أغراه بهذه الدين؟!
فالذي أغراه هي هذه الطريقة البائسة (الطُعم) فهو يأخذ ولا يشعر، ثم بعد ذلك إذا جاءت المُطالبة أفاق، أو يشتري بذلك أشياء لا حاجة إليها، ولا ضرورة، من الأثاث الفاخر، والمراكب غالية الثمن، ومن المُقتنيات من الأواني والتُحف، وغير هذا، مما يُريد أن يتزين به أمام الآخرين، ويريد أن يكون كالآخرين، والمرأة تريد أنه إذا دخل صواحباتها هذه الدار رأين ما يرينه في الدور الأخرى، فتجد كأنك في متحف أحيانًا من بريق الأثاث والتُحف، ونحو ذلك، وهذا كله بالديون، فأول هذا بهجة ولذة، وآخره حسرة.
فهذه الديون يجب أن تكون في حاجات الإنسان التي لا بد له منها، أما في أمور التوسع فهذا لا يحسُن بحال من الأحوال، وليس ذلك من العقل، وحُسن التدبير، وإنما يكتفي الإنسان بقدر ما أعطاه الله ، ولا يتوسع، ولا ينظر إلى ما عند الآخرين، وما حازوا، ثم يريد أن يُحاكيهم ويُضاهيهم.
وحينما تذهب أحيانًا لبعض النواحي التي يسكنها أناس فقراء، تجد مراكب وسيارات، لا يتفق أبدًا مع هذه الأحياء والمساكن، وحينما تسأل ما هذه المفارقة؟ تجد الجواب: أن كثيرًا من هؤلاء يُفكر بطريقة أخرى، فهو يعتقد أن داره، وما يُقابل الناس به، والوجه الذي يراهم فيه، ويرونه، هي هذه المركب، فهو يتزين ويترفع بها، فيشتريها بالديون.
وجمال الإنسان -أيها الأحبة- وجماله بما يُحسن، وليس بسيارة يركبها، أو ثوب يلبسه، أو دار يسكنها، فهذه قد تحصل لمن لا خلاق له، ولا عقل ولا دين ولا مروءة، ولكن كمال الإنسان الحقيقي بما يحمله من كمالات، وليس بالصور والأشكال، ولكن كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله:
والناس أكثرهم فأهل ظواهر | تبدو لهم ليسوا بأهل معانِ |
فهم القشور وبالقشور قوامهم | واللُب حظ خُلاصة الإنسانِ[2]. |
فالصحيح: خذ بنصل السيف، واترك غمده، فالغمد لا عبرة به، فالعبرة بما تحت الثياب، وليست بالثياب والمظاهر والأشكال، ولكن كثيرًا من الناس لا يعلمون، فأغرقتهم الديون، وأحاطت بهم من كل جانب، وصاروا في حال يُهددون فيها بالحبس، ونحو ذلك، وربما يذهب هنا وهناك يطلب من الناس الزكاة والمساعدات، وكان في غنًى عن هذا كله.
وهذا الخطاب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى في أطول آية في القرآن يدل على العناية بهذا الباب، فهذا الموضوع فينبغي أن يُعتنى به، وكثير من الناس يقع بينهم مثل هذه الأعمال والمعاملات وتكون الثقة هي الغالبة، ويكون ذلك مبناه على حُسن الظن، أو على الحياء والخجل، كأن يستحي أن يكتب مثل هذا، باعتبار أن هذا من أصحابه، وأنه أمين وثقة، ثم لا يُكتب، ويمضي الزمان، وبعد ذلك يجد الإنسان نفسه أمام حال من الخصومة، ربما يُنكر أصل الدين، أو يُنكر بعضه، ويختلفون، يقول هذا: أخذت منك كذا، وأعدت لك كذا... إلى آخره، ولو أنه كُتب ووثق وأشهد لكان استراح من هذا.
فأنا أقول هذا الكلام -أيها الأحبة- مما أرى وأُشاهد، ففي أحيان كثيرة يأتني أُناس، ولست بقاضٍ ولا مفتي، لكن يريدون أن يتحاكموا إلى شخص يرتضونه، فتجد منشأ هذه المشكلات إغفال هذا الأمر، وهو الكتابة والتوثيق، فلم يكتبوا فوقع التخالف والتنازع، وكانوا أحبة من قبل؛ لكنهم تخاصموا في النهاية، وبدأت الظنون، والتُهم تتوجه من كل طرف إلى الآخر، وأحيانًا تسمع بعض الكلمات التي تتمنى أن لا تسمعها، وعلى كل حال، فالله عليم حكيم، وهذا يدل على كمال هذه الشريعة، وعلى لطف الله بعباده، حيث دفع عنهم أسباب الخصومات والشر بتوثيق هذه الحقوق.
ويؤخذ من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أن الدَّين ولو كان يسيرًا، فإنه يُكتب، إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ فدين نكرة في سياق الشرط، فتفيد العموم، يعني: ولو كان هذا الدَّين عشرة ريالات، ولو كان مائة ريال، أو أكثر، فَاكْتُبُوهُ فهذا أمر من الله -تبارك وتعالى- بالكتابة، وقال الله : وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ فلا يكتب الدائن، صاحب المال، لئلا تتطرق التهمة، وقد لا يقبل بكتابة من عليه الحق، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ففهم بعض أهل العلم من ذلك: أن الكاتب ينبغي أن يكون محايدًا، طرفًا ثالثًا، لا ناقة له ولا جمل.
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ فكاتب هنا نكرة في سياق الإثبات، فهي بمعنى المُطلق، يعني: يصدق ذلك على أي كاتب، لكن بهذا القيد والوصف (بالعدل) لماذا؟ لأن المقصود هو أن يكون مرضيًا، وهذه العدالة تتحقق بجملة من الأمور: من الديانة، والصيانة، والضبط، والاستقامة والطاعة، واجتناب الكبائر وصغائر الخِسة، يعني الصغائر التي تُدنس الأعراض، مع حفظ المروءات، فهذا الكاتب العدل وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ فإذا كان يكتب بالعدل، لا بد أن يكون عدلاً، مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [سورة البقرة:282] وهذا في باب الشهادة، وهنا في الكتابة بالعدل، يقتضي أن يكون هو عدلاً.
وأيضًا إذا كان يكتب بالعدل، فهذا يقتضي تعلم الكتابة، وما يُطلب في كتابات الحقوق والتوثيقات، وما إلى ذلك، فهذا مما يُتعلم، فيكون ذلك من المطالب الشرعية؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، وما لا يتم المستحب إلا به فهو مُستحب، على خلاف بين أهل العلم في حكم الكتابة في الديون، مع أن هنا أمر فَاكْتُبُوهُ والأصل أن الأمر للوجوب؛ ولهذا ذهب طوائف من أهل العلم إلى أن كتابة الديون واجبة.
وبعضهم قال: هذا أمر للاستحباب والإرشاد، والصارف له من الوجوب عندهم إلى الاستحباب: هو أن النبي ﷺ وقع منه ذلك، ولم يُنقل أنه كتب، وتوفي النبي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي من غير كتابة، وكذلك شرع الله الرهن -كما سيأتي في آخر الآية- حينما لا يوجد الكاتب، فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [سورة البقرة:283] فقالوا: هذا بديل، فلا تجب الكتابة، إذا وجد الرهن فالمقصود التوثق؛ ولهذا قال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فقالوا: في حال أنه يأمن ويثق ونحو ذلك فلا يجب عليه الكتابة، فقالوا: إن هذه الثلاثة الأدلة تدل على أن الكتابة ليست واجبة.
وقد ورد أن النبي ﷺ ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي ﷺ ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله ﷺ المشي، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي، فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي ﷺ ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله ﷺ، فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس وإلا بعته؟ فقام النبي ﷺ حين سمع نداء الأعرابي، فقال: أو ليس قد ابتعته منك؟ فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه، فقال النبي ﷺ: بلى، قد ابتعته منك فطفق الأعرابي، يقول هلم شهيدًا، فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي ﷺ على خزيمة، فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله ﷺ، شهادة خزيمة بشهادة رجلين[3].
فشهد خُزيمة، فجعل النبي ﷺ شهادته بشهادة رجلين عدلين، ولم يكتب، مع أنها لم تكن ناجزة، فلم يأخذ الفرس ويعطيه الثمن، وإنما استمهله حتى يأتي بالثمن.
أتوقف عند هذا، ونترك الإضافات والتعليقات -إن شاء الله- حتى ننتهي من الآية كاملة.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب الحوالات، باب إن أحال دين الميت على رجل جاز برقم: (2289).
- توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية نونية ابن القيم (1/ 119).
- أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به برقم (3607) وصححه الألباني.