بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا زال الحديث متصلاً بهذه الآية الكريمة، الطولى، من سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [سورة البقرة:282] إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى.
وقد تحدثنا عن صدرها، وهنا يقول الله -تبارك وتعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ أي: اطلبوا شهادة رجلين عدلين، من المسلمين، تتحقق فيهما شروط الشهادة، كالبلوغ، والعقل، والعدالة، فإن لم يوجد رجل فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أي: ترضون شهادتهم؛ وذلك من أجل أن تُذكر إحدى المرأتين الأخرى، حال نسيانها.
فمن قوله -تبارك وتعالى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أخذ منه بعض أهل العلم: أن القول قول المدين، فيما لو حصل تخالف بين الدائن والمدين؛ لأن الله أرجع ذلك إليه وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فالذي عليه الحق هو المدين، الذي ستتوجه إليه المطالبة، فكان الإملاء والإملال -وهما بمعنى واحد- صادرًا منه، من أجل أن لا يُنكر، ويقول: كُتب عليّ وأُلزمت بأشياء، وفُرضت عليّ أموال، لم أُقر به، ولم اقترضها مثلاً، كذلك لو أملى صاحب الحق فقد يزيد، لكن هنا وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وهذا يدل على أن إقرار الإنسان على نفسه مقبول وصحيح، إن كان من غير إكراه، فهنا إذا أقر وأملى فمعنى ذلك أنه يُسجل ذلك على نفسه، ويُقر بهذا الحق للطرف الآخر.
كذلك قد يصدر عن هذا الذي عليه الحق (المدين) في إملائه بعض المخالفة، فقد يبخس من حق الدائن شيئًا، فذكّره بقوله: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ففي هذا المقام يُحذره، وذكر هذين الاسمين الكريمين (الله) وهو المألوه المعبود وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فهو معبوده، وذكر (الرب) وأضافه إليه، ففي هذه معنى التخويف، باعتبار أن من معاني الرب: التدبير وإنزال العقوبة، فهذا كله راجع إلى ربوبيته -تبارك وتعالى، وكذلك الإحسان وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فجمع له بين هذا وهذا، يتقي الله ربه، فإن اتقى الله ربه فإن الله يُحسن إليه، فهذا من معاني الرب، فلو حصل بخس وتجاوز وشطط فهنا يمكن أن يُعاجله بالعقوبة، أو يؤخر ذلك إلى يوم القيامة، هذا من معاني الربوبية، فالرب هو الذي يُدبر أمر الخليقة، ويتصرف فيهم، ومنه النفع والضُر، ويُثيب أقوامًا، ويُعذب آخرين، فجمع بين هذين الاسمين لتربية المهابة، والمبالغة في التحذير والتخويف، فهذا يُربي التقوى في نفسه من جهة ذكر لفظ الجلالة (الله) فهو المألوه، وذكر الرب يخوفه من انتقامه؛ لأن مقام الربوبية قد يقتضي ذلك إذا كان العبد مسيئًا.
وأيضًا وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ هذا أمر، والأمر للوجوب، وتقوى الله واجبة، والله خاطب النبي ﷺ بذلك يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [سورة الأحزاب:1] فلا ينبغي لأحد أن يأنف حينما يوجه إليه مثل هذا، والله قد ذم من كان بهذه الصفة، وهي الأنفة، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [سورة البقرة:206] فالمؤمن الكيّس العاقل إذا قيل له: اتقِ الله، تذكر وأذعن وخاف وارعوى، وتوقف عن الإساءة والظلم والعدوان على الناس، وأخذ الأموال، ففي مثل هذه المقامات يُقال للإنسان حينما يغلب عليه الطمع، وتتحرك نفسه لأخذ أموال الناس: اتقِ الله، وقد يُخاصم ويُجادل ويكتم ويدعي أشياء ليست له، وهذه الخصومات التي تقع في المحاكم تمتلأ به أروقة هذه الجهات، فلو أن هؤلاء اتقوا الله لاستراح القضاة، وأراح هؤلاء أيضًا أنفسهم.
فهذا الخطاب وَلْيَتَّقِ اللَّهَ موجه للذي عليه الحق، لما كان هو الذي يُملي، وليس الدائن صاحب الحق، فقد يقول قائل: قد يحصل أيضًا بخس من قِبل من كان عليه الحق، فهنا خاطبه وذكره: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ سيده وخالقه، والمتصرف فيه، وهو مالكه ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فهذا فيه من الزجر والتخويف ما فيه، وكذلك أيضًا ذكْر الربوبية -كما سبق- فيه معنى الإحسان.
فالله -تبارك وتعالى- هو الذي شرع هذه الشرائع، من أجل إثبات هذه الحقوق، ومن أجل أن لا تضيع، فلا يليق بالعبد أن يقع منه ما يكون به أخذ أموال الناس بالباطل، وليتقِ الله فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو فليتركها[1]، بهذا المفهوم ينبغي أن ننظر إلى الحقوق، الذي لا يُدفع الآن سيُدفع غدًا، حيث لا دينار، ولا درهم، فخير للإنسان أن يخرج من هذه الدنيا، وهو خفيف الحِمل، لا تبعة عليه، ولا يُطالبه أحد بشيء من الحقوق، والأصل في حقوق الناس المشاحة، بخلاف حقوق الله ، فالأصل فيه المسامحة.
وأيضًا في قوله: وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا تذكير له أيضًا، ومبالغة في التذكير؛ وليتقِ الله فلا يأخذ ما ليس له، ولا يُنقص من حق أخيه الدائن، ولا يُنقص منه شيئًا، وعبّر بهذه اللفظة وَلا يَبْخَسْ التي لو قلبت المعاجم في لغة العرب لن تجد لفظة تفي بمؤداها، وأصل هذه المادة تُقال للعين العوراء، فشّبه هذا، أو عبّر عنه بمثل هذه العبارة التي تدل على عيب ونقص في الحق، وفي هذه المزاولة والتصرف يُقال: بخست عينه يعني عورت، وأصابها العور، فهذا توضيح وتصريح وبيان وافي بحقيقة هذا التصرف، حيث يُنقص هذا الحق، فهو بخس له، فهذا كالعور الذي يكون في العين، فهو نقص فيها.
وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا أي: من الحق، وهذا الحق هو لكل طرف من هؤلاء الدائن والمدين، فهنا حذره من البخس منه؛ لأن ذلك يعود ضرره على الطرفين، وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ لاحظ هنا كلمة الحق وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وأعاد الحق مرة أخرى فقال: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لاحظ فالحق أحق أن يُتبع، فهذا أُعيد مرة بعد مرة من أجل لزومه، وما بعد الحق إلا الباطل، فكيف يتبع الإنسان الباطل، ويتمسك به، ويُجادل عنه، والباطل أصله من الذهاب، فهو شيء ذاهب باطل؛ ولهذا يُقال للشجاع الذي يُقدم في المعركة: بطل، باعتبار أنه لشدة إقدامه كأنه قد أبطل دمه، فأصل هذه المادة ترجع إلى معنى الذهاب والاضمحلال والزوال، فهذا هو الباطل، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [سورة الإسراء:81] فحينما ذكر الباطل قال: وَزَهَقَ الْبَاطِلُ يعني: ذهب واضمحل وتلاشى.
وكذلك أيضًا في قوله: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ قال: عَلَيْهِ فهذه اللفظة هنا في هذا الموضع لها دلالتان:
الأول: أن ذلك يدل على اللزوم، تقول: عليك حق، بمعنى أن ذلك يلزمك، وعليك صيام ثلاثة أيام، وعليك فدية، بمعنى أن ذلك يجب عليك، فالعبارات الدالة على اللزوم والوجوب شرعًا كثيرة، منها: هذه، إذا قال: عليك كذا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [سورة البقرة:183] يعني: فُرض، فالكتْب يدل على الوجوب، وكذلك أيضًا لفظة (على) عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فهو لازم عليكم.
وأيضًا هذه اللفظة عَلَيْهِ الْحَقُّ أخذ منها بعض أهل العلم أن كلمة (على) تدل على استعلاء عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الأنعام:39] يدل على علو على هذا الصراط، فهنا عَلَيْهِ الْحَقُّ فهم منها بعض أهل العلم أن لصاحب الحق كلمة، وله مقال، مع أن هذا الاستنباط لا يخلو من إشكال؛ لأن ذلك لو وجِه إلى الدائن لكان أقرب، والله أعلم، لكنه جاء في حق المدين، فالحق متوجه إليه.
وقوله: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ فهذا من رحمه الله بالعباد، من أجل أن لا تضيع الحقوق، فهذا الإنسان الذي عليه الحق إذا كان لا يُحسن التدبير بالمال، ونحو ذلك، فمثل هذا كيف يضيع حقه بإقراره، ثم يأتي هذا الإنسان الآخر -الطرف الآخر الذي ضيع حقه وأكل ماله- ويقول: هو أقر بهذا، ما شأنكم أنتم؟ يُقال: لا، إقرار السفيه لا يعتبر، والسفه هو خلاف الرُشد، فالذي لا يُحسن التصرف بالمال، فمثل هذا السفيه إقراره لا يُعتبر، لو أن هذا السفيه قال: عليّ مائة ألف أقر بها، وجاء الطرف الآخر فرحًا مستبشرًا مسرورًا، يقول: هو قال، وهو أقر بهذا، وهو كتب هذه الورقة، وهؤلاء الشهود شهدوا على إقراره، نقول: إقراره غير مُعتبر.
فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا لا يوجد شيء اسمه "القانون لا يحمي المغفلين" القانون أول من يحمي المغفلين، والرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ أنه يُغبن ويُخدع في البيع، فقال النبي ﷺ: إذا بايعت فقل: لا خلابة[2]، انتهى، ويوجد في الشريعة ما يُعرف بالغبن، فمن الأحوال التي تُرد بها السلعة الغبن، وإن اختلف العلماء في مقدار هذا الغبن، فإذا ذهبتُ واشتريتُ هذه الساعة، وهذه الساعة قيمتها في السوق مائة وعشرين ريال، واشتريتها بثلاثمائة، وأنا لا أعرف قيمة الساعات، فما الحكم؟ من حقي شرعًا الغبن، فيُخير بين أمرين، إما أن يرد فرق السعر، تُباع بقيمة المثل مائة وعشرين، والباقي يرجع، أو أقول له: خذ السلعة، أنا لا أُريدها، ولا أتعامل مع غشاش، فيردها وجوبًا، فما يضيع الحق شرعًا، فهذا معنى الغبن.
لكن اختلف العلماء في مقدار الغبن المعتبر شرعًا، هل هو زيادة الرُبع على القيمة في السوق، أو الثلث؛ لأن النبي ﷺ قال في الوصية: الثلث، والثلث كثير[3]، فقال: كثير فمعنى ذلك أن إذا كان الثلث كثير، وأن الرُبع مُعتبر، فبعض العلماء قال: الرُبع، وبعضهم قال: الثلث، المهم أنه لا يضيع أحد في هذه الشريعة، لا تضيع حقوق الناس، فأول من تحميه هؤلاء الضعفاء، فكونه يأخذ مال الإنسان، ويقول: القانون لا يحمي المغفلين، من سيحمي إذًا؟ إذا لم يحم هؤلاء المساكين؟!
فقوله: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أي: لا يُحسن التصرف والتدبير أَوْ ضَعِيفًا لصغره مثلاً، أو مجنونًا، فهذا الطفل بيعه وشراؤه غير معتبر، فضلاً عن إقراره، لكن العلماء رخصوا في الأشياء اليسيرة، يعني لو ذهب واشترى حلوى، أو شيئًا يسيرًا، فهذه جرت العادة بالتسامح فيها، لكن الطفل إذا ذهب واشترى جهازًا كهذا مثلاً، ثم أتى به إلى أهله، فمن حق الأهل أن يُرجعوه، ويقولون: هذا ضعيف، لا يمضي بيعه وشراؤه، أو ذهب هذا الطفل وباع الجهاز الذي معه، اشتراه له أبوه، فهذا البيع لا يُمْضَى؛ لماذا؟ لأن بيعه غير معتبر، وهبته غير معتبرة، وهديته غير معتبرة، إلا في الأشياء التافهة والأشياء اليسيرة، كأن يهدي حلوى، أو يهدي شيء من هذا القبيل، أما الأشياء التي لها قيمة والأشياء المعتبرة، فالشريعة تحفظ هذه الحقوق لهؤلاء الضعفاء؛ لأنه غير راشد، ومن ثَم فإنه قد يبيع ببخس، وقد يُستغل ويُستغفل، وتؤخذ أمواله، وتُشترى منه هذه السلعة بشيء لا يُكافأ قيمتها الحقيقية.
سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ لكونه معتل اللسان، ولا يستطيع أن يُبين، أو لا يستطيع أن يتكلم، ولا يستطيع أن يُمل، فمثل هذا فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ فدل هذا على أن إقرار الطفل الصغير والسفيه غير معتبر، لكن لو أتلفوا أشياء للآخرين، فإنهم يضمنونها فإن كان لديهم مال فمن مالهم، فلو أتلفوا شيئًا للناس فإنهم يتحملون ذلك من مالهم.
وقوله: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ هذا يدل على أن الحق يتوجه إلى الصغير، عَلَيْهِ الْحَقُّ فالحق صار متوجهًا إليه، لكن من الذي ينوب عنه؟ الولي الراشد، فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ كذلك المجنون قد يتوجه إليه الحق والمطالبة، لكن الذي يقوم مقامه هو الولي فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ.
ففي قوله: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ ذكر الأصناف الثلاثة في الضعف والعجز والسفه والصِغر، ونحو ذلك، فهذه أسباب القصور التي لا يكون معها الإنسان مؤهلاً للإملال؛ وذلك لعدم حُسن التصرف بالنسبة للسفيه والصغير والمجنون، والذي لا يستطيع الإملاء ولو كان راشدًا؛ لأنه أخرس، أو به عيب في لسانه، فإن ذلك يكون لوليه أَنْ يُمِلَّ هُوَ فجاء بهذا الضمير المنفصل، المتعلق به، فهذا فيه تأكيد، وإلا الأصل أن يُمل، بالضمير المستتر، يعني هو، لكن أبرزه هنا وقال: هُوَ فهذا يدل على تأكيد؛ لأن هذا غير مستطيع بنفسه، يعني: قد يكون مستطيعًا بغيره، فقد يُلقنه وليه، لكن هنا لا حاجة لهذا التلقين، وإنما يقوم الولي مُباشرة عنه.
وأيضًا هذا الضمير هُوَ يوطأ ويُمهد لقوله: وَلْيُمْلِلِ لئلا يتوهم متوهم أن عجزه يُسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه، وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فإذا كان هذا المستدين سفيهًا، أو ضعيفًا، أو لا يستطيع أن يُمل هو، فليُملل وليه بالعدل، فهنا يبقى الكتابة، ولو كان هذا من القاصرين.
وأيضًا يدل على قبول قول الولي فيما يُقر به على من كانت له عليه ولاية، فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ فما أقر به هذا الولي فهو بمنزلة ذاك الذي ضعُف عن هذا المقام، وقوله: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ فيه ثبوت الولاية بالأموال؛ لأن الولاية أنواع: هناك ولاية نكاح، يعني: يتولى التزويج ولاية نكاح، وهناك ولاية على المال فقط، يبيع ويشتري، ونحو ذلك، وهناك ولاية على النفس، الولاية على النفس كأن يوقع عن عملية تُجرى له في المستشفى، فلا يوقع هذا طفل، توقيعه لا قيمة له، أو مجنون يُقال له: وقع! وإنما الذي يوقع هو الولي هنا، فهذه ولاية على النفس، يتولاها الولي بالنسبة لهؤلاء الضعفاء، أو كأن يكون هذا الصغير قد يُعطى له علاج له آثار عليه، فيحتاج توقيع، فمن الذي يقوم بهذا؟ الولي وليس الطفل، وهكذا، وهناك ولاية عامة تشمل جميع ما سبق.
أتوقف عند هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب إثم من خاصم في باطل، وهو يعلمه برقم: (2458) ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة برقم: (1713).
- أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع برقم: (2117) ومسلم في البيوع، باب من يخدع في البيع برقم: (1533).
- أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس برقم: (2742) ومسلم في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث برقم: (1628).