بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ما زال الحديث متصلاً بهذه الآية الكريمة (آية الدين) وقد تحدثنا عن جملة مما ذكره الله -تبارك وتعالى- فيها، وبقي الحديث عن قوله -تبارك وتعالى: وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:282].
فبعد كل هذه التوجيهات التي سمعنا في هذه الآية الكريمة، يقول -تبارك وتعالى: وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ فينهى ربنا -تبارك وتعالى- عن ترك الكتابة، سواء كان ذلك الحق صغيرًا، أو كبيرًا، وهذا كله يدل -كما أشرت في أول الكلام على هذه الآية- على العناية التامة بمصالح المسلم، فالله -تبارك وتعالى- وجه هذه التوجيهات لحفظ ماله، والاحتراز له، فيؤخذ من هذا: أن الله -تبارك وتعالى- لا يُضيع عبده المؤمن يوم القيامة عند اشتداد الهول، كما أنه لا يُضيع عبده المؤمن في هذه الحياة الدنيا، فالمؤمن أعظم حرمة عند الله -تبارك وتعالى- من ماله، كما ذكر هذا المعنى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله[1].
وقوله -تبارك وتعالى: وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ نهى عن السآمة، بأن يحصل استثقال أو ملل من كتابة شيء من ذلك، ولو كان صغيرًا، فنهى عن السآمة، والسآمة أمر يقع في نفس الإنسان من غير قصد، ولا يستطيع أن يدفع السآمة عن نفسه إذا وقعت؛ لأن مثل هذه الأمور لا يقصدها الإنسان، ولا يجلبها، وإنما تتسلل إلى نفسه بغير طلب، فكيف نهى عنها، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهذا خارج عن مقدوره، فكيف قال: لا تسأم؟
فمثل هذا يُجاب عنه بالقاعدة المعروفة عند أهل العلم، وقد ذكرتها في بعض المناسبات، وهو أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المُكلف في أمر لا يدخل تحت قدرته، فإنه ينصرف إما إلى سببه، وإما إلى أثره، فهنا وَلا تَسْأَمُوا السآمة ليست بيد الإنسان، فيتوجه إلى الأثر، أثر السآمة ما هو؟ ترك الكتابة، فيكون النهي عن أثرها، وهو ترك الكتابة، وهذا كقوله -تبارك وتعالى- في سورة النور في آية الجلد للزُناة فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النور:2] فقال: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ الرأفة أرق الرحمة، فهي رحمة رقيقة، فالرأفة ليست بيد الإنسان، والرحمة ليست بيده، فحينما يرى هذا يُجلد، وقد يكون ضعيفًا، أو امرأة، فقد يعطف عليه، ويُشفق عليه، ويلين قلبه له، لما يراه يبكي ويتألم، فهل يؤاخذ على هذه الرحمة؟
الجواب: لا؛ لأنها ليست بمقدوره، إذًا: ما محمل قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ؟ فهنا يتوجه إلى الأثر، وما أثر هذه الرأفة؟ إسقاط الحد، أو تقليل العدد، فبدلاً من مائة، يجلد عشر مثلاً، أو النصف، أو تخفيف ذلك من جهة الصفة، بأن يُضرب ضربًا خفيفًا، تحلة القسم، فهذه ثلاث صور، إسقاط، أو تقليل، أو تخفيف، ففي قوله: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ نهي عن الأثر، وأحيانًا يكون النهي عن السبب، وأحيانًا النهي عن السبب والأثر.
يعني: في قول النبي ﷺ: ولا تحاسدوا[2]، فالحسد يقع في نفس الإنسان من غير إرادة، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: "ما خلا جسد من حسد، ولكن الكريم يُخفيه -يكبته- واللئيم يُبديه"[3]، فهنا: لا تحاسدوا فالحسد ليس بيد الإنسان، فقد يرى شيئًا فيقع في قلبه، أو كالحسد بين الأقران والمتنافسين، ونحو ذلك، فهنا يمكن أن يُحمل على الجهتين السبب، وهو أن ينظر إلى موجب الحسد، فيعمل بمقتضى ذلك، وبما يدفع عنه الحسد، وهو أن يعلم أن هذا قدر الله، ورزقه وعطاؤه لحكمةٍ وعلمٍ بالغين، فيندفع عنه الحسد، والنبي ﷺ: لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه[4]، ومن جهة الأثر أن لا يصدر عنه شيء تجاه هذا الإنسان المحسود، فلا يتكلم فيه، ويُسيء إليه، ويوصل إليه الأذى بأي طريق كان.
ومن شروط التوبة المعروفة الندم، بأن يندم على الذنب، فهذا الندم قد يقول قائل: الإنسان لا يملكه، وقد يقع في قلبه الندم على خسارة، أو غير ذلك، والناس يواسونه، ولا يستطيع دفعه، وقد يريد الندم، ولا يحصل، فهذا الإنسان الذي عصى الله وواقع شهوة، تميل إليها نفسه، يريد أن يندم، فلا يتحقق له هذا الندم، فهنا يُقال: هذا يتوجه إلى السبب، فما الذي يوجب له هذا الندم؟ أن يتذكر أنه عصى الله، وعصى العظيم الأعظم، وأن الله يراه، وأن الملك قد كتب ذلك، فإذا استشعر هذا حصل له الندم، كما لو قيل له حينما عمل هذه المعصية: بأن هذا قد صّور، ووضع الكاميرا فوق، وأنت لا تشعر، أو أنه قد سُجل، فما الذي يحصل عند هذا الإنسان؟ تتحول اللذة إلى تنغيص وألم.
فلو قيل له: بأن هذا الطعام المحرم الذي أكلته قد وضع لغيرك، حيث جُعل فيه السُم الفتاك، فإنه مُباشرة سيشعر بألم في جميع جسمه، وتنتهي هذه اللذة، أو أن هذه المرأة التي واقعها بالحرام أنها مُصابة بمرض نقص المناعة، فمُباشرة الجسم من أوله إلى آخره يتألم، ويشعر بحرارة تحرقه، لماذا هذا؟ لأنه نظر إلى أمر يوجب الندم والحسرة، وهكذا.
فهنا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ فقدم الصغير قبل الكبير؛ لأن الناس لا يعتنون بالصغير، ولا يعبئون به، فقدمه هنا تأكيدًا على كتابته، فهذا حق لا يضيع، وكذلك أيضًا للتدليل على العموم، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ فيمكن أن يُقال: بأن ذكر الصغير يُغني عن ذكر الكبير؛ لأنه من باب أولى، لكن قال: أَوْ كَبِيرًا فكل واحد منهما يُطلب كتابته، فذلك لعموم الحقوق، فإن هذا الشيء الصغير، أو الذي لا قيمة له، قد يكون عند بعض الناس له قيمة.
ومعلوم أن الناس يتفاوتون في مثل هذه الأمور، لا سيما من كان قوته، أو ماله، أو ما في يده هو شيء قليل، فالغالب أن مثل هؤلاء يُحاسبون على الشعرة والشعيرة؛ ولذلك تجد التعامل مع كثير من الناس يحصل به من الإزعاج والتعب والعناء ما لا يحصل مع غيرهم، فحينما تكون مثلاً حملة حج زهيدة، قريب من سعر التكلفة، ويأتي أُناس ممن لا يستطيع إلا هذا، فهؤلاء قد يُحاسِب كثير منهم على أتفه الأشياء حسابًا عسيرًا، وقل مثل ذلك في شراء أشياء يسيرة، وأشياء حقيرة لا قيمة لها، فقد تجد المفاصلة والمخاصمة على الشعرة والشعيرة.
فعلى كل حال ما لا شأن له عند قوم قد يكون له شأن عند آخرين، فالكتابة هي الحل، فلو سألتم في المحاكم عن القضايا التي ترد، أحيانًا قضايا تافهة، يُخيل إليك أن بعض الناس إنما يريد الخصومة، فعلى كل حال هذا بالنسبة للقضايا التي فيها خصومات، بخلاف اللُقطة التي لا تُعرف، فإذا كانت همة أوساط الناس لا تتعلق بها، والمقصود الوسط من الناس، وليس الناس الذين في حال من الرخاء، أو الناس الذين في حال من الشدة والفقر، الذي يبحث عن الهللة، فلو قُدر مثلاً هذا الكأس بعشرة ريالات، وجد في الطريق أو في مكان ما، لك أن تأخذه؛ لماذا؟ لأن همة أوساط الناس لا تتبعه، خمسون ريال مُلقاة في حديقة أو في طريق فلك أن تأخذها، ولا تحتاج أن تُعرف؛ لماذا؟ لأن همة أوساط الناس لا تتبعه.
ما معنى همة أوساط الناس؟ بمعنى أنه لو ذهب إلى بيته، ثم اكتشف أنه ضاعت منه هذه الخمسون، هل يرجع يبحث عنها من هو من أوساط الناس؟ الجواب: لا، ولا المائة، وهذه قضية تختلف من مكان لآخر، ومن زمن لآخر، فالمقصود إذا كانت همة أوساط الناس لا تتبعها، فلا تحتاج أن تُعرف.
بينما هذا هو حق لمعروف ومُعين، فيمكن أن يُخاصم على أتفه الأشياء، بينما اللُقطة لو أراد أن يُعرفها ربما حصل له من التكاليف في التعريف سنة كاملة، ما لا يستحقه، فهل نقول: أعلن في الجريدة على خمسين ريال! أو مائة ريال؟! أو اذهب إلى هذه المحلات، أو المنطقة، أو الحديقة، كل يوم، أو كل أسبوع، أو نهاية أسبوع؟ فهل المائة تسوى هذا؟! فهذا الفرق، هناك لا يوجد طرف آخر في اللُقطة يُخاصم مُحدد معلوم، فهنا الحال تختلف في آية الدين.
وقوله -تبارك وتعالى: أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يدل على أن العدل يتفاوت، في عدل واجب، وفي كمال العدل، فالكمالات تتفاوت، فأقسط أفعل تفضيل، يعني: أكثر قسطًا، والقسط هو العدل، وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ يدل على أن الشهادات أيضًا تتفاوت، فهناك شهادة مجروحة، وهناك شهادة قيمة، وهناك شهادة أقوم، وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ فإذا كان ذلك مكتوبًا، سواء كان صغيرًا أم كبيرًا، فإن ذلك أدعى لضبطه، فلا يحصل شطط، ولا يحصل تعدي من أي طرف على حق الآخر، وهكذا.
وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا يعني: أقرب إلى الضبط، والبعد عن أسباب الريب والشك، سواء كان ذلك في مقدار الدين، أو كان ذلك في أجله، أو في غير ذلك، مما قد يقع فيه الاختلاف، قد يقول: أنت أعطيتني إياه هبة، أو أنت قلت لي: إنك مُحلل، أو أنت قلت لي: من عُسرك إلى يُسرك، أو أنا ذكرت لك حينما أخذته منك: أني قد لا أستطيع الوفاء به، فقلت لي: في حِل، اكتب هذا الدين، من أجل ألا يقع تجاذب وإشكالات، فيُكتب هذا، ويُضبط، ولا داعي إلى: أنا أذكر كذا، أو لا أتذكر كذا، فمجرد التذكر لا يثبُت به حق.
ويؤخذ من قوله: وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا البُعد عن كل سبب يوقع في الريب، نأخذ من الإجراءات ما يقطع أسباب الشكوك، فذكر هذه الأمور، في أمر الدين: أقسط عند الله، وأعدل عند الله، وأقوم للشهادة، وأقرب لدفع الريب، فكل واحدة تكفي للتحضيض على كتابة الدين وتوثيقه، فكيف إذا اجتمعت هذه الأمور جميعًا؟!
ثم استثنى فقال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ في هذه الحال بعد الكتابة لا يجب عليكم، ولا يلزمكم الكتابة؛ لأن ذلك مما لا يحصل به الالتباس في هذه الحال، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا فهي مُعاطاة مُباشرة، بخلاف الذي يمضي عليه زمان، ويحصل معه النسيان، ونحو ذلك.
وقوله: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ يدل على أن الأصل في التجارة الإدارة؛ ولهذا يُسميه بعض الفقهاء، كما جاء عند مالك -رحمه الله- وغيره: التاجر المُدير[5]، يعني: الذي عنده نقود يشتري بعد أسبوع هذه السلعة، ثم يبيعها، ثم يشتري هذه السلعة، ثم يبيعها، ثم يشتري هذه السلعة، ثم يبيعها، فهذا المال الذي يُدار كيف يُزكى؟ ومتى الحول؟ وكيف يُحسب؟ يُحسب منذ أن ملك الأصل (المال)، فحيث تحول: مرة في سيارة، ومرة في مواد غذائية، ومرة في أدوية، ومرة في عقار، فهذا تاجر مُدير، فبداية الحول حينما ملك المال، وهو أصل المال، فحينما تكرر هذا المال بسلع متنوعة، لا يؤثر هذا، ولا ينقطع به الحول.
تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا هنا رفع الحرج، فليس عليكم جناح، ومفهوم المخالفة: أنه إن لم تكن حاضرة، فعليكم جناح، والجناح هو الإثم، فهذا يمكن أن يستدل به من يقول بأن كتابة الدين واجبة، وكما ذكرنا أنه قول لطائفة من أهل العلم، لكن ذكرنا القرائن والأدلة التي تدل على عدم الوجوب.
وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ فعلقه بهذا الشرط، فيدل على أن الإشهاد يكون حال التبايع، فلا يكون قبله، ولا بعده، وإنما يكون عند العقد؛ لأن قبله العقد لم يتم، وإذا كان بعده قد يتغير المبيع، يشهدون على ماذا؟ على شيء قد تغير، وأيضًا قد يختلفون بعده، وهذا التغير أيضًا قد يكون في صفته، أو يكون في قيمته، يعني: اشترى هذه الأرض، ثم أراد أن يُشهد بعد شهر، وإذا هي بنصف القيمة، أو تكون الصفة تغيرت، فصارت الأرض مزرعة، أو بناها، فصارت بناية، وأراد أن يُشهد، ونحو ذلك، فيكون ذلك حال التبايع.
وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ فلفظة (يُضار) من جهة التصريف يحتمل أن يكون الضرر صادر من الكاتب، أو الشهيد، فالذي يحتاج إلى الشهادة، أو الكتابة، قد يُستغل ويُبتز بهذه الشهادة، أو الكتابة، وكذلك قد يكون الضرر واقعًا على الكاتب، أو الشهيد من قِبل هؤلاء الذين يطلبون الكتابة، أو الشهادة، فنهى عن الضرر، والقاعدة المعروفة المُقررة في الشريعة، وهي من القواعد الخمس الكبرى: أنه لا ضرر ولا ضرار، وما يتفرع عنها من قواعد، كالضرر يُزال، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج:78].
فهنا نهي عن المُضارة سواء صدرت عن الشاهد أو الشهيد، أو كانت صادرة عن من يطلب الكتابة، أو الشهادة، والقرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، كما ذكرنا، فتدل هذه اللفظة على المعنيين معًا، كما ذكرنا في قوله تعالى: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [سورة البقرة:233] لا يقع الضرر على هذا ولا هذا.
وفي قوله: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ هذا نهي، والأصل أن النهي للتحريم، فيحرُم إلحاق الضرر بالشاهد، أو الكاتب، أو أن يُلحقوا هم الضرر بغيرهم، بسبب هذه الكتابة والشهادة.
وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ فهذا يدل على أنه مُحرم أيضًا، يعني: النهي للتحريم، ووصف ذلك بأنه فسق، والفسق هو الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى، والفسق حرام، والفسق هو المعصية، سواء كانت كبيرة، أم صغيرة، وله آثار تترتب عليه، وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي: واقع بكم.
أتوقف عند هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 489).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر برقم: (6065) ومسلم في البر والصلة والآداب، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر برقم: (2559).
- أمراض القلوب وشفاؤها (ص:21).
- أخرجه البخاري كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه برقم: (13) ومسلم في الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه... برقم: (45).
- الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 293) والمقدمات الممهدات (1/ 294).