بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلما وجه الله -تبارك وتعالى- عباده إلى ما به حفظ الأموال والحقوق والديون في هذه الآية الطويلة في كتاب الله -تبارك وتعالى- في أواخر هذه السورة الكريمة سورة البقرة بيّن بعد ذلك الحكم، وما يحصل به الاستيثاق حال عدم الكاتب؛ فقال الله -تبارك وتعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة البقرة:283].
إن كنتم في حال سفر -والسفر له ظروفه وله أعذاره- ففي هذه الحال إن لم يوجد الكاتب فعند ذلك يمكن الاستيثاق بأخذ الرهن لضمان الحق، أن يأخذ الدائن من المدين ما يستوثق به في استيفاء حقه من مال أو عين من الأعيان سواء كانت مساوية لهذا الدين أو تزيد عليه، وقد تنقص عنه، من أجل أنه لو لم يحصل الوفاء فإنه يمكن أن يبيع هذه العين ويستوفي ويُعيد ما زاد إلى المدين، فهنا يقول: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، ثم قال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ، إذا وجدت الثقة والأمانة والاطمئنان بين الطرفين -اطمأن الدائن إلى المدين- فلا حرج في ترك الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن.
وهذا الموضع كما أشرت سابقًا يستدل به من يقول بأن الإشهاد والكتابة غير واجبين، وأن ذلك مما أرشد الله إليه عباده لحفظ حقوقهم، لكنه لا يجب فيكون ذلك صارفًا الأمر فَاكْتُبُوهُ [سورة البقرة:282]، وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [سورة البقرة:282]، فالأمر للوجوب فيكون ذلك صارفًا له من الوجوب إلى الاستحباب، فهنا جاء بها بعبارة فيها تذكير فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ فجعله مؤتمنًا بهذا الاعتبار، فالدين أمانة في ذمته عليه أن يؤديه.
وذكره بمراقبة الله -تبارك وتعالى- وتقواه: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فلا يخون ولا يجحد ولا يبخس ولا يُماطل فإذا أنكر الدين ووجد من تحمل الشهادة حينها فيجب أن يؤديها؛ لئلا يضيع الحق: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، كتم الشهادة وقد تعينت عليه وتسبب ذلك عن ضياع الحق فإنه آثام، وسيأتي الإشارة إلى تعليل إضافة الإثم إلى القلب.
ثم ختم الآية أيضًا بما فيه التذكير وما يحمل على المراقبة: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يعلم ما كان من مداينات وحقوق، وما يحصل من جحد ووفاء إلى غير ذلك، لا يخفى عليه من ذلك خافية.
وهذه الآية كما في آية الدين تدل على شدة عناية الشارع بحقوق الخلق وحفظ أموالهم، وعلى حُسن رعاية هذه الشريعة للمكلفين، وأنها رحمة، وأنها جاءت لترفعهم، وتنفعهم، وتُكملهم وتدفع عنهم أسباب الشقاق والنزاع، ولم تأتي هذه الشريعة لتُضيق عليهم، لم تأت هذه الشريعة من أجل أن تُحرم عليهم الطيبات، وإنما جاءت موسعة لهم، تُبيح لهم كل طيب، وتُحرم عليهم كل خبيث، وتحجزهم عن أسباب الشر في الدنيا والآخرة، هذه حقيقة هذه الشريعة فمن التزم بأحكامها فإنه يسعد في الدنيا وفي الآخرة، يستريح ويستريح الناس من شره وأذاه وظلمه، لا يصدر منه ظلم للآخرين لا بقلبه كسوء الظن، ولا بلسانه كالشتم والغيبة والنميمة وما إلى ذلك، ولا بجوارحه بأخذ أموالهم، أو بأذيتهم والإساءة إليهم بأي لون من ألوان الإساءة، فكل تلك الاحتياطات في آية الدين ثم في هذه الآية يُشير إلى البديل عن الكتابة وهو الرهن، ويؤكد على من عنده شهادة أن يؤديها كل ذلك احتياطًا للحقوق، فهل يوجد هذا في قانون أو نظام على وجه الأرض؟
أبدًا، هذا تشريع رب الأرض والسماء أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك:14]، اللطيف تحمل معنيين كبيرين:
الأول: يعلم دقائق الأشياء، تقول هذه مادة لطيفة.
والثاني: اللطيف من اللُطف وهو قريب من الرفق، رفق وزيادة.
الخبير الذي يعلم الخفايا، فالذي شرع هذا التشريع يعلم الظواهر والبواطن، وهو لطيف بعباده ويعلم الدقائق، فإذا كان الأمر كذلك فلا يسع الإنسان إلا الإذعان الكامل والاستسلام لله رب العالمين، وهذه حقيقة الإسلام يستسلم الإنسان ظاهرًا وباطنًا بقلبه ولسانه وجوارحه.
ثم أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ أن الرهن إنما يتحقق الغرض منه من جهة الاستيثاق بالقبض، وهذا ليس محل اتفاق بين أهل العلم وقد تكلمت على هذه المسألة بشيء من التفصيل في التعليق على التسهيل لابن جُزي -رحمه الله، مع أن بعض أهل العلم يقول بأن ذلك لا يلزم يكفي أن يقول: سيارتي رهن، أو داري رهن، أو مزرعتي رهن، دون أن يُمكنه منها، دون أن يُسلم ذلك إليه، دون أن يُخلي بينه وبينها، يقولون: يكفي أن يقول هذا.
لكن هذا فيه نظر؛ لأنه قد يقول هذا ثم بعد ذلك لا يُمكنه من شيء، وقد يُنكر: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، لكن لما قال: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ هذا دل على القبض، لكن لم يقل ذلك بتخصيص بالدائن ما قال: فرهان يقبضها صاحب الحق، وإنما قال: مَقْبُوضَةٌ فدل على ما ذهب إليه طائفة من أهل العلم من أنه يصح أن يكون الرهن مقبوضًا عند طرف ثالث يرتضيانه، يعني طرف مُحايد، يقول: الرهن تعطيه لفلان أنا قابل، فإذا ما وفيت استوفي من هذا الرهن كالقاضي مثلاً يمكن أن يكون الرهن عند القاضي، ويمكن أن يكون عند طرف آخر يرتضيانه مَقْبُوضَةٌ.
ثم أيضًا قال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، هذا أخذ منه بعض أهل العلم بأن ما يحصل من التلف بيد الأمين أنه لا ضمان عليه، حصل من التلف بيد الأمين، لو أن أحدًا مثلاً أعطى آخر وديعة وقال: احفظها عندك حتى أطلبها، فوضعها في مكان يليق بمثلها لم يُفرط فسُرقت الدار، وسُرقت هذه الوديعة من جُملة ما سُرق، أو احترقت الدار فاحترقت هذه الوديعة من غير تفريط منه، التفريط مثل ماذا؟
مثل لو أنه أعطاه مثلاً مائة ألف وقال: هذه وديعة فتركها في البيت أو تركها في درج السيارة فسُرقت السيارة، المائة ألف لا توضع في السيارة، فهذا تفريط، لكن لو أنه أعطاه السيارة وقال: هذه وديعة فوضعها بجوار بيته مثلاً في مكان لا تضيق الطريق مثلاً، ولا تكون عُرضة، ولم يترك المفتاح عليها، ولم يتركها مفتوحة كما يفعل مع سيارته وجاء إنسان وسرقها، فهذا لا يُطالب بأن يعوض صاحب هذه السيارة، أو صاحب المال، أو صاحب الحُلي، أو نحو ذلك؛ لأنه لم يُفرط وهو أمين فلا ضمان عليه إن لم يحصل منه تعدي أو تفريط، لكن لو أنه أعطاه مثلاً إبلاً أو غنمًا أو طيرًا أو نحو ذلك فتركه لم يُطعمه، ولم يسقه فمات فإنه يضمن؛ لأنه فرط بل هو مُتسبب بهذا؛ لأن الترك من جملة الأفعال، يعني: لو قال: أنا ما فعلت له شيئًا لم أقربه ولم أمس هذا.
نقول: نعم، تركته ما أطعمته ولا سقيته فمات، ماتت هذه الدواب، ماتت هذه الغنم الوديعة، أو كانت رهنًا حصل لها التلف بتفريطه لم يُطعمها ولم يسقها ففي هذه الحال يجب عليه الضمان.
فهذه من الحالات التي يُعتبر فيها الترك فعل، وقد عد له بعض أهل العلم صورًا وأنواعًا منها: الرهن، لو أنه ضيعه بهذه الطريقة لم يُطعمه ولم يسقه، وذكروا أشياء أخرى لو وجد جريحًا وعنده خيط وهو طبيب يستطيع أن يخيط فتركه قال: أنا ما لي فمات فإنه يضمن، لكن إن لم يكن منه تفريط فليس عليه شيء، بخلاف غير الأمين ففيه فرق، يعني: الآن لو أن أحدًا غصب أو سرق من أحد شيئًا فحصل له التلف بغير تفريط فإنه يضمن؛ لأن هذه اليد ليست يد أمين فيُعيده، طيب لو اقترض منه قرضًا فعدى عليه اللصوص وأخذوا هذا المال فإنه يُعيده؛ لأن هذا من قبيل القرض.
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، فهنا هذا أمر بالتقوى، بهذه الصيغة الثانية من صيغ الأمر الصريح، الأمر الصريح له صيغتان: افعل، اتقِ الله، والصيغة الثاني: لتفعل، لتتقِ الله، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، له صيغتان صريحتان.
أما الصيغة غير الصريحة فهو كما يقال في الخبر المُضمن معنى الأمر مثل: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة:233]، فهذا خبر لكنه مُضمن معنى الأمر، وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ، يعني: عليهن الإرضاع، يلزمهن الإرضاع.
فهنا: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فجمع بين هذين الاسمين الكريمين "الله" المألوه المعبود المُتضمن لصفة الإلهية، وكثير من أهل العلم يقولون: بأنه الاسم الأعظم، والأدلة على أنه الاسم الأعظم أظهر، وقد تحدثت عن هذا في الكلام على الأسماء الحسنى، وذهب جمع من المحققين إلى أن الاسم الأعظم الذي إذا دُعي الله به أجاب، وإذا سُأل به أعطى أنه هو لفظ الجلالة "يا الله"، ويليه بالقوة الحي القيوم "يا حي يا قيوم"، ويلي ذلك "الواحد والأحد"، ويلي ذلك "الحنان والمنان"، لو جمعها الإنسان في مثل هذه الأيام وهو يدعو يقول: "يا الله يا واحد ويا أحد ويا حنان ويا منان ويا حي ويا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اغفر لي".
فهنا جمع بين هذين الاسمين الكريمين "الله" فهو أعظم الأسماء كما قلنا في الكلام أيضًا على الهدايات في آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255]، فهذا الاسم من جهة النظر في جملة دلائل من يقول: بأنه الاسم الأعظم من جهة النظر، يعني غير الأدلة النقلية، الأدلة النقلية ذكرناها هنا لكن يقولون: بأن جميع الأسماء الحسنى تعود إليه لفظًا ومعنى، معنى تعود إليه لفظًا أنها تأتي معطوفة عليه ولا يُعطف على شيء منها، هو الله الخالق البارئ المصور، لا يُقال: الخالق البارئ المصور الله، فتعود إليه لفظًا تُعطف دائمًا عليه، ومعنى أن جميع معاني الأسماء الحسنى ترجع إلى صفة الألوهية؛ لأن الإله يجب أن يكون هو الرب الخالق الرازق المحيي المميت النافع الضار الغني القوي العزيز، إلى آخر.
الإله لابد أن يكون مستجمعًا لجميع صفات الكمال، ولذلك كانت صفة الإلهية أوسع الصفات، هذا معنى كون الصفات ترجع إليها من جهة المعنى، والرب والإله "الله" هذا يختص بالإله لفظًا ومعنى: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، يختص بالله -تبارك وتعالى- هذا الاسم لفظًا بمعنى أنه لا يمكن أن يُسمى مخلوق الله، لا أحد يُسمى بهذا الاسم، ولا يُعرف أن أحدًا تسمى به لا في جاهلية ولا في إسلام، ومن يجرُأ على هذا، الله.
ومن جهة المعنى فإنه يتضمن معنى الإلهية صفة الإلهية فصفة الإلهية لا تصلح للمخلوق، ولا يصلح شيء منها للمخلوق إطلاقًا، فهذا مُختص من جهة اللفظ والمعنى، والرب رب العالمين، بعض العلماء يقول: هذا اسم "رب العالمين" هكذا ويعدونه في جملة الأسماء الحسنى "رب العالمين" بهذا التركيب والإضافة، فلو كان كذلك فهو مُختص لفظًا، لا أحد يُسمى رب العالمين غير الله، ومن جهة المعنى "رب العالمين" أيضًا كذلك، لكن أكثر أهل العلم يقولون: بأن الاسم هو الرب.
وبعضهم يقول: هو بالتعريف بأل الرب لا يُسمى به غير الله يعني مُختص من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى هل هو مختص أو لا من جهة المعنى الربوبية من معانيها السيد، المُربي، المالك، إلى آخره بهو بهذا الاعتبار غير مختص من جهة المعنى، فلفظ الجلالة الله مختص لفظًا ومعنى، الرب مختص لفظًا لا معنى، لكن لو أنه قيل بقيد، قيل: رب الدار ورب الإبل ورب المال فهذا يصح أن يُقال كما قال يوسف على أحد المعنيين في التفسير: فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [سورة يوسف:42]، على أن ذلك يرجع إلى من؟ كما قال الله في قصة يوسف مع السجين: فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [سورة يوسف:42]، أن هذ الرجل الذي أوصاه يوسف وأخبره بناء على الرؤيا أنه سيخرج: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [سورة يوسف:42]، فهذه صريحة: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، عند الملك، عند سيدك، هذا معناها اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، هذا بالإضافة لما أضافه "ربك" صح أن يُطلق على المخلوق، فهنا ذكر هذين الاسمين: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، فجمع بين الألوهية والربوبية فهذا كله للتوكيد وتربية المهابة ولزوم الانقياد، ما بعد هذا شيء، ويُحذره من المخالفة.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، التذكير هنا بالتقوى؛ لأنها هي الطريق للامتثال وأداء الحقوق فإذا انعدمت التقوى ففي هذه الحال صار الناس لا يُبالون؛ فالحلال ما حل باليد -والله المستعان.
قال: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، فهذا من جملة التوكيد على أداء الشهادات، والنهي عن الامتناع من الإدلاء بها، فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أضاف الإثم إلى القلب باعتبار أن الكتمان من أعمال القلوب فأضافه إلى القلب فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فهذا يدل على المؤاخذة على أعمال القلوب، وذلك بأن اعتقاد إلهًا مع الله -تبارك وتعالى- من عمل القلب وهو من أسوء جنياته الشرك، والنفاق الاعتقادي أعمال القلوب، والحسد من أعمال القلوب السيئة، والبغضاء، وسوء الظن، كل هذه من أعمال القلب السيئة، القلوب بها أعمال وجنس أعمال القلوب أعظم من جنس أعمال الجوارح.
وقد تكلمت على هذا تفصيلاً في الكلام على الأعمال القلبية، وهذا بيّن لا يخفى، كذلك أيضًا هذا القلب هو الملك للجوارح، فإذا حصل الصلاح له فإن الجوارح تكون صالحة.
فقوله: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة البقرة:283]، مثل ما قال هناك: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:282]، فهذه مواضع يصح فيها الإضمار، يعني: لو قال هناك في آخر آية الدين: "واتقوا الله ويعلمكم وهو بكل شيء عليم" لأن الضمائر للاختصار، فلماذا جاء بالاسم ظاهر في كل موضع؟
العلماء يقولون: بأن ذلك وقع -يعني لفظ الجلالة- مُظهرًا في جُملٍ مستقلة ثلاث، يعني لم يكن في جملة واحدة، فإذا كان المقام يقتضيه كتربية المهابة مثلاً: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:282]، فهذا أفخم فيكون الإظهار أبلغ من الإضمار، وهنا: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، ثم قال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فهذا أيضًا بذكر هذا الاسم الكريم المُتضمن لصفة الإلهية كل هذا للتحذير مع ذكر العلم وَاللَّهُ بِمَا وما تفيد العموم، بِمَا تَعْمَلُونَ، كل المزاولات، وكل ما يصدر عنكم، وكل ما يقع في قلوبكم والكتمان والجحود والبخس والنقص والمماطلة كل هذا يعلمه الله -تبارك وتعالى.
وَاللَّهُ بِمَا، فإذا علم الإنسان أن كل ما يعمله يعلمه الله لا يحتاج أنه يزيد هذه، وهنا خمسة وثلاثين ريالاً، وهنا زيادة كذا، ومن هنا زيادة كذا، فإذا كان الحق عليه جعل يُنقصه، لا لا، الله يعلم كل شيء، فالعبد مأمور بالتقوى وأداء ما عليه؛ لأن الله لا يخفى عليه من ذلك شيء، قد يستطيع إقناع الآخرين وقد يستطيع الجدل ويُكابر؛ ولكنه لا يخفى على الله، قد يأتي بوثائق مزورة، قد يأتي بفواتير مزورة، ولكن ذلك لا يخفى على الله -تبارك وتعالى.
وكذلك أيضًا فيه رد على الغُلاة من القدرية الذين يقولون: بأن الله -تبارك وتعالى- لا يعلم بأفعال العباد قبل وقوعها ولم يُقدرها أصلاً يُنكرون العلم والتقدير.
وكذلك أيضًا: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ سواء كان ذلك في ما عملناه أو ما نستقبل مما سنعمل، كذلك أيضًا موضوع الحيل في المعاملات وما إلى ذلك مما يُغلف على أنها معاملة شرعية وهي غير شرعية مما يتوصلون به إلى أخذ الزيادة على القروض أو الديون أو نحو ذلك هذا كله لا يخفى على الله ، تحتال على من؟!
هذا الذي يحتال في الواقع أنه يحتال على نفسه، ولهذا قال الله عن المنافقين: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [سورة البقرة:9]، الذي يُخادع ربه -تبارك وتعالى- الواقع أنه يخدع نفسه، الذي يحتال على الأحكام الشرعية الواقع أنه يحتال على نفسه -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وأسأل الله لي ولكم القبول، وأن ينفعنا وإياكم بما نسمع.