الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
[1] تأملات عامة في سورة الفاتحة
تاريخ النشر: ٢٠ / جمادى الآخرة / ١٤٣٦
التحميل: 7657
مرات الإستماع: 6125

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

نبدأ في هذه الليلة -أيها الأحبة- في الكلام على المعاني والهدايات التي تُؤخذ من هذه السورة الكريمة (سورة الفاتحة) وسيكون الكلام في هذه الليلة -إن شاء الله- مُختصًا بالفوائد العامة، التي تتصل بهذه السورة، ثم نشرع بعد ذلك في استخراج الفوائد والهدايات من كل آية منها.

ولا بأس -إن شئتم- أن نجعل بعد كل مجلس دقائق للاستماع إلى إضافاتكم، وتقويمها، فيكون ذلك من باب إثراء الموضوع، وتقويمًا وتدريبًا عمليًا على التدبر.

أيها الأحبة:

كثيرًا ما نسمع سورة الفاتحة في كل ركعة نقرأها في الفريضة وفي النافلة، وفي كثير من الأحيان نجد أن السامع أو القارئ ربما تطلع إلى السورة التي بعدها، وربما تطلع إلى الدعاء (دعاء القنوت) إذا كان ذلك في الوتر، أما هذه السورة فقلَّ من يتطلع إلى الهدايات والمعاني التي احتوتها عند سماعه لها، مع أنها أم القرآن، وهي السبع المثاني، والقرآن الذي أوتيه النبي ﷺ كما سيأتي، فيذهب الوهم إلى تطلب التدبر لما بعدها، وكأنها بمعزل عن ذلك كله، مع أن هذه السورة أولى سور القرآن بالتدبر، وقد حوت جميع موضوعات القرآن لمن تدبرها، فكيف يكون هذا الإعراض؟! بل لربما نجد -للأسف - بعضنا يستغرب لو أن أحدًا من الأئمة خشع في الفاتحة، فيقول: ما وجه هذا الخشوع؟! خشوع في الفاتحة؟! فإن لم يكن الخشوع في الفاتحة فأين يكون؟! كيف لو كان هذا الخشوع في الصلاة السرية؟ أليست القراءة في الصلاة السرية تُدبر أيضًا؟! ويُطلب فيها ذلك؟! فلماذا هذا التعجب؟!

ولا زلت أذكر قبل سنوات أنني صليتُ بجوار رجل معروف، فبمجرد ما رفع يديه بتكبيرة الإحرام بدأ يرتجف من أعلاه إلى أسفله، إلى آخر الصلاة وهو يرتجف، بصورة لا يمكن أن تكون مُتصنعة، فتعجبتُ، وقبل أيام صلى بجواري رجل كبير في السن في المسجد النبوي، وإذا بالرجل بمجرد ما كبر أشغلني في صلاتي لكثرة اضطرابه واضطراب أعضائه فيها من الخشوع والبكاء، وهذا مع الزحام، فلم يشغله ذلك عن الخشوع؛ لأنه كما يبدو أن نفسه قد ارتاضت على هذه الحال.

فهذه السورة حَرية بالتدبر، وأن نقف مع الهدايات التي في مضامينها.

فتأملوا حُسن الافتتاح، وبراعة المطلع والاستهلال لكتاب الله حيث رُتب هذا الترتيب، فافُتتح بهذه السورة الكريمة.

وأهل العلم يتكلمون في ترتيب السور في القرآن: هل هو توقيف من النبي ﷺ أو أنه اجتهاد من الصحابة؟ حيث راعوا فيه ما عرفوا من غالب حال النبي ﷺ وقراءته، فهذه المصاحف التي أجمع عليها المسلمون أولها سورة الفاتحة، هذه السورة التي لا تتجاوز سبع آيات، وهي آيات ليست بالطويلة، ومع هذا فقد اشتملت على جميع مقاصد القرآن، وافُتتحت بجوامع الحمد والثناء والتمجيد لله رب العالمين.

أول هذه السورة على القول بأن البسملة آية منها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:1] فيكون افتتاح هذه السورة باسمه -تبارك وتعالى- المقرون بالرحمن والرحيم، أو أن ابتداء هذه السورة كان مُفتتحًا بالحمد على القول بأن البسملة ليست بآية منها، فهذا حمده، والثناء عليه بما هو أهله، ووصفه بما له من الأوصاف الكاملة، هو أحسن ما يُفتتح به الكلام.

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] افُتتح بها هذا الكتاب المُضمن بين دُفتي المصحف، ثم أيضًا هذه السورة تضمنت في أولها الحمد لله -تبارك وتعالى- المُطلق في الدنيا والآخرة، وذِكْر أوصاف الكمال، وفيها أيضًا للعبد السؤال اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] وفيها أيضًا العبادة لله وحده، وللعبد الاستعانة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فهو يتوجه بعبادته إلى ربه وخالقه ويستعين به على أمور الدنيا والآخرة، فحق الرب كما يقول شيخ الإسلام: الحمد، والعبادة له وحده، لا شريك له، وحمده وتوحيده يدور عليهما جميع الدين[1].

الْحَمْدُ لِلَّهِ إضافة أوصاف الكمال له رَبِّ الْعَالَمِينَ هذا ثناء بإعادة الحمد ثانيًا الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:3، 4] هذه إعادة ثالثة، فذلك التمجيد، وإِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] هذا التوحيد، والاستعانة وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فانظروا في شقها هذا الذي يتعلق بالرب -تبارك وتعالى- كيف انتظم جميع أمور الدين، بالحمد، والتوحيد، هذا الشق الأول، كما سيأتي في الحديث القدسي: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين[2] يعني: الفاتحة، فهذا شقها المتعلق بالرب -تبارك وتعالى- قد انتظم الدين كله.

ثم أيضًا تأمل كيف أن الله -تبارك وتعالى- قابلها بجميع القرآن وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [سورة الحجر:87] باعتبار أن السبع المثاني هي الفاتحة، والقرآن العظيم باقي القرآن، فيكون ذلك من عطف العام على الخاص، وقد قال النبي ﷺ عنها: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته[3] فإذا كانت هذه السورة بهذه المثابة فهذا أبلغ، سواء قيل: إنها تُقابل القرآن سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [سورة الحجر: 87] أو قيل: بأنها هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيه النبي ﷺ ؛ لأنها مُتضمنة للحقائق الكُبرى، التي هي مقاصد القرآن، فهي مُضمنة فيها، ومن أراد شرح هذه الجملة، فليقرأ تفصيلاً طويلاً للحافظ ابن القيم -رحمه الله- في (مدارج السالكين) وذكر هذا في كتب أخرى[4] بل كتاب (مدارج السالكين) من أوله إلى آخره في ثلاثة مُجلدات، وفي بعض طبعاته يصل إلى خمسة مجلدات، هو في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، فهو كتاب حافل، فأدخل فيه قضايا التوحيد بأنواعه، وأعمال القلوب من أولها إلى آخرها، كل هذا داخل في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فهذا كله حينما نتأمل وننظر فيه يُبين لنا عن عظمة هذه السورة، ومكانتها، ومنزلتها.

وتأمل كيف تكون هذه السورة تخليصًا من الشوائب والأرجاس والأدناس بأنواعها، التشبه ومُحاكاة الكفار مثلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۝ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۝ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:2 - 7] فالمسلم يسأل ربه دائمًا أن يهديه الصراط المستقيم، وأن يُجنبه صراط أهل الغضب، الذين عرفوا الحق، ولم يتبعوه، ويدخل في ذلك دخولاً أوليًا اليهود، وكل من عرف الحق فأعرض عنه، فله نصيب من هذا الغضب، فهؤلاء أهل الغضب، ويقابلهم أهل الضلال، فهؤلاء ضلوا من غير علم، فكل من ضل عن الحق بغير علم لجهله فله نصيب من ذلك الجهل الذي يكون بسبب تفريطه بمعرفة الحق الذي جاء به الرسول ﷺ.

فإذا كان العبد يقول هذا في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:6، 7] فكيف يتشبه بالكفار في هيئته وصورته، وفي كلامه وأفعاله ومزاولاته، وفي أكله وشربه ونومه ويقظته، وفي عاداته؟! ويشتبه بالكفار بمُشاركتهم بأعيادهم البدعية، وفي مواسمهم التي مبناها على الخُرافة والضلال، ويتشبه بهم في وثنياتهم، ويُحاكيهم في ذلك، تحت أسماء مُختلفة من معالجات روحية، أو غير ذلك مما يتوهمه المتوهمون، فالمؤمن لا يُحاكي أعداء الله : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:6، 7].

واليوم كما نُشاهد واقع الأمة، النساء والرجال والشباب في محاكاة الكفار، ماذا يلبس نساؤنا؟ وما هي الأشياء التي نؤثرها، أو يؤثرها شبابنا وفتياتنا؟ وما هي التقليعات التي يصيح بها شيطان في أقصى الغرب أو الشرق، ويرفع عقيرته، ويجد الأتباع الكُثر من أبناء المسلمين يتبعونه، فيظهرون في أفعال مشينة، وهيئات قبيحة، لا يمكن أن يقبل بها ذو ذوق سليم، أو فطرة صحيحة، فضلاً عن أهل الإيمان والدين والتوحيد والعقيدة الصحيحة.

حتى الكوريين أصبحنا نتشبه بهم، في الهيئات والصور والأشكال، حتى الخِلقة، وعمليات تقبيحية لتتحول هيئة الرجل، أو الفتاة إلى صورة تُحاكي أولئك، فيكون ذلك تغييرًا لخلق الله -تبارك وتعالى.

وهكذا أيضًا -أيها الأحبة- يُؤخذ من هذه السورة التي هي فاتحة القرآن: الإيجاز في الفواتح والمُقدمات، فهي فاتحة مُختصرة، ومُشتملة على حقائق ومقاصد القرآن الكبرى، في سبع آيات، فمقدمات الكتب ومقدمات الخُطب لا يصح أن تكون طويلة تستهلك نشاط السامع، أو القارئ، ثم بعد ذلك يفتر حينما يصل الخطيب أو الكاتب إلى موضوعه الأساس، لا يصح مثل هذا التطويل، وليس من البلاغة والفصاحة في شيء؛ لأنه يورث السآمة والملل لدى السامعين، وتطويل المقدمات من العي الذي يقع فيه المُتكلم أو الخطيب، فبمقدار ما تُطال المقدمة يقصُر الغرض، ويحصل الانقباض لدى السامع أو القارئ، كما يقول الطاهر بن عاشور[5] فهي مقدمة قصيرة، وفاتحة قصيرة للمصحف، ولكنها في غاية البلاغة، وهي حاوية لمقاصده.

كذلك -أيها الأحبة- انظروا في مضامين هذه السورة الكريمة حيث حمد نفسه -تبارك وتعالى- وعلّل ذلك بأنه رب العالمين، فهو مُستحق للحمد، لا يخرج أحد عن ربوبيته في العالم العلوي والعالم السُفلي، ونحن من جملة هؤلاء، ثم بعث الطُمأنينة في نفوس عباده بأنه الرحمن الرحيم، فربوبيته -كما سيأتي- مبنية على الرحمة، وليست على مجرد العسف والقهر والتسلط بعيدًا عن الرحمة.

ثم أخبر أنه مالك يوم الدين، إذًا هو رب العالمين، ووسّط الرحمن الرحيم بين الربوبية العامة لجميع الخلق، وملك يوم الدين، وهو يوم القيامة، فمن كان يملك ذلك اليوم الذي لا يدعي فيه أحد الملك لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [سورة غافر:16] فهو لما دونه أملك، فإذا كان هو الرب للعالمين، وهو مالك يوم الدين، فأين المفر؟ لكن هذا الرب والمالك رحمن وهو أيضًا رحيم، فجاء بهذين الاسمين الكريمين الدالين على صفة الرحمة أبلغ الدلالة، وعرفنا ما في الرحمن من أوجه الدلالة البليغة على معنى الرحمة؛ لأنه عُدل به عن نظائره في بنائه، وكذلك أيضًا الرحيم على وزن (فعيل) فهي صيغة مُبالغة.

فإذا عرف العبد هذا عن ربه -تبارك وتعالى- اطمئن قلبه إلى هذا الرب المعبود، وسكنت نفسه إليه، وانقاد إليه بكليته، فربه الذي يعبده هو رب العالمين، فمن يخرج من ربوبيته وقهره وتسلطه؟ وهو أيضًا مالك ليوم الدين يملك ذلك اليوم الذي فيه الكل خاضع، فهو يملك الدنيا والآخرة، وهو رحمن رحيم، إذًا: نتقلب في ألطافه، ونُقبل عليه، ونسأله رحمته، ونتوجه إليه بكُليتنا، وتتعلق قلوبنا به دون ما سواه، فهو رحيم بنا، وهو ربنا، وهو مالكنا، إلى من نتوجه؟ إن لم نتوجه إليه -تبارك وتعالى- فهو الذي خلقنا وأوجدنا، وهو الذي هدانا، وهو الذي أخبرنا أنه رحمن رحيم.

فهذه السورة تأسر القلوب، وتشدها وتجذبها إلى ربها وخالقها  فإذا قرأ الإنسان مثل هذا وخشع وتأثر هل هذا يُستكثر؟! وهل يُستغرب مثل هذا؟! أبدًا والله، فيكون العبد مُنقادًا لأوامر الله مستجيبًا؛ لأنه يتعامل مع سيده ومالكه الرب والمُربي بالنِعم الظاهرة والباطنة، والمُدبر له والمُربي، المتصرف في جميع شؤونه، وهو الذي يملكه ويملك غيره، ويملك كل الحاجات والأملاك التي يتطلع إليها هذا الإنسان، يملك الهداية والعلم، ويملك الدنيا والآخرة، كل ما تُريد فهو مُلكه، تريد علمًا، تريد رزقًا ومالاً ماذا تريد؟

وهكذا أيضًا تأملوا في هذا الحديث الذي أشرت إليه آنفًا: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله: حمدني عبدي، قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مجدني عبدي[6] وعرفنا أن الحمد إضافة أوصاف الكمال لله، وأن الثناء بإعادته ثانيًا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، وليس الحمد بمعنى الثناء.

وأن التمجيد يدل على كثرة، فجاء في الثالث: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل[7] فهذا وعد من الله -تبارك وتعالى- فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] إلى قوله: وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل[8] فهل نستشعر ونحن نقرأ هذا؟! أن الله يقول: لك ما سألت، فكيف يتطلع بعد هذا العبد، أو وهو يقرأها وهو مُتشبه بأعداء الله، يُحاكيهم، ويُعجب بهم، ويُثني على كمالاتهم وأخلاقهم في زعمه ونظره، ويرى أنهم القدوة والأسوة الكاملة في كل شيء، ويؤثر الإقامة بين أظهرهم، ويُقدمهم ويُفضلهم على المسلمين، هذا لا يكون لمن عرف هذه الحقائق في سورة الفاتحة، فحينما يستشعر العبد أنها بهذه المثابة على نصفين، نصف لله، ونصف للعبد، ويتأمل ويتذكر أن الذي علمه ذلك هو ربه -تبارك وتعالى- وأمره أن يدعو به، وأن يُكرره في كل ركعة، وأنه قد ضمن الإجابة لمن يكون داعيًا بهذا إذا أحضر قلبه، فكيف مثل هذا يزيغ وينحرف؟ والأساس الذي عليه الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة هو الهداية إلى الصراط المستقيم فنُكرر هذا في كل ركعة فرضًا ونفلاً؛ لأن هذا أعظم الحاجات، وهو أن يُهدى العبد إلى الصراط المستقيم.

فإذا أردنا أن نعرف الأولويات في حياتنا لا بد أن نضع الأمور والأهداف الاستراتيجية كما يُقال، ما هي أهدافك الاستراتيجية؟ وظيفة؟ زوجة؟ سيارة؟ الأهداف الاستراتيجية: الهداية إلى الصراط المستقيم ظاهرًا وباطنًا، هذا رقم واحد، وهذا الذي يُكرر في كل ركعة، فلا يوجد شيء يُكرر في كل ركعة سوى هذا، وهو تحقيق العبودية لله وهذا لا يكون إلا بالاستعانة به، فهذا كله يُحتاج إلى أن يقف الإنسان معه، وأن يتبصر به، وأن يتأمله.

كذلك أيضًا نحن نمُد الأيدي نُعاهد الرب -تبارك وتعالى- في كل ركعة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فينبغي أن تكون الحياة من أولها إلى آخرها ما بين الحمد، فتلهج الألسُن بحمده وذكره وشُكره والثناء عليه، بدلاً من أن تشتغل بالمخلوقين... إلى آخر ما ذكر الله في هذه السورة غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] ثم نُؤمن بعد ذلك، وليس هذا منها، فنقول: آمين، أي: استجب يا رب، فهذا العهد الذي يُطلقه العبد، ويتفوه به ينبغي أن يقف عنده، وأن يلتزمه، وتكون حياته من أولها إلى آخرها ما بين الحمد وسؤال الهداية إلى الصراط المُستقيم.

هكذا أيضًا حينما نقول في هذه السورة مرددين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۝ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:5، 6] بصيغة الجمع، فنحن نُعلن أننا عبيده -تبارك وتعالى- ونسأله الهداية إلى الصراط المستقيم، ونستعين به على حاجاتنا وأمورنا الدنيوية والأخروية، ونُعلن فقرنا وحاجتنا، وننخلع من النظر إلى ذواتنا وقُدراتنا وإمكاناتنا، فنحن عبيد وفقراء إلى هدايته اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] ونحن عاجزون عن تحقيق شيء لأنفسنا وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وفي حال من العجز فنستعين بالله فإذا حصلت لنا الهداية لا يحصل لنا معها زهو؛ لأن الذي هدانا هو الله.

فإذا حصل لنا شيء من العلم، أو العمل، أو حصل لنا شيء من حُطام هذه الحياة الدنيا، فنحن عبيد، ونستعين به -تبارك وتعالى- ونسأله دائمًا أن يهدينا؛ لأن علومنا قاصرة، وأفهامنا قاصرة، إذا كان الإنسان بهذه المثابة مهما بلغ علمه وقُدراته وعقله وذكاؤه وفهمه فإنه لا يمكن أن يقول: عقلي يُرشدني، أو مالي يُسعفني، أو عشيرتي تُنقذني، أو نحو ذلك مما قد يقوله القائلون، وإنما ينخلع من ذلك كله، فيكون مُتجردًا فقيرًا، لا يلتفت إلى نفسه طرفة عين؛ لئلا يُخذل، فيكون دائمًا يسأل ذلك لا سيما الهداية.

وأخيرًا: هذه السورة تضمنت أصول الاعتقاد والتصور الشرعي للقضايا الكُبرى، والوجِهة التي ينبغي أن يتوجه إليها العبد في حياته كلها، وما يصير إليه في الآخرة، فكل ذلك مُضمن فيها، فحُق لسورة كهذه أن تكون صلاة العبد الذي لم يقرأ بها أن تكون ناقصة، أو باطلة، والله تعالى أعلم. 

  1.  جامع الرسائل لابن تيمية - رشاد سالم (2/ 57).
  2.  أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها برقم: (395).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [سورة الحجر:87] برقم: (4703).
  4. (الصلاة وأحكام تاركها (ص: 144).
  5.  التحرير والتنوير (1/ 135).
  6.  سبق تخريجه.
  7.  سبق تخريجه.
  8.  سبق تخريجه.

مواد ذات صلة