بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى: وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنزلا إلى الأرض، فكان من أمرهما ما كان، وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصًا لهما، فلا تعارض حينئذ.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا جواب عن السؤال الذي أشرت إليه سابقاً وذلك بناء على أن ما وقع من هؤلاء الملائكة هو نظير ما وقع من إبليس على القول بأنه من الملائكة وأن ذلك ليس من قبيل الابتلاء والاختبار لبني آدم من غير حصول معصية من هؤلاء الملائكة.
وعلى كل حال فهذا فيه إشكال وكل ما ذكر في هذا المعنى من الروايات لا يصح منه شيء تقوم به الحجة، ويجب الرجوع إليه عن رسول الله ﷺ، وأما المنقول عن السلف فهو مبني على ما أخذ عن بني إسرائيل.
كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق، وفي قوله: إنه كان من الملائكة لقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [سورة طـه:116] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، مع أن شأن هاروت وماروت -على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى.
وقد حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار، والسدي والكلبي.
يريد بقوله: إنه أخف أن إبليس عارض أمر الله وكابر وأبى أن يسجد وقاس ذلك القياس الفاسد، فكان ذلك سبباً لطرده وإبعاده ولعنه وما أشبه ذلك، وأما هؤلاء الملائكة فإن ذلك كان معصية مجردة لغلبة الشهوة -على هذا القول- وذلك في قصة يذكرونها بروايات متعددة وهي أنهم تعجبوا من معاصي ابن آدم فأنزلهم الله إلى الأرض وركب فيهم الشهوات فوقع منهم ما وقع مما يذكرونه عن الزهرة وأنها صارت صورة امرأة جميلة وأنها طلبت منهم أن يشربوا الخمر وأنهم شربوها، وغير ذلك من أمور لا يليق ذكرها أصلا، فالعلم عند الله ومثل هذا القول الذي ينسب إلى الملائكة مثل هذه الأمور لا يعتمد عليه.
والقول بأن ذلك أنزله الله كما قال ابن جرير ابتلاء واختباراً أسهل من هذا بكثير، فلو قال قائل: هؤلاء ملائكة فكيف يقع منهم هذا الأمر، فيمكن القول: إن ذلك كان ابتلاء من الله ، أما هذه القصص المنسوجة بهذه الطريقة ونسبة هذه الأمور إلى الملائكة فلا يصح لإنسان أن يتكلم بها، وأسوأ من هذا وأبعد منه قول من قال: إن الملائكة توجد فيهم الشهوات عموماً، فهذا في غاية النكارة، والله أعلم.
نعم قصة الزهرة مكذوبة، والزهرة هي النجم المعروف، وقصتها ما يذكرون من أنها نزلت في صورة امرأة لهذين الملكين وأنهما أعجبا بجمالها فراوداها ولا زالا بها حتى وقعا بها، وفي بعضها أن تلك المرأة التي أعجبتهما سألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فصعدت به فمسخت في الأعلى، ولم يستطيعا الصعود وحبسا ببابل، ويذكرون أشياء غريبة منها أنهما معلقان بأرجلهما ويذكرون أشياء غريبة جداً.
حتى إن في بعض الروايات -رواية في ابن جرير وصححها الشيخ أحمد شاكر- عن عائشة -ا- أن امرأة أتتها من دومة الجندل، وأنها سألت عن النبي ﷺ فكان قد قبض، يعني جاءت في الوقت الذي توفي فيه رسول الله ﷺ فبكت المرأة، وخلاصة القصة أن هذه المرأة جاءت تسأل عن ذنب اقترفته ما كفارته وكيف المخرج منه، فعلى كل حال هذه المرأة تقول لعائشة -ا- بأنها أرادت زوجها فبحثت عنه طويلاً ولم تجده وأنها سألت عنه فأرشدها ساحر أو ساحرة إلى أمر تفعله، فجيء لها بكلبين أسودين كبيرين فركبت أحد هذين الكلبين والساحر أو الساحرة ركب الآخر فما وجدت نفسها إلا ببابل، فأُدخلت على هذين الملكين المعلقين بأرجلهما فسألتهما فأمراها أن تذهب إلى مكان أرشدا إليه وأن تبول على الرماد فذهبت فرأت منظراً فظيعاً فخافت ورجعت ثم قالا لها: هل فعلت؟ قالت: نعم، قالا: ماذا رأيت؟ قالت: ما رأيت شيئاً، قالا: لم تفعلي شيئاً، فارجعي فرجعت وخافت ثم رجعت، وفي الثالثة فعلت ما طلب منها فخرج منها فارس أسود وارتفع إلى السماء فأخبرت هذين الرجلين بما رأت فقالا: صدقت، وأخبراها أن هذا هو الإيمان خرج منها[1].
فالمقصود أن مثل هذه الأشياء التي وردت في الإسرائيليات عن الملكين لا يعتمد عليها.
قوله: قال أصحاب الهيئة: يعني علوم الهيئة التي يتحدثون فيها عن الأقاليم وحدود الأرض، وخطوط الطول، ودوائر العرض المعروفة وكذلك الهيئة العلوية من الأفلاك والنجوم وما أشبه ذلك.
فالحاصل أن ابن كثير -رحمه الله- يأتي بكلام علماء الهيئة من أجل أن يحدد بالضبط موقع بابل من جهة خطوط الطول ودوائر العرض على الكرة الأرضية.
إذا نظرت إلى كلام المفسرين تجد أن بعضهم يقول: بابل في المغرب، وبعضهم يقول: في نهاوند، وبعضهم يقول: في العراق، وبعضهم يقول: هو إقليم الكوفة وما حوله، فليست القضية عندهم متفقة يقولون فيها بأنها بابل المعروفة في أرض العراق، ومن ثم فإن السبب في كونه أراد أن يحددها تحديداً دقيقاً لئلا تلتبس به مع غيرها، وإلا فإن هذا لأول وهلة يقول القائل: ما الحاجة إلى التحديد أين هي سواء على خط طول كذا وخط عرض كذا.
على كل حال الأصل أن تحمل بابل على المكان المعروف منذ القديم في التاريخ فليست هي تسمية حادثة، وإنما هي معروفة منذ زمن طويل.
وإذا نظرت إلى ما كتب عن بابل وسبب التسمية تجد أشياء وخزعبلات لا يبنى عليها علم، فتجدهم يقولون: هل من بلبلة الألسن، وينسبون إلى الله كذباً وزوراً عن اليهود أشياء لا يليق أن يتفوه بها الإنسان من سوء ظنهم بالله، ويقولون في سبب تسميتها غير ذلك، فعلى كل حال اسمها بابل والأصل في الأسماء ألا تعلل.
والعجيب أننا إذا أردنا أن نفسر بابل بتلك التفسيرات المكذوبة فمعنى ذلك أنا جعلناها عربية، وهم أعاجم أعني الذين قالوا: إنها من البلبلة وهيا نبلبل..الخ، فهم اليهود الأعاجم فكيف فسروها بذلك، فهذا من التناقض، فأحياناً تعرف بطلان القول حينما يفحص ويحلل فيتبين لك أنه ما يصح.
هذه الروايات مبنية على ما أخذ عن بني إسرائيل، والله قال: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ أي هما اللذان يقومان بهذا التعليم، لا أن يرسلاه إلى الشيطان فيقوم بتعليمه، وبعضهم يقول: وما يعلِّمان، يعني يُعْلِمانه بأن هذا باطل، كما قال القائل:
تعلم شفاء النفس قهر عدوها | .......................... |
يعني: اعلم أن شفاء النفس قهر عدوها، وغير ذلك مما يستشهدون به.
لكن ظاهر الآية المتبادر أنهما يعلمان السحر كما قال الله : يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [سورة البقرة:102] يقول: وما يُعْلمان لكن الظاهر والله تعالى أعلم أنها من التعليم، هذا الظاهر المتبادر، أي من التعليم المعروف، سواء قلنا: إنهما يعلمان السحر، أو أن الشياطين يعلمون الناس السحر، وهؤلاء يعلمون ما يفرقون به المرء وزوجه.
سواء قلنا هذا أو هذا، مع أن ما يفرق به بين المرء وزوجه هو نوع من السحر قطعاً؛ بل إن بعض أهل العلم قصر حقيقة السحر عليه وقالوا: والباقي خزعبلات، إما أخذاً للأبصار بالخييل أو معرفة خواص المواد، مثل ما يفعل من يعرف الكيمياء عن طريق خدع كمن يدخل في النار يطلي نفسه بطلاء ويدخل في النار ولا يحترق والناس ينبهرون به، أو غير ذلك مما يفعله من تغيير لونه أو غير ذلك، أو بأمور يموه بها بسبب معرفة خواص المواد وإلا فهو لا حقيقة له، أو بخفة اليد بحيث يفعل حركات تستغرب كيف هذا خرج من هنا؟ وكيف هذا جاء من هنا؟
وكل هذا ولا شك أنها من ألوان السحر لكن منه ما هو حقيقي ومنه ما هو غير حقيقي، والحقيقي أكثر من هذا، وما يفعلونه اليوم مما يسمى بالرجل البهلواني أو الرجل الحديدي أو الرجل الذي يقضم الحديد بفمه أو يثنيه بأصابعه، أو يجر السيارة بأسنانه أو يجلس تحتها وتطأ عليه، أو يمشي على المسامير أو ينام عليها أو يمشي فوق النار، هذا كله من السحر، ولو حضرت عندهم لأبطلت عملهم هذا كما يستطيع أن يبطله كل واحد منكم، فهذا الرجل لو قرئ عليه وهو يفعل هذا لدهسته السيارة ومات، ولو دخل في النار لاحترق إذا ما طلا نفسه بطلاء، ولا يستطيع أن يثني الحديد بيده أبداً.
ولا يمكن ولا يعقل أن يفعل هذا البشر، ولو جرى على يد أحد من البشر لكان من قبيل المعجزات؛ لأن هذا أمر خارق للعادة تماماً، ولا يمكن للبشر أن يحصلوه بالتمارين والقوة إطلاقاً، وما يذكرونه بما يسمى بعلم التأثير الذي هو قرين ما يسمونه NLBمن المشي على النار فهذا أيضاً كله من السحر إذا كان لا يحترق، وأما إذا كان لا يحس فهذا نعقله ونحن أطفال، فأنا أستطيع أمشي على النار ولا أحس؛ لأن الإنسان ممكن يجرح وهو في حالة من شدة الفرح أو من شدة الحزن، أو شدة الهرب والخوف، ولا يشعر، ويكسر ولا يشعر في فترة ذهول.
واسألوا الذين تقع لهم حوادث، اسأله للتو حينما انقلبت به السيارة أو نحو ذلك فلربما يجرح وينزف ولم يشعر بشيء إطلاقاً، تجده ينكسر فيريد أن يقوم وهو لا يشعر أن رجله مقطوعة، كل هذا يقع ولا يتفطن له إلا فيما بعد حينما تذهب عنه الصدمة أو يقول له إنسان: ما بال عينك تسيل على خدك، فمن الممكن أن الإنسان ما يحس لكن الجسد لا بد أن يقع عليه أثر النار أو أثر السكين أو نحو ذلك، وفرق بين هذا وهذا.
فإذا تعلمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعًا في السماء فيقول: يا حسرتاه! يا ويله ماذا أصنع؟
وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدًا حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر، رواه ابن أبي حاتم، وقال قتادة: كان أخذ عليهما ألا يعلما أحدًا حتى يقولا: إنما نحن فتنة -أي: بلاء ابتلينا به- فلا تكفر.
ابتلينا به هذا على القول بأن الغواية حصلت منهما أصلاً، لكن على قول ابن جرير أنهما يقولان ذلك؛ لأنهما إنما نزلا ابتلاء من الله للناس دون أن يقع منهما معصية.
كما في خبر تلك المرأة التي قال لها: لا تكفري إنما نحن فتنة، فلما أبت أمراها أن تذهب إلى رماد وتبول عليه، والخبر ذكرناه آنفاً أن امرأة جاءت إلى عائشة -ا.
فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الإيمان. وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكلِّ شيء وذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر، فذلك قول الله تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ الآية [سورة البقرة:102].
وقال سُنَيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الآية: لا يجترئ على السحر إلا كافر، وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار.
قوله: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ أصل الفتن هو الاختبار، كأن تعرض الذهب مثلاً أو المعدن على النار فيتخلص ما فيه من أخلاط فيبقى ذهباً صافياً خالصاً، تقول: فتنت الذهب على النار، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [سورة البروج:10] على أحد التفسيرات أي أحروقهم بالنار في قصة الأخدود، وقال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء:35] أي اختباراً.
استدل بها على تكفيره؛ لأنه قال: يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [سورة البقرة:102] يعني لا تتعلم السحر، فإن أبى وتعلم ما يفرق به بين المرء وزوجه، وسواء كان قد تعاطى السحر وعمل به أو اكتفى بتعلمه، فإنه قد جعل ذلك كفراً، وهذا هو القول الأرجح في هذه المسألة، وهو أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يتعلم الإنسان السحر سواء كان ذلك من أجل العمل به أو من أجل معرفة الشر كما يقول بعض أهل العلم:
عرفت الشر لا للشر لكن لأتقيه | ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه |
فبعض أهل العلم يقولون: يجوز تعلم السحر لإبطاله وإفساده والحذر من مقارفته وتحذير الناس منه، وهذا الكلام غير صحيح؛ لأن هذه الوسيلة وسيلة محرمة في نفسها وذلك أن تعلمه كفر، فلا يجوز للإنسان أن يقدم عليه.
وقد استدل بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر، واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبد الله -، قال: من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ[2] وهذا إسناد صحيح وله شواهد أخر.
وقوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [سورة البقرة:102].
قوله: من أتى كاهناً أو ساحراً فسأله.. قد لا يسأله متعلماً للسحر، وإنما يسأله عن بعض الأمور الغائبة ومع ذلك حكم عليه بهذا الحكم، وهو أنه كفر بما أنزل على محمد، فكيف بما أتاه ليتعلم منه السحر؟ لا شك أن هذا أشد.
ولماذا خص التفريق بين المرء وزوجه في قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ مع أن السحر أوسع من هذا؟
يمكن أن يقال: لأن هذا هو الأشهر والأكثر انتشاراً وهو السحر الذي يؤثر بإذن الله من جهة الحب والبغض والنفرة والإقبال والاستمالة، ولهذا فإن بعضهم يفسر السحر بأنه الصَّرف، أي لأن الشيء مصروف عن وجهه، حيث صار يحب هذا الذي ما كان يحبه، أو يبغض هذا الذي كان يحبه.
وبعضهم يفسره بالاستمالة لما يحصل فيه من استمالة المسحور، وعلى كل حال سواء فسرناه بهذا أو بهذا، أو فسرناه بما هو أوسع من ذلك كما يقول بعضهم: هو من الخفاء؛ لأن الساحر يأتي ما يأتي بطرق خفية غير مدركة بالنسبة لمن لا يعرف السحر، وهذا أقرب وأوسع ما فسر به السحر بمعنى من أين أخذ السحر؟ يقال: أخذ من الخفاء.
فإذا قيل: لماذا ذكر التفريق بين المرء وزوجه؟ يقال: لأنه هو الأفشى والأكثر، كما قال الله : وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [سورة الفلق:4].
فلو قيل: لماذا ذكر النساء السواحر ولم يذكر السحرة من الرجال -ومن شر النفاثين في العقد- حيث والساحر يعقد عقده كما قال النبي ﷺ: من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر[3] فيمكن أن يقال: لأن السحر في النساء أكثر منه في الرجال، وأكثر ما يقع ذلك للمرأة وأسوؤه حينما تكون في حال الحيض، ولذلك فإن من أراد أن يعالج السحر يكون العلاج أصعب إذا كانت المرأة في حال الحيض، يعني علاج المرأة المسحورة وهي في غير الحيض أسهل من علاجها في حال الحيض.
والساحر إذا أراد أن يفك السحر بسحره حيث يعطى مال ويقال له: فك السحر يكون ذلك بالنسبة إليه في رمضان أصعب منه في غير رمضان؛ لأنه يريد أن يفكه عن طريق الشياطين، فتجده يقول للإنسان الذي يأتيه: إذا خرج الشهر تأتي إليَّ، وهذا شيء مشاهد حيث يأتي بعض الناس يسألون عن مثل هذه الأشياء، ولربما وقع بعضهم في بعض الأمور العجيبة التي يقصد بها الإصلاح، ومن ذلك فك السحر بالسحر، ومعلوم أن ذلك لا يجوز، وهذا الذي عليه عامة العلم سلفاً وخلفاً.
وما نقل من بعض العبارات عن بعض السلف فهو محمول على أن المقصود به النشرة عند من قال لا بأس بالنشرة، فالمقصود بالنشرة هي ما يحل به السحر وإن لم يكن بالسحر، كأن يكون بالرقية أو بالأدوية المعروفة غير السحر، حيث توجد الآن أدوية تعطى للمسحور وهي مركبة من أعشاب تعين على استخراجه خاصة إذا كان مأكولاً أو مشروباً فهذه نُشرة، فالنُشرة تكون بالسحر وبغيره فهي لحل السحر، ولا إشكال فيها إذا كانت بغير السحر، وعلى فرض أن مقصود القائل من أن السحر يجوز لفك السحر فإن ذلك القول قول شاذ وليس كل قول قيل يمكن أن يتبع.
وعلى كل حال لا يجوز ذلك وعلى الإنسان أن يصبر ويتعاطى الأسباب المعروفة المباحة أو المشروعة لعلاج هذا السحر.
بعض أهل العلم -وهو قول عند بعض الحنابلة- قالوا: يجوز في حالات ضيقة جداً، وذلك مثل المرأة التي تسحر لتبذل عرضها، فالمرأة أحياناً قد يوضع لها سحر وهي شريفة فتصير تخرج تبحث عن الرجال في الشوارع، فقالوا في هذه الحالة يمكن أن يفك بالسحر، لكن هذا الكلام ليس بصحيح، بل مثل هذه المرأة تحبس بأن توضع في مستشفى أو في أي مكان تضبط فيه، كبيت أهلها وعليهم أن يرقونها بالرقى الشرعية حتى تبرأ بإذن الله .
وهناك طرق صحيحة يفك بها السحر من عرفها وكان له خبرة بها من غير أن يكون فيها مخالفات، حيث إن الله يفتح على بعض الناس فترى منهم أشياء عجيبة في هذا الباب حيث يوفقهم الله إلى أمور يفكون بها السحر.
وبعضهم يذكر طرق يقول دلت عليها التجربة حيث يأتون بأشياء معينة كأن يضعون ماء مع ملح أمام المسحور، ونحو ذلك فهم عندهم طرق معينة يقول لك يقتل الجني المربوط مع السحر خلال دقائق، ذكروا أنه إذا كان مربوطاً بحيث ما أمكن إخراجه فيضطرون إلى قتله، كما يقولون، والله أعلم.
وأحياناً يأتون بالقطران وهو ذو رائحة معينة معروفة مخلوط بالماء في زير الماء مثلاً ويضعونه عند أنفه، حيث يقولون: إنه يحبه جداً، فيخرج من أي مكان في الجسم كان مختبئاً فيه، ويضعون أمامه الماء والملح ثم يقولون دعاء معيناً أو أذكاراً معينة، فيقتل بهذه الطريقة كما يقولون، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
- أخرج القصة الحاكم في مستدركه (7262) (ج 4 / ص 171) وصححه الذهبي في التلخيص.
- أخرجه البزار بهذا اللفظ (ج 5 / ص 256).
- أخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم باب: الحكم في السحرة (4079) (ج 7 / ص 112)والطبراني في الأوسط (ج 2 / ص 127)وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (5702).