الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
[41] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 104إلى قوله تعالى: {وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} الآية 105
تاريخ النشر: ١٧ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 3817
مرات الإستماع: 2903

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة البقرة:104].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد قال الله وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ [سورة البقرة:102] ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ، وقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:103].

تأمل في قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ فأثبت لهم العلم ثم ذكر ما يدل على نفيه عنهم وذلك في قوله: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ معناها أنهم لا يعلمون، فكيف تجمع بين الأولى: وَلَقَدْ عَلِمُواْ والثانية: لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ؟

الجواب هو أن الثانية تكون بمعنى لو كانوا يعقلون.

ففي قوله: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ المعنى أنهم عرفوا حكم السحر، وأنه كفر ولا حظَّ ولا نصيب من الثواب والأجر لمن تعاطى السحر.

وفي قوله: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ، وفي قوله: لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ هؤلاء يمكن أن يكون المراد بهم علماء اليهود باعتبار أن الحديث عن اليهود وعن اتباعهم للسحر، وعلى هذا فمعناه أنهم لو كانوا يعلمون علماً ينفعهم، فالعلم الذي أثبته لهم أولاً هو المعرفة، لكن العلم قد لا ينتفع به صاحبه، حيث كثير من الناس يعلم كثيراً من الأحكام لكنه لا يمتثل، ولذلك تقول للإنسان: لو كنت تعلم، أو لو تدري لما فعلت كذا، وهو يعلم بالحكم.

فالعلم الذي أثبته لهم أولاً هو المعرفة، لكن العلم قد لا ينتفع به صاحبه، حيث كثير من الناس يعلم كثيراً من الأحكام لكنه لا يمتثل، ولذلك تقول للإنسان: لو كنت تعلم، أو لو تدري لما فعلت كذا، وهو يعلم بالحكم.

ويمكن أن يكون المراد بقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الإنس، والذين علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق يمكن أن يقال: إن المراد بهم اليهود مثلاً، فالسياق يتحدث عن اليهود، وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ فيمكن أن يكون المراد بقوله: لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ الإنس، وتلك في اليهود الذين تعلموا من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وقد يقال غير ذلك -والعلم عند الله ، ومن أوضح ما يذكر في هذا هو ما ذكرته من أنهم لو كانوا يعلمون علماً ينتفعون به.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [سورة البقرة:104-105].

نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص -عليهم لعائن الله- فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولوا: راعنا، ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46].

قوله تعالى: لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا ما المراد بـرَاعِنَا وإلى أي شيء ترجع؟

إذا جمعت أقوال وعبارات المفسرين تجد أنها مأخوذة من الرعاية، ومن الرعونة، ومن الرفق، وراعنا بمعنى أمهلنا، وقال بعضهم: راعنا، بمعنى تكلم بكلام نفهمه عنك، وبمعنى ارقبنا وبمعنى أرْعِنا سمعك.

فلو نظرنا في المعاني وأرجعناها إلى ما يمكن أن يفسر به راعنا فإنها ترجع إلى أصل وجذر في الكلام فإذا قلنا: إنها بمعنى أرْعِنا سمعك أو ارقبنا، أو من الرعاية، أو أنها من الرفق، فهل هي مثل الرعونة؟

الجواب: لا، وإنما الرعونة مأخوذة من رعن وهذه المعاني ترجع إلى رعى، وإذا قلنا: إنها من رعن يرعن رعونةً فهو راعن وأرعن، وكلمة راعن وأرعن تدل على الطيش والهوج، يقولون: فلان أرعن يعني أهوج لا تقترب منه فلا تدري ما الذي يصيبك من مقاربته إذ هو أََحمق، رعن يرعن رعونة فهو راعن وأرعن. 

فالذين فسروها بأن اليهود كانت تلوي ألسنتها، فمعنى ذلك أن هذه اللفظة تعود إلى شيئين:

المعنى الأول: أن هذه اللفظة عند اليهود لفظة سبٍّ في لغتهم يعني في غير العربية، فإن قيل: كيف استعملوا لغة أعجمية في مخاطبة النبي ﷺ وهو عربي؟

يقال: لما استعملها الصحابة في المعنى الآخر استغل اليهود الفرصة وصاروا يطلقون هذه اللفظة الأعجمية التي هي عبارة عن سب باللغة العبرية بحيث صاروا يستعملونها يقصدون بها المعنى الذي في لغتهم والذي هو من أقبح السب وأبشعه، والسامع يظن أنهم يتكلمون بلفظة عربية حيث اتفقت لفظة مع لفظة، لكنها في معناها عند العبرانيين سب قبيح، فصاروا يطلقونها ويتضاحكون فيما بينهم، فالمقصود أنهم استغلوا التوافق في اللغة.

المعنى الثاني: أنها عربية من الرعونة، والمعنى أنهم يعبرون بلفظة ظاهرها قد يستعملها اليهودي مريض القلب في معنىً سيء، فالمسلم يقول: راعنا يقصد ارقبنا وانظرنا، لكن هذا يستغلها كأنه يقول له: يا أرعن، ولهذا جاء في قراءة تنسب للحسن البصري وهي شاذة: (راعناً) بمعنى أنهم ينسبونه إلى الرعونة. 

فالمتكلم بها يحتمل أن يقصد بها ارقبنا وانظرنا، ويحتمل أن يقصد بها نسبته إلى الرعونة، والإنسان لا يتكلم بالألفاظ المحتملة المجملة، وهذا أصل كبير يذكره أهل العلم وأهل السنة سواء في قضايا الاعتقاد أو في غيره، وهي أن الإنسان يتكلم بالكلام البين الواضح الذي لا يحتمل الحق والباطل؛ لئلا يفهم عنه غير المراد.

وهذه الآية أصل في هذا الباب، وهي أصل أيضاً في باب التشبه، فلا تتشبه بهؤلاء اليهود الذين يطلقونها ويقصدون بها المعنى السيئ وإن قصدت معنىً حسناً.

وإذا فسرت هذه اللفظة بأنها من رعى نجد المعاني التي ذكرت -ارقبنا وانظرنا وأمهلنا وما أشبه ذلك- بمعنى لا تعجل علينا، فراعنا وارقبنا وانظرنا من الرعاية ولهذا يقال لراعي الغنم: راعٍ؛ لأنه يلاحظ هذه الدواب ويرقبها وما إلى ذلك، ويقال للحاكم أو الأمير أو الوالي أو الملك أو الخليفة راعي، وفي الحديث: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته[1] فذلك يرجع إلى معنى ارقبنا واحفظنا وما أشبه ذلك.

فالإشكال على تفسير الكلمة بالمعنى الثاني -وهو أنها من "رعى"- أنهم عبروا بلفظة محتملة استعملتها اليهود على وجه قصدوا به المعنى السيئ واستعملها المسلمون من الصحابة في معنىً حسن، فـ"راعنا" حينما يقولها المسلمون فهي قطعاً ليست من الأول، بل هي من الثاني قطعاً، وأما اليهود فحينما لووا بها ألسنتهم فهم إنما نطقوا بها على أنها أعجمية –سب عندهم- أو نطقوا بها على أنها عربية وقصدوا الرعونة.

وبعض أهل العلم -ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري- لمّا أرجعها إلى أصلها أرجعها إلى المعنى الثاني أولاً وآخراً، وعلل سبب النهي عنها بما لا يرجع إلى المعنى الأول، فقال: راعنا المراعاة تدل على مفاعلة بين شيئين كالملاحظة، والمراقبة، والمبارزة، والمصانعة، والمناجزة، والمقاتلة، والمبايعة، وما أشبه ذلك.

فهو يقول: إن معنى هذا الكلام أي: إذا قالوا: راعنا فمعناه افهم عنا نفهم عنك، وارقبنا نرقبك، واسمع منا نسمع منك، فصارت القضية على سبيل المشارطة والمقابلة، وهذا لا يليق في خطاب النبي ﷺ وإنما يليق في ذلك ما كان على سبيل الإفراد لا على سبيل المقابلة، فجاء لهم بلفظة بديلة لا تقتضي هذا وهي أن يقولوا: انظرنا؛ لأنه لا يقال: انظرنا ننظرك، فالمقصود النهي عن التكلم مع النبي ﷺ بهذه الطريقة وكأنها مقايضة بحيث لا يسمعون منه حتى يسمع منهم.

هذا هو المعنى الذي ذهب إليه ابن جرير -رحمه الله- فهو لم يذهب بها إلى أن النهي من أجل أنها توهم معنى الرعونة وإنما لقلة الأدب فيها مع النبي ﷺ بمعنى أنهم جعلوه كأدنى الناس ممن تقول له: اسمع مني وأسمع منك، ارقبني وأرقبك، أرْعِني سمعك وأرعيك سمعي، وهذا لا يليق في الخطاب مع النبي ﷺ.

وبهذا القول تستطيع أن تجمع الأقوال التي قيلت وتعرف إلى أي شيء ترجع، وبهذا نعرف أن كلمة: "راعنا" لم يطلقها من أطلقها من المسلمين بقصد المعنى الأول -من الرعونة، لكن نهى الله عنها لما فيها من سوء الأدب في التعبير مع النبي ﷺ، والشريعة جاءت بما يحسن ويجمل من الألفاظ والتعابير والكلام، ولهذا لا يقال: عبدي وأمتي لكن يقال: فتاي وفتاتي، ولا يقال: وضئ ربك وإنما يقال: وضئ سيدك. 

قال تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا [سورة النــور:63] سواء فسرت بأنها في المناداة والمخاطبة بمعنى لا ترفع صوتك وتتكلم معه كما لو تكلمت مع غيره من الناس، أو كما تتحدثون فيما بينكم، بل تكلم بأدب وخفض صوت، كما قال في الآية الأخرى: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [سورة الحجرات:2]، أو كان المراد به: لا تقل: يا محمد -مثلاً- كدعاء بعضكم بعضاً، بل قل: يا رسول الله؛ فالمقصود من ذلك هو تعليمهم الأدب في الألفاظ، إما لأن هذه اللفظة محتملة، وقد تستغل كما فعل اليهود حيث استعملوها استعمالاً سيئاً، أو لأنه لا يليق مخاطبة النبي ﷺ بذلك؛ لأنها تُفهِم معنى المفاعلة. 

وأياً كان، سواء كان هذا أو هذا فكل ذلك لا يليق، ولذلك علمهم الله الأدب في تعاملهم معه بحيث استبعد الألفاظ الموهمة للمعاني الباطلة وجاء بالألفاظ التي -أيضاً-لا رعونة فيها ولا جفاء ولا سوء أدب معه ﷺ.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: قول الله تعالى: أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [سورة النساء:59] (6719)، (ج6/ص2611)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم (1829) (ج 3 / ص1459).

مواد ذات صلة