بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر –رحمه الله تعالى-في تفسير قوله تعالى: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114] قال: وهذا إنما كان تصديقًا وعملًا بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [سورة التوبة:28] وقيل: إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيُظْهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفًا يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم.
وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله ﷺ أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى اليهود والنصارى منها، ولله الحمد والمنة.
وما ذاك إلا لتشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا -صلوات الله وسلامه عليه- وهذا هو الخزي لهم في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام صُدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة:114] على ما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير الله عنده والطواف به عريانًا، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله.
وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما روى الإمام أحمد عن بُسْر بن أرطاة قال: كان رسول الله ﷺ يدعو: اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة[1] وهذا حديث حسن.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فخلاصة ما يقال في هذه الآية، هو أن من أهل العلم من يرى أنها بصيغة الخبر، الذي بمعنى الأمر، فقوله: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ الصيغة خبرية ومعناها الطلب، أي لا تمكنوهم من دخولها إلا في مثل هذه الحال.
وعلى كل حال معنى هذا الخبر أن هؤلاء الكفار ليسوا بأهل أن يتحكموا وأن يتولوا شأن المسجد، فيدخلوا فيه من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، وإنما الشأن أن هؤلاء ليسوا بأوليائه إنما أولياؤه المتقون، ومن ثم فإن حق هؤلاء هو الإبعاد والإذلال، وأنهم لا يجترئون على هذه المساجد بالدخول فضلًا عن العبث والسيطرة والتحكم في شئونها، فهذا هو المعنى الأول، والمعنى الثاني أن ذلك من قبيل البشارة، فقوله: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ فيه إخبار عن أمر مستقبل سيقع، فتكون الآية بهذا الاعتبار بمعنى الخبر لكنه خبر عن أمر مستقبل، فعلى كل حال المعنى الأول أقرب، والله تعالى أعلم.
ولو قال قائل بأن ذلك الخبر الذي بمعنى الطلب مضمن معنى البشارة فإن ذلك لا يبعد، وهو أولى من القول بأنه خبر محض عن أمر غيبي فهو في حقيقته بشارة لأهل الإيمان بما سيحصل لهم من التمكين والغلبة، وقد تحقق ذلك.
لكن الآية -والله تعالى أعلم- تبين حق هؤلاء الكفار الذي ينبغي أن يكون، وهو أنهم في مرتبة دون هذا الذي ارتقوا إليه من التسلط على المساجد والقيام عليها بصد الناس عن المسجد الحرام.
ابن كثير -رحمه الله- هنا يتحدث عن المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها باعتبار أن الآية السابقة في المشركين وهي قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ [سورة البقرة:114]، أي: أن المشركين منعوا المسلمين من المسجد الحرام، فيقول: ثم سلى الله أهل الإيمان لما صدوا عن المسجد الحرام بأن لله المشرق والمغرب وذلك لتخفيف أثر هذا المنع والصد في نفوسهم.
فهذا باعتبار أن الآية سابقة للمشركين، لكن من قال بأن الآية السابقة في النصارى كابن جرير -رحمه الله- كيف يربط بين هذه الآية والتي قبلها؟ يعني ومن أظلم من النصارى الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، إلى آخره، ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا وجوهكم فاذكروه، ولا يمنعكم تخريب بيت المقدس من أن تذكروا الله حيث كنتم فإن ذكر الله لا يختص بمحل دون محل، فعلى هذا تكون هذه الآية عقب ما حصل من النصارى على قول ابن جرير من إخراب المسجد الأقصى، وإعانة بخت نصَّر على ذلك ومنع اليهود منه، أن الله قال: لا يكن ذلك من هذا الصد وإخراب المسجد الأقصى سببًا مانعًا من القيام بوظائف العبودية فإن الله يعبد في كل مكان فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115] هذا إذا ربطنا بين الآية وبين التي قبلها.
ولكن إذا نظرنا إلى أسباب نزول الآية الثانية فهي في التوجه والاستقبال وليس في فعل العبادة في محل دون محل، وهذا مع اختلاف الروايات وتنوعها في سبب نزول الآية كما سأشير إليه بعد قليل إن شاء الله.
فالآية الأولى في المنع من التعبد لله في المساجد وإخراب المساجد بتعطيل ذكر الله فيها، أو إخراب عمارتها، والآية الثانية في التوجه، وذلك أن لله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله، فيمكن أن لا نربط بين الآيتين فنقول: هذه آية نازلة في سبب، وتلك تتحدث عن موضوع آخر، ولا نحتاج إلى التكلف في الربط بين الآيات، ومع أن القرآن في غاية التناسق لكن قد لا يظهر وجه ذلك إلا بنوع من التكلف قد نقول هذا.
ومن حاول الربط كابن جرير -رحمه الله- فهو يربط بين هذه القضية، وبين فعل النصارى على أساس أن السابق في النصارى، فإذا سلمنا بأن الآية الأولى في النصارى تكون هذه الآية تسلية لليهود على هذا الاعتبار، لكن هل قصد القرآن تسلية اليهود وهو في سياق الرد عليهم وبيان مخازيهم؟
وإذا قلنا: إنها في المشركين فيكون السياق قد خرج عن الحديث عن اليهود وأهل الكتاب إلى المشركين، وتكون تسلية للمسلمين.
فعلى كل حال الله تعرض للمساجد التي هي محال التعبد فتوعد من قام بتعطيلها، وصد الناس عنها وعمل على خرابها، ولما تحدث عن المساجد التي هي محل التعبد لله في الأساس وهي أفضل البقاع عند الله ولما كان الناس فيها يتوجهون في صلاتهم إلى القبلة، تحدث عن قضية القبلة، فنحن إذا عمدنا إلى مثل هذا الربط دون الغوص في الكلام على بعض التفصيلات من حيث الذين عنتهم الآية بتحديدهم على سبيل التخصيص، فإن ذلك قد يظهر وجهه ولا يكون ذلك متكلفًا بالطريقة التي ذكرتها آنفًا.
على هذا الاعتبار تكون الآية نازلة في تحويل القبلة، وعلى كل حال في قوله: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ أين للمكان.
فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ يعني حيثما تتوجهوا فهنالك وجه الله، أي: فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ بمعنى هنالك وجه الله.
وقوله: إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ هذا الختم للآية في غاية المناسبة؛ لأنه فتح لهم ووسع لهم في التوجه بظاهر الآية، فناسب أن يعقبه بقوله: إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:115].
فعلى كل حال الذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا أولًا معناه أن ذلك يتعلق بمسألة تحويل القبلة، وهو أحد أسباب النزول الواردة في هذه الآية؛ وذلك أن المسلمين لما توجهوا إلى بيت المقدس ثم حولت القبلة إلى الكعبة تكلم اليهود، ولما كانوا يتوجهون قبل إلى المسجد الأقصى تكلم المشركون، وقالوا: هذا يزعم أنه على دين إبراهيم، ويتوجه إلى غير قبلته، فلما حولت من بيت المقدس إلى الكعبة تكلم اليهود وأرجفوا بالمسلمين، وقالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] وهم السفهاء الذين عناهم الله بقوله:سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] فتكلم اليهود في ذلك فأنزل الله : وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]
وعلى هذا الاعتبار تكون دلالة الآية إنما هي في الرد على اليهود المعترضين على تحويل القبلة، بمعنى أن الله حيث وجهكم توجهتم فالجهات كلها لله -تبارك وتعالى- وبالتالي لا يفهم من هذا بحال من الأحوال أن الإنسان مخير بحيث يتوجه إلى أي الجهات شاء، ويصلي، بل هو مطالب حينما كانت الوجهة إلى بيت المقدس أن يصلي إلى بيت المقدس ولا تصح صلاته إذا كان عالمًا عامدًا إلا بهذا، ثم لما وجهت إلى البيت الحرام المقدس صار ذلك من الأمر اللازم الذي لا تصح الصلاة إلا به إلا من عذر بأن عجز عن التوجه لخفاء القبلة أو المحبوس المربوط بحيث لا يستطيع أن يتوجه أو المريض في بعض حالاته، أو نحو هذا من الأعذار ففي مثل هذا يكون ذلك عذرًا واستثناءً لهؤلاء.
لكن إذا نظرنا إلى الأسباب الأخرى الواردة في نزول الآية -وقد صح كثير منها- فستجد معانٍ أخر، فمن ذلك ما ثبت مثلًا عن ابن عمر أنه رأى النبي ﷺ وهو متوجه من مكة إلى المدينة يصلي على راحلته وابن عمر يقول: وفي هذا نزلت: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ [سورة البقرة:115]؛ فهذه الرواية ثابتة ولكنها غير صريحة.
ولو فرضنا أن هذه الرواية أنها هي سبب نزول أيضًا -لأنها محتملة- فتكون الآية نزلت في هذا، وفي هذا، وفي هذا وفي هذا، أو يقال بأن ابن عمر أراد أن ذلك مما يدخل في معناها؛ لأن الشارع أذن للمسافر أن يتنفل على راحلته حيث توجهت به وحتى على غير الراحلة على الأرجح، فهذا صحيح لكنه غير صريح.
وجاء أيضًا في بعض أسباب النزول أن ذلك كان بسبب خفاء القبلة حيث صلوا في ليلة مظلمة ولم يعرفوا القبلة، فاجتهدوا فصلى كل رجل بحسب اجتهاده على حياله، ثم وضعوا أحجارًا أو شيئًا يعرفون به الجهة التي استقبلها كل واحد منهم، فلما أصبحوا رأوا أنهم صلوا إلى غير القبلة فأخبروا النبي ﷺ فنزلت الآية، كما في حديث عامر بن ربيعة[2] فيكون ذلك أيضًا فيمن خفيت عليه القبلة.
ووردت أسباب أخرى منها الصحيح، ومنها الضعيف، منها الصريح ومنها غير الصريح، فعلى كل حال إذا أردنا أن نجمع في أسباب النزول فإننا نبعد الروايات الضعيفة، مثل أنهم سألوا إلى أين يتوجهون لما أمروا بالصلاة، فأنزل الله : وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:115] فهذا لا يصح.
وعلى كل حال نبقي الصحيح ونبعد غير الصريح كحديث ابن عمر الذي قال فيه: إنه رأى النبي ﷺ يصلي على راحلته[3]، قال: وفي هذا نزلت: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:115] فيبقى معنى أن هذه الآية رد على اليهود في اعتراضهم على تحويل القبلة وتطمين للمسلمين وتسلية، وهي أيضًا فيمن خفيت عليه القبلة.
ويدخل في معناها أيضًا التوجه إلى غير القبلة في حال العذر أو الرخصة، مثل المسافر يصلي تطوعًا اختيارًا إلى غير القبلة فهو مرخص له، وكذلك أيضًا من صلى إلى غير القبلة جهلًا منه أو اضطرارًا مثل المريض أو المحبوس، فكل هؤلاء داخلون في عموم قوله -تبارك وتعالى: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115] ويبقى الأصل وهو أن الإنسان لا يجوز له أن يتوجه إلى غير المسجد الحرام؛ لقوله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144] إلا فيما ذكر من الأعذار، وكما هو الشأن في صلاة الخوف في حال المسايفة والاشتباك في الحرب فإنه يصلي ووجهه هاهنا وهاهنا.
بعض أهل العلم أيضًا ينظر إلى لفظة "حيث" في قوله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ، فيقول: إن المراد فأينما كنتم، أي: في أي مكان سكنتم من الأرض وأقمتم فيه فثم قبلة الله وهي الكعبة، فثم وجه الله، وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115] وعلى هذا المعنى فالآية ليست في معنى الرخصة فليست في التوجه إلى غير القبلة، وليست في تحويل القبلة، وإنما هو يعلمهم ويقول لهم: في أي مكان من الأرض أقمتم فتوجهوا إلى قبلة الله -تبارك وتعالى- وهي الكعبة.
وهذا المعنى إذا فسرت الآية به بمجرده هكذا فهو بعيد؛ لأننا سنكون أعرضنا عن أسباب النزول الواضحة الصحيحة التي تبين المراد بالآية بيانًا واضحًا لا يبقى معه غبش وبالتالي لا يحتاج إلى مثل هذا مع وجود هذه الروايات، والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال يقال في خلاصة الآية: هذه أسباب نزول نزلت الآية فيها جميعًا والله أعلم، فهي رد على اليهود وفي نفس الوقت هي في من خفيت عليه القبلة، وهكذا في صلاة المسافر تطوعًا، وهكذا أيضًا في المريض والمحبوس ومن لم يتمكن من استقبال القبلة، فهؤلاء جميعًا معذورون.
وبعضهم يقول: هذه في الدعاء أي فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ [سورة البقرة:115] يعني تتوجهوا بدعائكم إلى أي جهة فثم وجه الله.
وعلى كل حال الحديث عن القبلة لا يختص بالدعاء، وأول ما يتبادر فيه إنما هو الصلاة، التي يطالب الناس فيها باستقبال القبلة، لكن هؤلاء كأنهم نظروا إلى أن الدعاء لا يشترط فيه استقبال فحملوا الآية عليه، وابن جرير الطبري -رحمه الله- يحمل الآية على جميع هذه المعاني، يقول: فإنه لم يرد دليل في تخصيص بعض دون بعض، فالآية تحتملها جميعًا وكلها داخل فيه، وبهذا الاعتبار لا إشكال فالدعاء لا يشترط فيه استقبال، نعم، وصلاة التطوع لا يشترط فيها استقبال، ومن خفيت عليه الصلاة في السفر أو كان في مكان مظلم، أو حتى في الحضر إذا كان معذورًا، لا أن يتساهل في البحث عن جهة القبلة أو السؤال أو ينظر إلى المساجد المجاورة أو نحو هذا فهذا مفرط يجب عليه أن يعيد الصلاة.
وعلى كل حال كل هذه المعاني داخلة فيها لكن ذلك لا يفهم منه بحال أن استقبال القبلة غير واجب.
أول ما نسخ من القرآن القبلة باعتبار أنه أول ما نسخ من الأمور والأحكام العملية، كما يقول بعضهم، لكن هذا القيد يحتاج إلى نظر وتأمل؛ إذ هل تنسخ غير القضايا العملية أصلًا؟ فمن المعلوم أن العقائد لا يدخلها النسخ، والأخبار لا يدخلها النسخ؛ فإن ذلك يكون تكذيبًا لها، إنما النسخ في القضايا العملية، فلهذا يصير ذلك القيد أشبه ما يكون بالصفة الكاشفة التي لا تفيد قيدًا، والله أعلم.
وذلك أن رسول ﷺ لما هاجر إلى المدينة وكان أهلُها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهرًا، وكان رسول الله ﷺ يحب قبلة إبراهيم وكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء [سورة البقرة:144] إلى قوله: فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144] فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا [سورة البقرة:142]، فأنزل الله: قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:142] وقال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115].
وقال عكرمة عن ابن عباس -ا: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ قال: قبلة الله أينما توجهت شرقًا أو غربًا، وقال مجاهد: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة.
كلام مجاهد هذا بناءً على المعنى الذي ذكرته في الآخر، وهو أن قوله: فَأَيْنَمَا بمعنى حيثما، ولا شك أن أينما بمعنى حيثما، لكن ما المراد بها؟ قال: أي مكان وجدتم على وجه الأرض فعندكم القبلة تتوجهون إليها، وعلى هذا فالآية لا تكون مختصة بمن خفيت عليه القبلة أو نزلت في كذا أو كذا، وهذا ذكرته آنفًا.
قيل: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة، قال ابن جرير: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ إذنًا من الله أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب في مسيره في سفره وفي حال المسايفة وشدة الخوف.
فعن ابن عمر -ا- أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115] .
معنى يتأول في هذا الموضع معناه العمل بها؛ لأن التأويل يأتي بمعنى التفسير، ويأتي بحسب المقام، فإذا كان ذلك من قبيل الأمر فتأويله العمل بالمأمور والامتثال، وفي حديث عائشة: "كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لييتأول القرآن[4]، يعني يتأول قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النصر:3] أي يمتثل الأمر.
وإذا كان ذلك من قبيل الخبر فتأويله يكون بوقوع المخبر، وإذا كان ذلك من قبيل الرؤيا، فتارة يقصد به التفسير كما في قوله تعالى: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [سورة يوسف:36]، هذا في تفسير الرؤيا التي رآها الملك، وتارة يكون بتحقق هذه الرؤيا ووقوعها، كما قال يوسف : هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [سورة يوسف:100] لما سجد له أخوته وأبواه.
فالحاصل أنها كانت تأويل رؤياه التي قال عنها: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4]، فالمقصود بالتأويل في قول ابن عمر: "كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115] ": يعني يحقق ويمتثل ويعمل بالآية.
أيضًا جاء من حديث عامر بن ربيعة في غير الصحيحين مع ذكر الآية وإسناده فيه بعض الضعف، لكنه مع وجود هذه الشواهد يكون من قبيل الحسن، والله أعلم.
بمعنى أن هذه أصلًا قضية توقيفية لا يمكن لابن عمر أن يخترع من عنده طريقة في صلاة الخوف، وصلاة الخوف كما هو معلوم لها صفات متعددة، فابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف بين لهم ذلك عمليًا ولكنه لم يضفه إلى النبي ﷺ لكن ذلك مبناه على التوقيف، ومن ثم فله حكم الرفع؛ لأنه لا يقال من جهة الرأي.
هذا كما في حديث عامر بن ربيعة، لكن في بعض الروايات السابقة التي نقلها عن جماعة من السلف يقول: وقال عكرمة عن ابن عباس: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115] قبلة الله، وقال مجاهد: حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها: إلى غير ذلك من الروايات التي جاءت في هذا المعنى مما لم يورده الحافظ ابن كثير -رحمه الله- حيث فسروا بها قوله: فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ أي فهنالك قبلة الله، ففسروا وجه الله بمعنى القبلة.
وبعضهم يقول: الجهة، وعلى هذا الاعتبار تكون الآية ليست من آيات الصفات أصلًا، فهم لم يعدوها ولم يقولوا: إنها من آيات الصفات أصلًا حتى يقول قائل: إنهم قد أولوها مثلًا، وإنما قالوا: الوجه بمعنى الجهة، وليس الوجه الذي هو الصفة المعروفة، تقول: أنا أريد هذا الوجه، يعني هذه الوجهة، وهذا معروف في كلام العرب والسياق والقرائن تبين المعنى المراد وتحدده، فإذا قلت: نظرت إلى وجهك المقصود به الصفة، وإذا ذكرت الإرادة مثلًا أو السفر أو نحو هذا، تقول: أريد هذا الوجه فالقرائن تحدد المراد، هل تريد الصفة أو تريد الشخص أو تريد الجهة التي تريد أن تتوجه إليها وتسافر إليها، وتذهب إلى ناحيتها.
بعض أهل العلم من السلف ومن تبعهم من أهل السنة يرون أن هذه الآية من آيات الصفات، فالذين قالوا: إنها من آيات الصفات قالوا: فيها إثبات صفة الوجه لله على ما يليق بجلاله وعظمته، فهم حملوها على ظاهرها، وهم لا ينكرون أن الوجه يطلق ويراد به الذات أيضًا، قالوا: لكن ذلك لا يقال لمن لم يكن متصفًا، فجعلوها دالة على إثبات صفة الوجه.
والأدلة التي تدل على صفة الوجه من الكتاب والسنة كثيرة، فعدوا هذا منها، وممن ذهب إلى هذا جماعة من أهل العلم منهم عثمان بن سعيد الدارمي في رده على بشر المريسي، رد عليه وتكلم على هذه الآية وهذه القضية في رده على هؤلاء المعتزلة.
وممن حملها على هذا المعنى أيضًا أنها من آيات الصفات كبير المفسرين ابن جرير الطبري، وكذلك الحافظ ابن القيم وأطال في تقرير هذا المعنى في كتاب الصواعق، وهذه من المواضع القليلة التي خالف فيها شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية حيث إن شيخ الإسلام أيضًا أطال الكلام في أكثر من موضع -في ثلاثة مواضع فيما وقفت عليه على الأقل من الفتاوى- تحدث فيه عن هذه الآية أنها ليست من آيات الصفات أصلًا.
وبالتالي لا يستطيع أن يتمسك بها أهل الكلام وأهل التأويل والتحريف في نفيهم لصفة الوجه، أو في دعوى أن السلف وقعوا في شيء من التأويل، ومن أراد الاطلاع على هذه المسألة والكلام عليها فهي في المجلد الثاني والثالث والسادس من الفتاوى وعزا ذلك إلى جمهور السلف حيث قال: إن جمهور السلف لا يرون أنها من آيات الصفات أصلًا، ولهذا لما وقعت له المناظرة المعروفة معهم في الواسطية وأمهلهم ومعروف ما وقع فيها حينما استعانوا بالصفي الهندي في المجلس الآخر.
فالحاصل أنه كان مما أورده عليه في المجلس الذي بعده لما تحداهم أن يأتوا بمثال واحد أن السلف أولوا شيئًا من الصفات فقال له أحدهم: بأنه وقف على مثال وقع فيه التأويل عند السلف فقال له شيخ الإسلام: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115] ، قال: نعم، قال: هذه أصلًا ليست من آيات الصفات حتى يقال: إنهم أولوها، ثم بين المراد بها، فهو يعزوا هذا إلى الجمهور من السلف - وأرضاهم.
على كل حال الخلاف عند أهل السنة في مثل هذه الآية ليس خلافًا في قضية اعتقادية إطلاقًا وإنما غاية ما في الأمر أنه اختلاف في المعنى والتفسير فقط، وغاية ما يقال عن أحد الفريقين بأنه أخطأ في تفسير الآية كأي خطأ في التفسير ليس له علاقة بالاعتقاد بحيث يقال: هذا أوَّلَ وهذا نفى وهذا أثبت؛ لأنهم يثبتون صفة الوجه من الأدلة الكثيرة الأخرى في الكتاب والسنة فهم مثبتون هذا الأمر مقرون به، ولكنهم اختلفوا في آية هل هي تدل عليه أو لا تتعلق به أصلًا مع إثبات صفة الوجه، فهذا اختلاف في التفسير فقط.
وهذا مثل ما يقال أيضًا في الآية الأخرى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ [سورة القلم:42] جاء عن بعض السلف ومنهم ابن عباس وجماعة بأن الساق بمعنى الكرب، وهذا معنىً معروف ومشهور في كلام العرب ولا إشكال فيه والآية تحتمله.
ومن أهل السنة من قال بأن هذه من آيات الصفات والمقصود بها الساق الذي هو الصفة، واستدلوا عليه بالحديث الآخر، فيكشف عن ساقه[5] فجاء به مضافًا إلى الضمير العائد على الله وهنا لا يمكن أن يفسر بالكرب، فأهل السنة مثبتون لهذه الصفة مقرون بها، لكن غاية ما هنالك هو هل الآية تتحدث عن هذه الصفة أو تتحدث عن معنىً آخر، وهذا الخلاف سائغ ولا إشكال فيه، فهو خلاف في المعنى إذا كنت تثبت الصفة، لكن المشكلة في الذي يقول: الله ليس متصفًا بهذه الصفة أصلًا، لا الوجه ولا الساق ولا غير ذلك، فيؤولها بالتأويلات البعيدة والمحامل المتكلفة ولا يثبت ذلك ابتداءً، فهذا هو الانحراف ولا شك أنه انحراف، وأعظم منه من جعل قاعدة وأصلًا يسير عليه ويؤول عليه جميع النصوص.
الذين وقعوا في التأويل المذموم منهم من وقع في مفردات، مثل الشوكاني وجماعة، حتى بعض الأكابر لربما وقع في شيء من هذا، كابن خزيمة في كلامه على حديث: فإن الله خلق آدم على صورته [6] فالمقصود أن هذه المفردات إذا وقع فيها الإنسان دون أن يضع قاعدة يجري عليها فإن هذا يكون من الخطأ الذي لا يكاد يسلم منه أحد، والله يغفر لهذه الأمة خطأها، وإذا كان الإنسان غير متبع للهوى فإن الله يتجاوز عنه وهو بين أجر وأجرين، لكن الخطير الأشد هو أن يجعل قاعدة فاسدة، فيقول مثلًا: كل آية توهم في ذهنه المعوج التشبيه أو التمثيل فإنها مصروفة عن ظاهرها، ويقول: الأخذ بظواهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر.
فهذا الكلام غاية في الانحراف، وهذا لا يقارن بمن أخطأ في مثال أو مثالين أو ثلاثة أو عشرة، دون أن يضع أصلًا بدعيًّا يجري عليه النصوص ويحاكمها إليه، فلا بد أن نفرق بين هذا وبين هذا، ولا نلقي الكلام جزافًا على عواهنه بحيث نجد مثالًا أو مثالين أو ثلاثة لأحد من أهل العلم وقع في شيء من التأويل فنجعله بمنزلة ذلك الذي جعل أصلًا منحرفًا يحاكم إليه النصوص، هناك فرق بين هذا وبين هذا، والله أعلم.
قوله –عليه الصلاة والسلام: ما بين المشرق والمغرب قبْلَة هذا يفيد فائدة وهي أن البعيد لا يستطيع بتوجهه أن يجزم مائة بالمائة أنه إلى عين الكعبة وبالتالي فإن الميل اليسير لا يضر بشرط أن لا يتعمد الإنسان الميل، ولذلك حتى الذين يصلون في وسط الحرم يقع منهم مثل هذا الخطأ وهو عدم التوجه مائة بالمائة إلى عين الكعبة فيكف بالذين يبعدون ألف كيلو متر أو آلاف الكيلو مترات؟!
فالمقصود أنك إذا صليت في الطريق وأنت مسافر مثلًا ووقفت متجهًا إلى القبلة فجاءك من يقول لك: هل أنت متيقن أنك متوجه إلى عين الكعبة؟ فقل له: حتى وإن وقع شيء من الميل فإنه لا يضر؛ لأن النبي ﷺ يقول: ما بين المشرق والمغرب قبلة فالميلان اليسير لا يضر.
وإذا كان السجاد في مصلى المدرسة أو مكان العمل أو غيرهما ووجد فيه ميلان إلى حد ما فالصلاة صحيحة، وكذلك لو أن قبلة مسجد ما فيها ميلان يسير فلا حاجة أن تجعل تلك قضية ومشكلة بحيث تؤدي إلى أن الناس يتحاشون الصلاة فيه بل لا بد من العمل والاستفادة من هذا الحديث: ما بين المشرق والمغرب قبلة لكن إذا أمكن التحري في هذا وضبط التوجه في الصلاة فهذا هو المطلوب والله المستعان.
قوله: إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:115]: ذكر السعة يتناسب مع قوله سبحانه: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]، والعلم أيضًا هنا في غاية المناسبة من جهة أن توجيههم من بيت المقدس إلى الكعبة ومن الكعبة إلى بيت المقدس أولًا، كل ذلك مبني على علمه المحيط بكل شيء فهو عالم ذلك ابتداءً وأن ذلك لن يدوم، وسيحولون منه إلى غيره.
وكذلك مع قوله -تبارك وتعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء [سورة البقرة:144] فالله عليم به بحاله، وما كان يتطلع إليه النبي ﷺ وعليم بكلام هؤلاء، ما قالوا وما سيقولون من جراء تحويل القبلة، فهو عليم بما يصلح خلقه لا يخفى عليه من أمرهم خافية.
يعني هذا باعتبار أن النصارى قالوا المسيح ابن الله، واليهود قالوا عزير ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله، فكل هذه الطوائف الثلاث وقعت في هذه الورطة وإن كان حينما تذكر نسبة الولد إلى الله فالمتبادر إلى ذلك طائفة من هذه الطوائف اشتهرت به وهم النصارى؛ لأن ذلك غلب عليهم، أما اليهود فإن الذين قالوا بأن عزيرًا ابن الله إنما هي طائفة من اليهود لا كل اليهود، وكذلك أيضًا الذين قالوا الملائكة بنات الله، ليسوا كل العرب أهل الإشراك وإنما هم طائفة من العرب وقعوا في مثل هذا.
قوله: على الرد على النصارى -عليهم لعائن الله- على كلام ابن كثير هي رد على الطوائف الثلاث، وعلى ما ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- فهو يرى أن هذه الآية أيضًا رد على النصارى، لأنه ذكرهم أولًا، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ [سورة البقرة:114] قال: هي في النصارى، حينما أعانوا على إخراب بيت المقدس ومنعوا اليهود من الصلاة فيه، ثم سلى المؤمنين أي آنذاك الذين مُنعوا منه بأن شرع لهم حيثما كانوا أن يتوجهوا إليه سبحانه ويعبدوه، ثم قال: وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا [سورة البقرة:116] أي النصارى -على كلام ابن جرير الطبري- فهو يرى أن هذه الآية وَقَالُواْ أن الواو عاطفة على قوله: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] عند قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] ثم ذكر بعض مخازيهم فقال: وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا [سورة البقرة:116].
وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم: إن لله ولدًا فقال تعالى: سُبْحَانَهُ [سورة البقرة:116] أي: تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوًا كبيرًا.
بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة:116] أي: ليس الأمر كما افتروا، وإنما له ملك السماوات والأرض ومن فيهن وهو المتصرف فيهم، وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء، والجميع عبيد له وملك له، فكيف يكون له ولد منهم، والولد إنما يكون متولدًا من شيئين متناسبين؟ وهو -تبارك وتعالى- ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له، فكيف يكون له ولد؟! كما قال تعالى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة الأنعام:101].
وقال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [سورة مريم:88-95]، وقال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1-4].
فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة؛ فكيف يكون له منها ولد؟!
ولهذا روى البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة عن ابن عباس -ا- عن النبي ﷺ قال: قال الله تعالى: كَذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيَّاي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدًا، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا[8] انفرد به البخاري.
وفي الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم[9].
سيأتي وجه الرد عليهم من هذه الآية، من الوجهين الذين ذكرهما الله فيها، وذلك في قوله -تبارك وتعالى: سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116]، ثم قال: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة:117].
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه أحمد (ج 4 / ص 181) وابن حبان (ج 3 / ص 229) وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن.
- أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة - باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم (345) (ج 2 / ص 176).
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت (700) (ج 1 / ص 486).
- أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب التسبيح والدعاء في السجود (4684) (ج 4 / ص 1901) ومسلم في كتاب الصلاة – باب ما يقال في الركوع والسجود (484) (ج 1 / ص 350).
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ 22-23 سورة القيامة (7001) (ج 6 / ص 2706).
- أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان - باب بدء السلام (5873) (ج 5 / ص 2299) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير (2841) (ج 4 / ص 2183).
- أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ - باب ما جاء ما بين المشرق والمغرب قبلة (342) (ج 2 / ص 171) وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب القبلة (1011) (ج 1 / ص 323) وصححه الألباني في مختصر الإرواء برقم (292).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة البقرة (4212) (ج 4 / ص 1629).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب الصبر على الأذى (5748) (ج 5 / ص2262) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب لا أحد أصبر على أذى من الله (2804) (ج 4 / ص 2160).