بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال الله تعالى: وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة البقرة:117] يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه إذا قَدَّر أمرًا وأراد كونه فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن أي: مرة واحدة فَيَكُونُ أي: فيوجد على وفق ما أراد كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يــس:82]، وقوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة النحل:40] وقال تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر:50].
ونبه بذلك أيضاً على أن خلق عيسى بكلمة كن فكان كما أمره الله، قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة آل عمران:59].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلفظة القضاء تأتي لمعان متعددة وهي في كل موضع بحسبه، فقد تختص بمعنى من المعاني في أحد المواضع دون بعض، فقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة البقرة:117] يختلف عن قوله -تبارك وتعالى- مثلاً: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ [سورة الجمعة:10].
لكن من أهل العلم كالأزهري -رحمه الله- وهو من أئمة اللغة المتقدمين يرجع هذه الاستعمالات المتنوعة جميعاً إلى أصل واحد مع تفاوت بينها في بعض المعاني في كل موضع بحسبه، فهو يرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، ولربما يعبر بعضهم بالفراغ من الشيء على وجه من الإحكام والإتقان، ولهذا فسره ابن جرير -رحمه الله- هنا بأنه إذا أحكم أمراً وحتمه، فابن جرير يرجع هذه أيضاً إلى الإحكام والفراغ من الشيء، فانقطاع الشيء وانقضاؤه وتمامه يقال له: انقضاء وقضاء، وقضاه وأشباه ذلك.
وكذلك في سورة الإسراء يقول تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [سورة الإسراء:23] قضى يمكن أن تفسر هنا بـ(أمر) ويمكن أن تفسر بـ(حكم)، وأحسن ما تفسر به "وصى"، وبعضهم يقول: أمر ووصى، ويقولون: وصى؛ لأن المذكورات في الإسراء تشتمل على أوامر ونواهٍ، فلا يحسن أن تفسر بأمر إلا على وجه من التكلف في المنهيات، ولكن الوصية تشتمل على الأمرين معاً.
وقوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ [سورة القصص:29] يعني أتمه وفرغ منه..
وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة البقرة:117] الأمر هنا هل هو بمعنى الأمر الذي هو بمعنى الطلب كما في قوله:وَأَطِيعُوا أَمْرِي [سورة طـه:90]، هل الأمر هناك كالأمر هنا، وكما في قوله -عليه الصلاة والسلام: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم[1]؟
ليس الأمر هنا كالأمر هناك؛ فالأمر يستعمل استعمالين أو يأتي لمعنيين اثنين، فهو يأتي بمعنى الطلب، تقول: الأمر للوجوب، افعل، وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [سورة البقرة:43] أمر، وليس ذلك بمقصود هنا في قوله: وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة البقرة:117] إطلاقاً.
وإنما المقصود هو المعنى الآخر وهو الشأن، كالذي في قوله: وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ[سورة التوبة:48]، وكالذي في قوله: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا [سورة هود:66] وقوله: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ [سورة القمر:50]، وكذلك قوله عن نفسه : فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة غافر:68] وهكذا قوله: فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة التوبة:24] فالأمر المذكور في كل ما سبق من الأمثلة ليس بمعنى افعل، وإنما الأمر هنا بمعنى الشأن، وَإِذَا قَضَى أَمْراً أي قضى مقضياً إذا قضى شيئاً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة البقرة:117] .
فأنت حينما تسأل وتقول: ما الأمر ولا تقصد به الطلب فإنك تقصد السؤال عن الشيء الذي حدث، أو الشيء الذي نزل بالناس مثلاً أو نحو ذلك.
وفي قوله تعالى: وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [سورة هود:97] ليس معناه وما طلب فرعون برشيد، وإنما المقصود وما شأنه برشيد، فلفظ الأمر إذن يأتي لهذا ولهذا.
والخلاصة هي أن معنى قوله تعالى: وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة البقرة:117] يعني إذا قضى شيئاً فإنه يقول له: كن فيكون، وابن كثير هنا عبر عنه بقوله: إذا قدر أمراً وأراد كونه فإنما يقول له: كن فيكون، وابن جرير يقول: إذا أحكم أمراً حتمه.
بغض النظر عن صحة هذه الرواية، وهي لا تخلو من ضعف، لكن رافع بن حريملة هو من اليهود، وعلى هذا الاعتبار إذا أخذنا بهذه الرواية وقلنا: إنها سبب النزول، فيكون المراد بقوله: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [سورة البقرة:118] هم اليهود، وعلى هذا جرى بعض أهل العلم فقالوا: المراد به اليهود.
وذهبت طائفة -ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله- إلى أن ذلك يراد به النصارى؛ لأن النصارى هم الذين يوصفون بعدم العلم، فهم أهل بالجهل وأهل الضلال.
ومما احتجوا به أنهم، قالوا: إن الآية التي قبلها في النصارى، وهي قوله تعالى: وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا [سورة البقرة:116] لكن كما عرفنا أنها ليست محمولة على النصارى بالاتفاق؛ بل منهم من قال: هي في أهل الإشراك؛ لأنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله، ومنهم من قال: في اليهود؛ لأنهم قالوا: عزير ابن الله، ومنهم من قال: إنها في النصارى، وأشهر من نسب إلى الله هذه الفرية هم النصارى، ومن أهل العلم من حملها على جميع الطوائف التي وقعت في هذا الأمر.
على كل حال ابن جرير -رحمه الله- كان يحمل الآية السابقة على النصارى، وبالتالي فهو يقول: إن هذه الآية أيضاً لا زالت تتحدث عن النصارى، وهي قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [سورة البقرة:118] ، وهذه الرواية التي سبق ذكرها تقول: إنها في اليهود، وهو ظاهر صنيع ابن كثير –رحمه الله.
ولا شك أن المشركين كما قص القرآن طلبوا من النبي ﷺ في مناسبات متعددة مثل هذا الطلب، حيث أكثروا على النبي ﷺ في طلب الآيات، ولا شك أن هؤلاء المشركين أولى من يصدق عليه عدم العلم، فهم أهل جهل، ويمكن أن تحمل الآية على كل من وقع منه ذلك؛ لأن هذا الطلب إنما يصدر عن من كان موصوفاً بقلة العلم؛ لأنه يطلب الآيات على سبيل التعنت، فهو لم يكتف بما شاهد من الآيات، بل يريد الآيات التي يقترحها هو، فهو يريد من الله أن يكلمه بشخصه أو ينزل عليه كتاباً يقرؤه كما أنزل على هذا النبي، أو أن الله يحقق من الآيات ما اقترحه هو، كأن يحول الصفا ذهباً، أو يأتي الله مع رسوله ﷺ والملائكة قبيلاً، أو أن يرقى النبي في السماء، وليس ذلك فحسب بل لا بد وأن يأتي معه بكتاب من الله يقرؤونه، إلى غير ذلك من الآيات التي اقترحوها.
في قوله: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ: الذين من قبلهم هم اليهود والنصارى، وهذا قاله بعض السلف هنا، وعلى قول ابن جرير -رحمه الله- أن الذين قالوا لولا يكلمنا الله هم النصارى، فإن المقصود بقوله كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْهم اليهود.
وقوله تعالى: وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا [سورة الإسراء:90] إلى قوله: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:93] وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا الآية [سورة الفرقان:21]، وقوله: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً [سورة المدثر:52] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به، إنما هو الكفر والمعاندة، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً [سورة النساء:153] وقال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55].
وقوله تعالى: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة البقرة:118] أي: أشبهت قُلُوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو كما قال تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ الآية [سورة الذاريات:52-53].
وقوله: قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:118] أي: قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى، لمن أيقن وصدق واتبع الرسل، وفهم ما جاؤوا به عن الله -تبارك وتعالى.
ولذلك وصفهم بأنهم لا يعلمون فقال: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:118] يعني أنه قد جاء من الآيات ما يكفي لأهل العلم واليقين أن يؤمنوا بها ويكون برهاناً دالاً على صحة ما جاء به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فيبقى أهل العناد والتعنت والجهالة يقترحون الآيات.
- أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة - باب: الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ (6858) (ج 6 / ص 2658) ومسلم في كتاب:الحج - باب: فرض الحج مرة في العمر (1337) (ج 2 / ص 975).