السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[52] من قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} الآية 124.
تاريخ النشر: ٣٠ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 3848
مرات الإستماع: 3055

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

قال الحافظ -رحمه الله- في قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124].

يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملَّة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

في قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [سورة البقرة:124] الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: واذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، و"إذ": منصوب بـ"اذكر" مقدرًاً، ولهذا مشى عليه الحافظ -رحمه الله- في التفسير.

قوله: وَإِذِ ابْتَلَىالابتلاء هو الامتحان والاختبار ويكون بالخير والشر كما هو معروف، ويطلق في الاستعمال غالبًا على الابتلاء بما يكرهه الإنسان، وسيأتي الكلام على الكلمات في قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [سورة البقرة:124].

وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي: أي أن الله امتحنه بكلمات من تكاليف الأمر والنهي، أو غير ذلك مما قيل أو قد يدخل في معناه ويرجع إليه غالبًا.

قوله: فَأَتَمَّهُنَّ أي: قام بهن على الوجه المطلوب، فكافأه الله على ذلك بقوله:إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [سورة البقرة:124].

وإبراهيم ﷺ في بعض القراءات المتواترة يُقرأ إبراهام ويقال: إن هذه اللفظة -هذا الاسم- مكون من شيئين هما: أب ورحيم، ويقولون: إن ذلك بالسريانية والله تعالى أعلم، كما يقولون في موسى: إنه مركب من كلمتين هما مو وشى والمعنى ماء وشجر، وهذا سبق ذكره في درس ماض من تفسير هذه السورة.

 
فَأَتَمَّهُنَّ أي: قام بهن كلهن كما قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [سورة النجم:37] أي: وَفَّى جميع ما شرع له فعمل به -صلوات الله عليه.

وقال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۝ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل:120-123].

وقال تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:161].

وقال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:67-68] وقوله تعالى: بِكَلِمَاتٍ أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق ويراد بها الكلمات القدرية كقوله تعالى عن مريم وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [سورة التحريم:12].

إذا قلت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، حينما تستعيذ بكلمات الله التي لا يجاوزها برٌّ ولا فاجر، فالمقصود بها الكلمات القدرية الكونية؛ لأنك تريد أن يكفيك الله شر كل ذي شر، وأن يكفيك المخاوف وإنما يكون ذلك بالكلمات القدرية الكونية.

ولو قلت: أعوذ بكلمات الله، وقصدت بها الكلمات الشرعية التي هي القرآن -كلام الله صح ذلك؛ لأنه يجوز الاستعاذة بالصفة، قل أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر، أعوذ بكلمات الله التامات، فكل هذا من الاستعاذة بالصفة.

 وتطلق ويراد بها الشرعية كقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [سورة الأنعام:115]: أي: كلماته الشرعية، وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن كان أمرًا أو نهيًا، ومن ذلك هذه الآية الكريمة: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [سورة البقرة:124] أي: قام بهن.

الكلمات في هذه الآية هي كلمات شرعية والمعنى أن الله ابتلاه بتكاليف معينة أي بشرائع من أمر ونهي، فقام بها على الوجه المطلوب، وهذا هو المشهور وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري، -رحمه الله- في هذه الآية، وقوله: فَأَتَمَّهُنَّ أي: قام بهن.

قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [سورة البقرة:124] أي: جزاء على ما فَعَل، لما قام بالأوامر وتَرَكَ الزواجر جعله الله للناس قدوة وإمامًا يقتدى به ويحتذى حذوه.

جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا الإمام هو المتقدم على غيره، والله يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [سورة السجدة: 24]، فإبراهيم ﷺ جعله الله إمامًا وكان أمة فهو رجل جامع لخصال الخير، وجامع للخصال الكاملة التي تفرقت في غيره، وصار مقدمًا يقتدي به من جاء به، ويكفي أن الله أمر نبيه ﷺ بأن يتبع ملة إبراهيم حنيفًا.

وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل فروي عن ابن عباس في ذلك روايات: فروى عبد الرزاق عن ابن عباس: ابتلاه الله بالمناسك، وكذا رواه أبو إسحاق.

الله أخبرنا أنه ابتلى إبراهيم ﷺ بكلمات، ولم يحدد شيئًا دون شيء، فهذه الكلمات هي ما ابتلاه الله به من التكاليف التي كلفه بها، فإلى هذا القدر يمكن أن نقف ونقول: كلفه بتكاليف فقام بها على الوجه المطلوب الأكمل من غير إخلال ولا نقص ولا تفريط فكافأه الله على ذلك أن جعله للناس إمامًا، دون أن نخوض في تفاصيل هذه الكلمات التي كلفه الله بها، وهذا الذي مشى عليه بعض المحققين، كابن جرير الطبري -رحمه الله.

وكلام السلف كثير في هذه الآية، وسواء قلنا: كلفه بشرائع الإسلام، أو كلفه ببعض التكاليف بالمناسك، أو بأداء الرسالة، أو بالطهارة، أو بفراق قومه في الله، حينما أمر بمفارقتهم وبمحاجة النمرود، أو بالصبر على ما وقع له من الأذى العظيم وإلقاءه في النار، والهجرة من الأوطان أو ما يتعلق بالضيافة، وخبره في ذلك مع الملائكة معروف، أو ما ابتلي به من ذبح ولده ووحيده، فكل ذلك على كل حال هو من جملة التكاليف التي كلفه الله بها، فكل ذلك داخل تحت هذا المعنى الكبير، فليس هناك دليل يوجب تخصيص بعض هذه المعاني دون بعض، وبالتالي يكفي أن نعرف هذا القدر من المعنى، فهو كلفه بتكاليف فقام بها على الوجه المطلوب، والله تعالى أعلم.

وروى عبد الرزاق -أيضًا- عن ابن عباس:وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [سورة البقرة:124] قال: ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد؛ في الرأس قَص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق والسواك وفَرْق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونَتْف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء، قال ابن أبي حاتم: ورُوِي عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، والنَّخَعي، وأبي صالح، وأبي الجلد، نحو ذلك.

وكل هذه من جملة التكاليف؟

قلت: وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة -ا- قالت: قال رسول الله ﷺ: عَشْرٌ من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البرَاجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة[1]، قال وَكِيع: انتقاص الماء، يعني: الاستنجاء.

البراجم والرواجب بعضهم يقول: البراجم العقد التي في ظاهر الكف والرواجب هي ما يقابلها من باطن الكف، وبعضهم يعكس هذا ذلك، وعلى كل حال إذا قرأت في الفقه غسل البراجم والرواجب فمعناها تعاهد هذه المسافط التي قد ينبو عنها الماء.

وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: الفطرة خمس: الختان والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط[2] ولفظه لمسلم.

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجَّته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه، وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم.

قوله: ليحرقوه في الله على هول ذلك: ليس المعنى ليحرقوه في الله على هول هذا الجزاء وإنما المقصود مع شدة ذلك.

وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء قال الله له: أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:131] على ما كان من خلاف الناس وفراقهم.

على كل حال كل هذه المعاني فيما سبق ترجع إلى شيء واحد وهو التكاليف، والأمر والنهي.

وقوله: قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] لما جعل الله إبراهيم إمامًا، سأل الله أن تكون الأئمةُ من بعده من ذريته.

قوله: وَمِن ذُرِّيَّتِي يحتمل أن يكون من قبيل السؤال والطلب والدعاء، أي أن الله أخبره أنه سيجعله إمامًا، فدعا ربه لما أخذته الشفقة وما جبل عليه من محبة الخير للذرية، فقال: وَمِن ذُرِّيَّتِي أي اجعل أئمة سواء قيل:إن "من" بيانية أو قيل: إنها تبعيضية كما هو الخلاف في قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [سورة آل عمران:104]، فهذه تحتمل أيضًا أن تكون بيانية وأن تكون تبعيضية، فحينما يقول الرجل لأبنائه مثلا: أريد منكم أبناء بررة، فـ"من" هنا بيانية؛ لأنه لا يريد أن يكون بعض هؤلاء الأبناء بررة والباقين عققة، لكن لما تقول: أريد منكم رجلين يذهبان إلى مكان كذا وكذا، فـ"من" هنا تكون تبعيضية، والمقصود هنا أن قوله: وَمِن ذُرِّيَّتِييحتمل أن تكون "من" بيانية يعني اجعل ذريتي أئمة، وتحتمل أن تكون تبعيضية، أي اجعل بعضهم أئمة.

فيحتمل أن يكون هذا طلبًا، ويحتمل أن يكون على سبيل الاستفهام لما أخبره أنه سيجعله للناس إمامًا سأل عن الذرية ما شأنهم، هل ستكون لهم الإمامة أو لا؟ فأجابه بأن ذلك لا ينال الظالمين منهم، والأقرب أن ذلك على سبيل الطلب، فهو طلب ربه -تبارك وتعالى- أن يجعل من ذريته أئمة كذلك.

قوله: وَمِن ذُرِّيَّتِي الذرية يمكن أن تكون مأخوذة من الذر كما في الحديث المفسر لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [سورة الأعراف:172] وأنه مسح على ظهر آدم فاستخرج ذريته أمثال الذر.

ويحتمل أن تكون مأخوذةً من: ذرأ، يقال: ذرأ الله الخلق، وقال تعالى: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ [سورة النحل:13]، ويحتمل غير ذلك باعتبار أن اللهً ذرأهم على الأرض كما يذرأ الزارع الحب، والله أعلم.

لما جعل الله إبراهيم إمامًا سأل اللهَ أن تكون الأئمةُ من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك، وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون وأنه لا ينالهم عهد الله ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب إلى طَلِبَتِهِ قول الله تعالى في سورة العنكبوت: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [سورة العنكبوت:27] فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه.

وأما قوله تعالى: قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] فيخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده، ولا ينبغي أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله.

قوله تعالى: قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] العهد المقصود به عهده بالإمامة، أي: لا ينال عهدي بالإمامة المذكورة في قوله: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي [سورة البقرة:124] أي الإمامة المشار إليها.

وبعضهم يقول: هي النبوة، وعلى كل حال فالنبوة داخلة في الإمامة؛ لأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أئمة يقتدى بهم.

وبعضهم يقول: لاَ يَنَالُ عَهْدِي أي: الخلاص والنجاة من عذاب الآخرة، لكن هذا المعنى لم يجر له ذكر ولا يوجد ما يدل عليه، فهو لم يسأل ربه الخلاص لذريته والنجاة، فقال: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أي ليس لهم عندي عهد بذلك.

وقول من قال: إن المقصود بالعهد هنا دين الله فهذا أيضًا لا يخلو من بُعد، بل بعضهم يذكر معنى أبعد من هذا كله فيقول: أي: لا عهد عليك لظالم فتطيعه، وإنما الأقرب -والله أعلم- أي: لا ينال الإمامة التي أخبر -تبارك وتعالى- عنها أنها كائنة لإبراهيم ﷺ ومن ثَمَّ دعا ربه أن يرزقه ذلك.

وسيأتي حينما أخبر الله عنه أنه دعا لمكة: رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [سورة البقرة:126] أنه قيد ذلك بقوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] فهو خص الدعاء بأهل الإيمان بالله وباليوم الآخر تأدبًا؛ وذلك أنه لما سأل الإمامة لذريته في الأول فأخبره الله أن ذلك لا يحصل للظالمين ظن أن الدعاء بالرزق أيضًا إنما يختص بأهل الإيمان، فقال: مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] وهذا من أدب الأنبياء مع الله ، فهو ظن أن ذلك لا يصح أن يكون لأهل الكفر فبين الله له الفرق بين الرزق والإمامة وأن الإمامة تختلف، فقال: وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [سورة البقرة:126] فالدنيا تعطى للمؤمن والكافر، والرزق لا يختص بأهل الإيمان فهو شأن يختلف عن الإمامة. 

ولذلك فالإمامة في قوله -تبارك وتعالى: وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] ليس المقصود بها تحصيل الرئاسة والملك؛ فهذا يقع لأهل الخير والفضل ويقع للظالمين ولأهل الكفر، وإنما المقصود أن يكون إمامًا يقتدى به في خصال الخير، ويقدم على غيره في الطاعة والصلاح والهدى، كما في قوله -تبارك وتعالى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [سورة الفرقان: 74]، والله تعالى أعلم.

واختار ابن جرير أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالمًا، ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه.

وقال ابن خويز منداد المالكي: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكمًا ولا مفتيًا ولا شاهدًا ولا راويًا.

يعني يؤخذ منها ويفهم منها أن الظالم لا يصلح أن يقدم في الناس، ولكن ذلك ليس من الأمر القدري بحيث إن الله قضى ذلك وحكم به وقدره بحيث إنه لا يحصل للظالمين، وإنما هو أمر يفهم من هذه الآية، وهو أنه إذا كانت الإمامة في الدين لا تصلح للظالمين فكذلك أيضًا كل وجه يقدم به أهل الظلم والفجور والكفر ينبغي أن يمنع.

لكن الآية هي خبر كما هو ظاهر، فيُفْهَم منها هذا المعنى ضمنًا، وخاصة أنه لم يرد هذا الخبر لتقرير هذه المعاني ابتداء وما سيق لذلك، وإنما لما قال الله: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] فهم أن هذه الإمامة في ذرية إبراهيم ﷺ كما قال وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ [سورة الصافات:113] والله تعالى أعلم. 

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب خصال الفطرة (261) (ج 1/ ص 223).
  2. أخرجه البخاري في  كتاب اللباس - باب تقليم الأظافر (5552) (ج 5/ص 2209) ومسلم في كتاب الطهارة - باب خصال الفطرة (257) (ج 1/ ص 221).

مواد ذات صلة