بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى: وقوله: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] أي: أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه ويبعث على ما مات عليه، وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفّق له ويسر عليه، ومن نوى صالحًا ثبت عليه.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية هو جواب لسؤال مقدر؛ إذ أن إبراهيم في هذه الوصية يقول موصياً أبناءه: فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] فلقائل أن يقول: وهل يملك الإنسان أن يحدد الأمر الذي يموت عليه مع أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء؟ وهل المقصود أن يموت الإنسان على الإسلام فحسب أم أن المقصود أن يسلك سبيل الله وصراطه المستقيم وأن يلزمه إلى الممات؟
قال ابن كثير جواباً لهذا: المراد بقوله: فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] أي أحسنوا واستقيموا وسيروا سيراً صحيحاً لا معوجاً حتى يختم لكم بخاتمة طيبة صالحة وهي الموت على الإسلام، فالإنسان يموت عادة على ما كان عليه.
يعني أن ذلك فيما يبدو للناس كما جاء في بعض الروايات كما في حديث الرجل الذي جاهد مع رسول الله ﷺ فأصيب بجراحة شديدة، وقد أثنى عليه من أثنى عليه من الناس، وأنه لم يبلِ أحد بلاء كبلائه، فقال النبي ﷺ: إنه من أهل النار حتى تبعه رجل فنظر فلما أصيب بتلك الجراحة كأنه استعجل الموت أو جزع فوضع ذباب السيف بين ثدييه ثم تحامل عليه حتى قتل نفسه.[2]
فمثل هؤلاء لم يكن عملهم على استقامة وإن كان فيما يبدو أنهم على استقامة، وذلك أنه حينما يخبر الرجل عند موته أنه كان يقاتل حمية لقومه فإن هذا ليس من العمل الصالح.
لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس[3]، وقد قال الله تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:5-10].
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:132-134].
يقول تعالى محتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل وعلى الكفار من بني إسرائيل -وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام.
قوله تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء: "أم" في الآية يُحتمل أن تكون منقطعة بمعنى "بل" ويُحتمل أن تكون متصلة بما قبلها، والمقصود أن الله ينكر عليهم هذه الدعاوى الباطلة والكذب على الله وعلى أنبيائه كإبراهيم وإسحاق ويعقوب –عليهم الصلاة والسلام- من أنهم كانوا يهوداً أو نصارى، فهو يكذبهم بذلك ويذكر أقاويل هؤلاء الأنبياء ويبين حالهم وأنهم كانوا على الإسلام ولم يكونوا يهوداً ولا نصارى.
ونجد في كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله: يقول تعالى محتجاً على المشركين من العرب أبناء إسماعيل وعلى الكفار من بني إسرائيل، نجد أنه عمَّمها في أهل الكتاب والمشركين، وأما ابن جرير -رحمه الله- فهو على عادته في هذه الآيات من أولها -من ذكر خلق آدم ﷺ إلى هذه الآيات جميعاً- يرى أن الخطاب متوجه إلى اليهود والنصارى، ومنها ما يتعلق باليهود، ومنها ما يتعلق بالنصارى.
فهو يرى أن هذه الآية رد على النصارى الذين ادعوا أن إبراهيم ﷺ أو يعقوب -عليه الصلاة والسلام- كان يهودياً، فهو لا يزال يرد عليهم هذه الدعوة الكاذبة، وعلى كل حال فالسياق كله في بني إسرائيل.
قوله: وهذا من باب التغليب: أي أنه عدَّد الآباء الذين تناسل منهم، والعمُّ ليس من نسله، بمعنى أن إسماعيل ﷺ ليس جداً ليعقوب ﷺ فذكره من جملة آبائه.
قال ابن كثير: وهذا من باب التغليب: وهذا الذي ذكره وجه، وهو أنه عدَّد الآباء وذكر معهم العمَّ من باب التغليب، فإذا كان الجم الغفير الأكثر يصدق عليهم الوصف فإن ذلك لا يؤثر إذا دخل فيهم من ليس متصفاً بذلك، إذا قيل: إن هذا من باب التغليب.
والوجه الآخر في الجواب –وربما كان هو الأحسن- أن العم يقال له: أب، فهو يوصف بذلك وهذه الآية تشهد لهذا حيث قال يعقوب لبنيه: مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [سورة البقرة:133] فهم ذكروا عمهم إسماعيل ﷺ فهو أب له.
ومن المعلوم أن جماعة من المفسرين يقولون في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [سورة الأنعام: 74] إن المقصود بأبيه في الآية هو عمه وليس بأبيه الذي هو من صلبه، وهذا الكلام مردود، وسيأتي الكلام عليه -إن شاء الله- في سورة الأنعام، وإن كان مما احتجوا به لهذا القول أنهم قالوا: إن عادة العرب أنهم إذا ذكروا الأب لا يذكرون معه اسمه، فإن أرادوا به العم أو غيره ممن لم يتناسل منه فإن المراد بذلك يكون غير الأب الذي كان له به ارتباط ولادة، بمعنى أنه لو كان آزر أباً لإبراهيم لقال: إذ قال إبراهيم لأبيه يا أبت كذا وكذا، وعلى كل حال هذا كلام مردود فهو ضعيف وليس صحيحاً.
قوله: من جعل الجد أبًا وحجب به الأُخوة: هذه المسألة في الفرائض وذلك في حال عدم وجود الأب، وإلا فإن الأب يحجب الجد قطعاً بلا إشكال.
وأصل المسألة أنه في حال عدم وجود الأب الذي يحجب الأخوة حيث يرث السدس والباقي تعصيباً، فهل الجد ينـزل منزلة الأب في ذلك فيرث السدس والباقي تعصيباً -بمعنى أن الجد يقوم مقامه- أم أنه يرث مع الأخوة فلا يكون حاجباً لهم؟ والخلاصة أنه هذه مسألة معروفة مختلف فيها منذ عهد أصحاب النبي ﷺ.
وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه: إنه يقاسم الإخوة؛ وحكي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت – أجمعين- وجماعة من السلف والخلف.
مسائل الفرائض الخلافية قليلة معدودة، ومن أشهرها مسألة الجد والأخوة.
يعني أنهم لا ينازعون الله في أحكامه الشرعية ولا القدرية، فهم منقادون لأحكام الله ، مستسلمون لأقداره ومستسلمون لشرائعه وأحكامه ودينه، وهذه هي حقيقة الإسلام، فهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله.
يعني أن الذين أشركوا بالله وادعوا له الولد من اليهود والنصارى هؤلاء ليسوا على دين أحد من الأنبياء وإنما هم ضلال على الكفر والشرك، وهم حطب جهنم، ومن شك في ذلك فهو معهم وفي حكمهم، ولا يجوز لأحد أن يدعي أن هؤلاء على الإيمان، وأنه لا يكفرهم وأنهم لا يستحقون هذه الأوصاف، بل هم مستحقون لها وأهلها، وهم فداء لأهل الإسلام وفكاك لهم من النار؛ كما قال النبي ﷺ: إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكك من النار[5].
لما ذكر الله تعالى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب -عليهم الصلاة والسلام- قال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [سورة البقرة:134].
والأمة من معانيها الجماعة، فهؤلاء الأنبياء الذين عدّدهم يقول: إن هؤلاء قد مضوا بأعمالهم وآمالهم وأفضوا إلى الله وعنده يلقون جزاءهم، وأما أنتم فليس لكم إلا العمل الصالح الذي يرضي وجهه -تبارك وتعالى- فتقربوا إليه بالتوحيد والانقياد والاستقامة على دينه الذي شرعه، واعلموا أنه لا ينفعكم التكثر بهؤلاء الأنبياء والدعاوى الباطلة أنهم كانوا على دينكم، فإن كنتم تريدون ما عند الله فكونوا على ما كانوا عليه.
أما الدعاوى الفارغة فإنها لا تنفع أصحابها، والمتكثر بالصالحين والأخيار وأنه من نسلهم وأنه على دينهم ومنهاجهم وشريعتهم، وهو أبعد ما يكون عنهم، بعقائدهم وأعمالهم وأخلاقهم فإن هذا لا يغني عنه من الله شيئاً، وهذا أصل كبير يحتاج الإنسان إلى معرفته والعمل بمقتضاه، فالآخرة دار لا تصلح للمفاليس.
يقول تعالى: وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:134]، يعني لهم أعمالهم، والله هو الذي يتولى عباده ويجازيهم على ذلك، فدعوا عنكم هذه المنازعة والتكثر بهؤلاء وأنتم تتخبطون وتتمرغون في أودية الشرك والضلال.
قوله: وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أي: يهوداً، من هاد يهود إذا رجع -وسبق الكلام على هذا- وبعضهم يقول: إن ذلك نسبة إلى جدٍ، وبعضهم يقول: إن هذا مأخوذ من المعنى الذي في قوله:هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف: 156]، أي: رجعنا إليك، ومن ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ هَادُواْ [سورة البقرة:62] أي اليهود وسموا بذلك؛ لأنهم تابوا تلك التوبة العظيمة المعروفة في التاريخ، وذلك أنهم لما عبدوا العجل أمرهم الله أن يقتلوا أنفسهم، وقد سبق الكلام على هذا المعنى.
قوله: وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:135] ومثل هذا "أو" تكون فيه للتقسيم، بمعنى أن اليهود قالت: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى؛ وقلنا للتقسيم لأن اليهودي لا يعتقد أنه يكون مهتدياً إذا كان على دين النصارى، وكذلك العكس، فاليهود والنصارى يكفر بعضهم بعضاً، فكل طائفة زعمت أن الهدى من جهتها وفي ناحيتها، فهذا هو تفسير قوله: وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:135] .
قال: بل نتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [سورة البقرة:135] :هذا الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- بناء على أن ملة هنا جاءت منصوبة بفعل مقدر محذوف هو "نتبع" فتكون ملةَ مفعولاً به لفعل مقدر محذوف.
وبعضهم يقول: إن هذا نصب على الإغراء، فهو يغريهم بلزومها واتباعها ويحثهم على ذلك؛ وكأنه يقول: بل الزموا ملة إبراهيم، أو عليكم ملة إبراهيم، أو نحو ذلك مما يغريهم به -والله أعلم- كما أنها تحتمل غير هذا نحو: بل نكون أصحاب ملة إبراهيم، أو أتباع ملة إبراهيم ﷺ.
وهذا الذي اختاره ابن جرير حيث فسر الحنيف بالمستقيم، وقالوا: إن الحنيف هو المستقيم من كل شيء.
وبعض أهل العلم يقولون: أصل كلمة الحنف في اللغة الميل، ويقولون: قيل لإبراهيم ﷺ أو من كان على منهاجه إنه حنيف؛ لأنه مائل عن كل دين سوى الإسلام، فهو مائل عن الشرك، يعني مجانب له ومتجافٍ عنه، وما أشبه ذلك، والحاصل أن مثل ابن جرير الطبري -رحمه الله- يقول: حنيفاً أي مستقيماً، وعلى كل حال إذا كان مائلاً عن الشرك فهو مستقيم.
ولا شك أن الحنَف عند العرب يطلق على الميل، ومنه قول أم الأحنف بن قيس يوم كان صغيراً عندما كانت ترقصه وتقول:
والله لولا حنف في رجله | ما كان في فتيانكم من مثله |
فابنها هذا كان فيه ميل في الساقين بحيث كأن إحداهما تميل إلى الأخرى وتقترب منها، فهذا هو الحنف.
ومن فسر الحنف بالاستقامة فيمكن أن يوجه ذلك مع قول من قال بأنه الميل من جهة أن المائل عن كل دين إلى الإسلام هو مستقيم؛ فالصراط المستقيم هو خلاف السبل المعوجة التي منها اليهودية والنصرانية وغير ذلك.
حنيفًا أي: متبعًا الحق والهدى الذي ارتضاه الله لعباده، ولا منافاة بين هذا المعنى والمعنى السابق.
كل هذه الأقوال صحيحة ولا منافاة بينها ولا تحتاج إلى ترجيح، وهذا الخلاف هو الذي يسمونه خلاف التنوع، ومن المعلوم أنه لا يكون مستقيماً إلا من آمن بجميع الرسل، أما الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض فهؤلاء ليسوا على استقامة، والله أعلم.
- أخرجه البخاري بهذا اللفظ في كتاب القدر – باب في القدر (6221) (ج 6 / ص 2433).
- البخاري في كتاب المغازي - باب غزوة خيبر (3966) (ج 4 / ص 1539) ومسلم في كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (112) (ج 1 / ص 106).
- سبق تخريجه آنفاً.
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء – باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3259) (ج 3 / ص 1270) ومسلم في كتاب الفضائل - باب فضائل عيسى (2365) (ج 4 / ص 1837)، إلا أن لفظهما: الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد.
- أخرجه مسلم في كتاب التوبة – باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (2767) (ج 4 / ص 2119).
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (2699) (ج 4 / ص 2074).