بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير الأسباط: وقال الخليل بن أحمد وغيره: الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل؛ وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل وما أنزل الله تعالى من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم كما قال موسى لهم: اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا الآية [سورة المائدة:20]، وقال تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا [سورة الأعراف:160] قال القرطبي: والسبط: الجماعة والقبيلة، الراجعون إلى أصل واحد.
وقال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقُوا بكتبه كلّها وبرسله.
وقال سليمان بن حبيب: إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل ولا نعمل بما فيهما.
فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ [سورة البقرة:137-138].
يقول تعالى: فَإِنْ آمَنُواْ يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ أيها المؤمنون من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم فَقَدِ اهْتَدَواْ أي: فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ من المراد بذلك؟ هل للقرآن مثلٌ، أو هل لإيمانهم مثل سواء كان بالقرآن أو بجميع الرسل وبجميع الكتب، وكذلك الإيمان الصحيح بالله هل له مثلٌ؟
هذا السؤال يجيب عنه العلماء بأجوبة متعددة، فبعضهم يقول: إن لفظة "مثل" صلة، وقولهم هذا من باب التأدب في العبارة وإلا فإن هذه اللفظة إذا قالوها فإنهم يقصدون بها أنها زائدة من جهة الإعراب، وهذا القول موجود في قوله -تبارك وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [سورة الشورى:11] ومعلوم أن الله ليس له مثل، لكن فمن الأجوبة التي تقال هناك: إن لفظة "مثل" صلة أي زائدة، ومعلوم أن القرآن ليس فيه زيادة، وأن ذلك القول لا يليق وليس من التأدب مع كلام الله .
وقد تكلم على دعوى الزيادة في شيء من ألفاظ القرآن جماعة من أهل العلم لكن ليس المقصود أنها مقحمة في القرآن بحيث يقال: إنه جاء بها أحد آخر وإنما يقصدون أنها لا محل لها من الإعراب، والكلام على مثل هذا ذكره الزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه في موضعين حيث يقول: لا زيادة في القرآن، وذكره غيره أيضاً، ويقصدون إعراباً كما ذكرنا، ومعلوم أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، وهؤلاء حينما يقولون: هذه زائدة وفي الوقت الذي قد لا يذكر فيهم بعضهم لها معنى جديداً يقولون: إنها تفيد التأكيد ونحو ذلك، وهذا أحد الأجوبة على لفظة "مثل" في القرآن.
من لم ينح هذا النحو -يعني من لم يقل: إنها صلة- تفرقت أقاويلهم، فمنهم من قال: معلوم أنه ليس له مثل ولكنه قال لهم ذلك تبكيتاً لهم، فهؤلاء الذين كفروا وفرقوا بين رسل الله وبين كتبه يقول لهم: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ [سورة البقرة:137] أي فليبحثوا عن إيمان صحيح يوازي هذا الإيمان المقبول عند الله والهدى الذي أنتم عليه فيكون المراد بذلك التبكيت.
ويمكن أن يكون المراد بقوله: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ يعني أنتم آمنتم بكتب الله من غير تحريف، فإن آمنوا بها على وجهها كما جاءت عن الله فقد اهتدوا.
ووجه آخر -ولعله من أحسنها وأجودها- وهو: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ أي إن آمنوا بمثل ما صرتم به مؤمنين ومهتدين فقد اهتدوا، والذي آمنتم به أنتم هو الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر من غير تحريف لهذه الكتب ومن غير تفريق بين الله ورسله ومن غير تفريق بين الكتب، فإن سلكوا مثل مسلككم فقد صاروا على هدى واستقامة.
وهذا مثال يمكن أن نمثل به على قضية وهي أن التنقير والتشقيق لربما يورث الإشكالات، فأنت حينما كنت تسمع هذه الآية من قبل فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ فالمعنى المتبادر إلى ذهنك هو أنهم إن سلكوا الطريق الصحيح في الإيمان بأن آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله فقد صاروا على هدى، هذا الذي يتبادر إلى الذهن، وبالتالي قد لا يرد في ذهنك أصلاً مثل هذا السؤال والإشكال إلا إذا جلس الإنسان يفحص الحروف والألفاظ ويقلبها على وجوه الاحتمال.
القول الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- كأنه جرى فيه على القول الأخير، أي فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به من الإيمان بجميع كتب الله ورسله وبما صرتم به على الإيمان فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه، وإن تولوا أي عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم من التولي وهو الإعراض فإنما هم في شقاق، تقول: تولى فلان إذا أعرض، وقوله: فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [سورة الأنفال:15] أي: لا تديروا الظهر منهزمين معرضين عن مواجهة عدوكم وفراراً عن أرض المعركة.
قوله: فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ [سورة البقرة:137]: لم يذكر هنا معنى الشقاق، وعلى كل حال فإن الشقاق مأخوذ من الشق وهو الجانب، فجانب الشيء شقه، والمشاقة والشقاق معناه كأن هذا قد صار في شق والآخر صار في الشق الآخر، ومثله العداوة كأن هذا في عدوة وهذا في عدوة، والعدوة هي جانب الوادي كما في قوله تعالى: إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى [سورة الأنفال:42].
وهذا المعنى إذا فسروه فإنهم يولدون منه إشكالات أيضاً لسنا بحاجة إليها؛ لأنها متكلفة، وهي إنما تدور في أذهان أهل الكلام من أهل التكلف والتعمق والخوض الباطل الذي يورث الشبهات، أما معنى الشقاق في كلام العرب فهو أن يكون هذا في شق وهذا في شق بحيث تكون بينهما مباينة ومفارقة ومفاصلة وكل واحد منهم في حال وعلى اعتقاد وعمل مباين للآخر، ومثل ذلك معنى المحادَّة فهذا في حد وذاك في حد.
وبعضهم يقول: إن هذا مأخوذ من فعل ما يشق والمعنى أن كل واحد من هؤلاء المختلفَين يتطلع ويبذل وسعه في الوصول إلى ما يشق به على الطرف الآخر، فهو يهيئ الأسباب التي يحصل بها المكروهِ للطرف الآخر ويسعى لعداوته ومخالفته ونحو ذلك، وهذا المعنى فيه بُعد؛ فالشقاق هو المخالفة والمباينة والمفارقة، أي أنهم ليسوا على دينكم ومسلككم والهدى الذي أنتم عليه بل هم مباينون لكم ومخالفون لكم ومفارقون للحق الذي أنتم عليه.
هذا ذكره ابن كثير -رحمه الله- من قبيل الاستطراد، وأقول من قبيل الاستطراد لأنه لا يتوقف فهم المعنى عليه، وإنما هي لطيفة من اللطائف التي تذكر في التفسير؛ إذ أنها ليست من معاني القرآن، وليست من صلب التفسير، إنما هي من اللطائف والملح التي تذكر، ويزعمون إلى الآن أن المصحف الموجود في المتحف في تركيا أنه مصحف عثمان وأن الدم موجود عليه، وعلى كل حال هذه من الموافقات التي قد تقع للإنسان أحياناً في يومه وليلته، فأحياناً يقول الإنسان شيئاً ويسمع القارئ في المذياع يقرأ نفس الآية التي توافق نطقه، أو يقرأ نفس الآية التي لربما تتعلق بما كان يهم به أو تكلم به أو نحو ذلك فهذه موافقات قد تقع.
جاء عن بعض السلف مثل قتادة ما يوضح هذا المعنى حيث قال –رحمه الله- إن اليهود يصبغون أبناءهم باليهودية، والنصارى يصبغون أبنائهم بالنصرانية، وإن صبغة الله الإسلام، ولا صبغة أحسن من صبغة الإسلام ولا أطهر، وهو دين الله الذي بعث به نوحاً ومن بعده من الأنبياء، فهذه الرواية عن قتادة هي من أوضح ما يفسر به قوله تعالى: صِبْغَةَ اللّهِ [سورة البقرة:138]، وأقوال السلف فيها كثيرة جداً وبعضها يرجع إلى معنى واحد، ومن تلك الأقوال ما يتفرع عن هذا القول حيث يذكرون بعض الأمور والقضايا التي هي فرع عن الإسلام وقد تكون شعاراً لأهله، لكن قول قتادة هو أشمل ويدخل فيه عامة أو سائر الأقوال فهو من أوضحها.
وبعض أهل العلم يعبرون بعبارة أخرى ليست مخالفة لهذا القول في واقع الأمر، فهم يقولون: إن النصارى مثلاً يغمسون أبناءهم وهم صغار في ماء ويسمون ذلك بالمعمودية وكأنهم بهذا يصبغون أولادهم فيصيرون نصارى بهذا الاعتبار، فالله يقول: إن صبغته التي ارتضاها لخلقه هي الإسلام، ويلاحظ أن القول بأنهم يصبغون أولادهم بهذا التعميد يمكن أن يرجع إلى القول السابق الذي قاله قتادة وهو أن صبغة الله هي الإسلام لا ما تصبغون به أولادكم بجعلهم يهوداً أو نصارى أو بهذا التعميد الذي تعتقدون أن الولد يكون به نصرانياً، وبعضهم يقول: إن المراد بصبغة الله هنا الختان فكما أن النصارى يصبغون أبناءهم بهذا التعميد فإن الذي جاء به إبراهيم ﷺ هو الختان.
وعلى كل حال فالنصارى لما كانوا يصبغون الأولاد بالماء بعضهم قال: إن صبغة الله هي الغسل الذي يكون بين يدي الدخول في الإسلام، والكلام في هذه المسألة معروف حيث إن النبي ﷺ أمر بعضهم بالاغتسال ولم ينقل أنه أمر آخرين فالعلماء مختلفون في هذا الاغتسال هل هو واجب أو غير واجب.
وبعضهم يعبر بعبارة أخرى يقول: صِبْغَةَ اللّهِ [سورة البقرة:138] أي تطهير الله، وهذا القول لا ينافي القول بأنه الإسلام؛ لأن الإسلام هو أعظم تطهير يحصل للإنسان، كنا أنه لا ينافي قول من قال بأنه الاغتسال بين يدي الدخول في الإسلام؛ لأن هذا تطهير، وكذلك لا ينافي قول من قال بأنه الختان ولا زال الناس يسمون الختان إلى اليوم تطهيراً، فعلى كل حال الإسلام تطهير والاغتسال تطهير والختان تطهير، وقصدي من هذا أن ندرك كيف نربط بين الأقوال وكيف نوجهها ونرجع بعضها إلى بعض من غير حاجة إلى تكلفات في الترجيح أو نحو ذلك.
وعلى كلٍ فأشمل هذه الأقوال أن صبغة الله هي الإسلام بكل ما فيه من عقائد وأحكام، فهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، ويدخل في ذلك الغسل من الجنابة والاغتسال عند الدخول في الإسلام، ويدخل فيه أيضاً الختان، والله أعلم.
قال ابن كثير: قال الضحاك عن ابن عباس: دين الله: يعني الإسلام، هذا لا يخالف القول السابق، فدين الله هو الإسلام.
ثم قال: وكذا روي عن مجاهد، وأبي العالية وإبراهيم والحسن وقتادة والضحاك وعبد الله بن كثير وعطية العوفي والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك.
قوله: ومعنى: فِطْرَةَ اللَّهِ [سورة الروم:30]: السياق المناسب أن يقال: إن قوله تعالى: صِبْغَةَ اللّهِ [سورة البقرة:138] هي كقوله سبحانه: فِطْرَةَ اللَّهِ [سورة الروم:30] فهذا مثال على تفسير الآية بنظيرتها التي قد تكون أوضح منها حيث يتبادر منها المعنى ويفهم، وخاصة أن بعض السلف مثل مجاهد يفسر قوله تعالى: صِبْغَةَ اللّهِ بفطرة الله فيقول: صِبْغَةَ اللّهِ أي فطرة الله، وإلا فإن قوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ [سورة الروم:30] ليست من ضمن آية البقرة فليُتنبه لذاك.
وإنما قصد ابن كثير -رحمه الله- بيان وجه النصب في قوله: صِبْغَةَ اللّهِ على أنه يمكن أن يكون على الإغراء بمعنى اتبعوا أو الزموا صبغة الله، فهو يغريهم بلزومها واتباعها، ويمكن أن تكون بدلاً من ملة إبراهيم ﷺ فتكون بهذا الاعتبار بدلاً من قوله: بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [سورة البقرة:135]، فملة إبراهيم هي صبغة الله، والله أعلم.
قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:139-141].
يقول الله تعالى مرشداً نبيه -صلوات الله وسلامه عليه- إلى درء مجادلة المشركين: قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ أي: تناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد واتباع أوامره وترك زواجره.
قوله: قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ: يعني يعلمهم كيف يدرؤون ويدفعون مجادلة المشركين، والمشركون هنا ينبغي أن يدخل فيهم دخولاً أولياً اليهود والنصارى، وأخص من يدخل في ذلك اليهود، فالسياق إنما هو فيهم، فلا يتوجه هذا إلى المشركين من العرب مثلاً دون اليهود والنصارى خاصة وأن الآيات إنما تتحدث عن اليهود والنصارى، فهذا من دلالة السياق، ولا شك أنهم داخلون في هذا.
قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ: يقول: أي أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد واتباع أوامره...
والمحاجة في الله تحتمل أن يكون على ما ذكره الحافظ ابن كثير، أي: تخاصموننا في توحيده وفي دينه، وتقولون بأنكم على الهدى وأن الحق هو ما أنتم عليه، كما أنها تحتمل أن تكون بمعنى أتحاجوننا في القرب منه، حيث تدَّعون القرب منه والزلفى عنده؛ وذلك أنهم يقولون: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18] ويقولون: لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111]، فهم يقولون: نحن أبناء الله ونحن أحباء الله ونحن أقرب إلى الله منكم وأحظى عنده منكم، والجنة إنما خلقت لنا، وأما أنتم فبعداء عن الله، وأنتم أهل سخطه وعذابه، ولا زالوا يرددون هذا الكلام إلى اليوم، ونسمع ما ينشر هنا وهناك من نسبة المسلمين إلى الضلال والكفر وأن النار خلقت لهم، وأنهم هم الأشرار والشياطين، وغير ذلك.
والمقصود أن هذا قول وهذا قول، لا نحتاج أن نرجح بين القولين وإنما يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: وقد قال بهذا جمع من أهل العلم؛ لأننا إذا تأملنا كلامهم رأينا أن ذلك المعنى داخل فيه.
فيمكن الجمع بين القولين بأن نقول: أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ، أي في دينه وتوحيده والإيمان به وتزعمون أنكم على الحق والصواب والجادة، وأنكم أقرب إلى الله منا ولكم عنده الحظوة والزلفى، فهذا وجه محاجتهم، والله أعلم.
أي أنه يقول لهم: أتحاجوننا في الله، وفي دينه وتوحيده وفي القرب منه، وتقولون: أنتم أقرب إليه إلينا، فالله ربنا وربكم، هو الذي خلقنا، وهو الذي يتصرف فينا وفيكم جميعاً، ويتولانا جميعاً، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فالأمر لا يكون على أهوائكم ودعاواكم الباطلة حيث تقولون على الله بلا علم، بل الله رب الجميع وسيتولى عباده في الثواب والعقاب ويتصرف فيهم كيف يشاء، وليس لأحد أن يحكم على الله بأهوائه وأمانيه ودعاواه الكاذبة.
وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [سورة البقرة:139] أي: نحن برآء منكم ومما تعبدون، وأنتم بُرَآء منا، كما قال في الآية الأخرى: وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ [سورة يونس:41]، وقال تعالى: فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [سورة آل عمران:20] إلى آخر الآية، وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم : وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ [سورة الأنعام:80] إلى آخر الآية، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ [سورة البقرة:258] الآية.
وقال في هذه الآية الكريمة: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [سورة البقرة:139] أي: نحن برآء منكم كما أنتم برآء منا، ونحن له مخلصون أي: في العبادة والتوجه.
أي أن مقتضى ذلك أننا أقرب إلى الله منكم؛ لأن الإخلاص هو المعيار الذي يعرف به المحق من المبطل، ويعرف به أهل القرب من الله والحظوة عنده، فهو يقول: أنتم تحاجوننا في الله وفي دينه وفي القرب منه والله رب الجميع وبيده الثواب والعقاب، وهو المتصرف التصرف المطلق في خلقه، فنحن مختلفون إذ أنتم على دين ونحن على دين، فلسنا منكم في شيء ولستم منا في شيء، ونحن على الإخلاص وأنتم على خلافه، وهكذا كأنه علمهم كيف يردون على هؤلاء بحيث يقولون: نحن على العمل والاعتقاد الذي تنال به الزلفى عند الله ، وهكذا في مواضع في القرآن يعلم الله أهل الإيمان وجه المحاجة والرد على المشركين، وكذلك كان يعلم الله نبيه ﷺ كيف يرد عليهم.
قوله: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ.. الآية [سورة البقرة:140] على هذه القراءة تكون معادلة للهمزة في قوله: قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ يعني أي هذين الأمرين تفعلون أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم، أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا على دينكم؟ أي الأمرين واقع منكم؟
وعلى القراءة الأخرى المتواترة: (أم يقولون إن إبراهيم..) الآية تكون أم منقطعة بمعنى بل، أي بل تقولون إن الأنبياء المذكورين كانوا على دينكم، وعلى القراءتين هو ينكر عليهم هذا وهذا، إذ كله على سبيل الإنكار.
وقد أخبر أنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى كما قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الآية [سورة آل عمران:67] والتي بعدها.
وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ [سورة البقرة:140] قال الحسن البصري: كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي آتاهم: إن الدين الإسلامُ، وإن محمداً رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهِدوا لله بذلك، وأقروا على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك.
قوله: كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي آتاهم: إن الدين الإسلامُ، وإن محمداً رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهِدوا لله بذلك، وأقروا على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك: هذه هي الشهادة، ولا حاجة للتكلف في تفسير هذه الآية.
قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ [سورة البقرة:140] من هنا مضمنة معنى النفي، يعني لا أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، وقد سبق الكلام على هذا المعنى عند قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.. [سورة البقرة:114]، وذكرنا الإشكال أو السؤال الذي قد يرد والجواب عنه وهو أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي بل تمنع الزيادة، ولهذا لا إشكال أنه في موضع يقول: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وفي مواضع يقول: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وكذلك لا أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، فكلهم قد بلغ في الظلم غايته، أو يكون المعنى أن كل واحد منهم هو أظلم الظالمين في هذا الباب، فمن كتم شهادة عنده من الله أظلم الكاتمين، وأظلم المانعين من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، فكل واحدة تختص بالباب الذي ذكرت فيه.
والحاصل أن قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ [سورة البقرة:140] أي أن هؤلاء يعرفون بما عندهم من الكتب أن دين الله الذي ارتضاه هو الإسلام، وأنه هو الذي كان عليه إبراهيم ﷺ ومن قبله ومن بعده من الأنبياء، ويعرفون أن ما أنتم عليه هو الحق، ولكنهم يكتمون هذه الشهادة ويبدلون ويكذبون فتقول يهود: إن هؤلاء الأنبياء كانوا يهوداً، وتقول النصارى: إنهم كانوا نصارى.
وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:140] تهديد ووعيد شديد، أي: إن علمه محيط بعملكم وسيجزيكم عليه.
ثم قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [سورة البقرة:141] أي: قد مضت لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ [سورة البقرة:141] أي: لهم أعمالهم ولكم أعمالكم.
يُلاحظ أن قوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ كررها مرتين، وقد يفهم من ذلك معنى التهديد، كأنه يقول لهم: إلى متى وأنتم تتشبَّعون بالانتساب إلى هؤلاء الأنبياء وتتمسحون فيهم وهم قد أفضوا إلى الله ومضوا، فهو الذي يجازيهم على أعمالهم ويتولى ثوابهم، وأما أنتم فمرتهنون بأعمالكم، ومطالبون بإقامة الحق ولزومه والعمل بمقتضاه ولزوم التوحيد والإيمان الصحيح، فدعوكم من الدعاوى الفارغة والأماني العريضة، وعليكم بالعمل على فكاك رقابكم والخلاص من عذاب الله .
وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:141] وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع رسله الذين بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين.
سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:142-143].
روى البخاري عن البراء أن النبي ﷺ صلى إلى بيت المقدس ستَّة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً[1].
قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاء: لم يتعرض لها المفسر –رحمه الله- هنا ما تعرض لها، وعلى كل حال كان ينبغي أن يورد تفسيرها هنا كأن يقول مثلاً: السفهاء عامة في اليهود والنصارى وأهل الإشراك بعمومهم.
والمقصود بالسفهاء: خفاف الأحلام الذين ليس لهم عقل راجح رزين يزِنون به الأمور، ويقدرون به الأشياء على وجه صحيح، فهم الذين أضاعوا حظهم ونصيبهم من الله باتباع الباطل والإعراض عن الحق حسداً واتباعاً لأهواء النفوس، فهم أهل الجهل والغباء وخفة العقل حيث إنهم اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالثواب.
والمراد بقوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا هم اليهود في الدرجة الأولى، وأهل النفاق، ويدخل في هؤلاء أيضاً أهل الإشراك، وهذا التعبير هل هو بصيغة الماضي أم أنه يدل على الاستقبال؟
الجواب هو: أن ذلك يكون في المستقبل يعني إذا حولت القبلة سيقول السفهاء: كذا وكذا.
وبعض أهل العلم يقولون: إن قوله -تبارك وتعالى- في الآيات التي ستأتي: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:150] إنها متقدمة، فهو أمرهم بالتوجه إلى البيت الحرام ثم أخبرهم عن قول السفهاء، ولهذا قال بعض أهل العلم في قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء: إنه عبر بالمستقبل وهو بمعنى المضي، أي: قال السفهاء، ولكن وجه التعبير بالمستقبل هو أن ذلك حصل بعد أن حولت القبلة وتكلم من تكلم.
قالوا: ووجه التعبير عن الماضي بالمستقبل للدلالة على استدامته، بمعنى أن هذا القول الذي قالوه سيستمرون عليه ويرددونه ويكررونه ويعيدونه مرة بعد مرة في مناسبة وفي غير مناسبة.
وعلى كل حال هنا يطمئن الله تعالى نبيه ﷺ وأتباعه فيقول لهم: لا تبتئسوا ولا تنزعجوا من مقالة هؤلاء فإنهم سفهاء، والسفيه لا يلتفت إليه ولا إلى كلامه؛ إذ ليس له وزن.
فهذا تعليم من الله لعباده المؤمنين كيف يكون تعاملهم مع أهل السفه، فأقوال أهل السفه والتهم الصادرة منهم وما يذيعونه وينشرونه من قالة السوء أمر لا يحتاج إلى التفات واشتغال ولا ينبغي أن تنزعج منه النفوس وتبتئس منه القلوب بحيث يتثبط الإنسان عن الحق الذي هو عليه، أو يجزع أو يحزن أو يضعف أو يتراجع، فهؤلاء سفهاء والسفيه لا قدر له ولا وزن لكلامه ولا يعبأ به، ولهذا وصفهم بالسفهاء ولم يقل: سيقول اليهود والنصارى ما ولاهم عن قبلتهم، وإنما قال: سَيَقُولُ السُّفَهَاء، وإذا كانوا سفهاء فالسفيه لا قيمة له، فهو ليس من أهل الحصافة والرأي والنظر السديد بحيث يحتاج كلامه إلى نظر وتأمل، وهكذا الأمر في كل سفيه عليك أن تدعه يتكلم كما يحلو له، فإذا سئلت عنه فقل: كم بلغ سعر الحنطة؟ وإذا مررت به وهو يهذي ويهذر فكبر عليه أربعاً، وإن شئت فزد واحدة وكبر عليه خمساً وإن زدت فلا بأس، لكن لا تقف معه؛ لأنك إن نزلت وطاولته في الكلام وراجعته فيه فقد صرت قرناً له؛ فالعاقل لا ينزل بنفسه مع هؤلاء.
هنا في هذه الرواية التي عند البخاري ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ووجه الجمع بين هذه الروايات ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وتكلم عنها كذلك العلماء في بعض كتب النسخ مثل كتاب النحاس في الناسخ والمنسوخ حيث ذكر جملة من الروايات.
لقد هاجر النبي ﷺ وبقي على استقبال بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، والمشهور أنه بقي ستة عشر شهراً، فالعلماء يتكلمون في توقيت هجرته ﷺ ومتى حولت القبلة، والشهر الذي حول فيه، وأي يوم كان ذلك من الشهر، ثم يذكرون كم كانت المدة التي بقيها النبي ﷺ ومعلوم أنها دون العامين قطعاً، وجاء في بعض الروايات ثمانية عشر شهراً، لكن هذا ضعيف، والصواب أنها ستة عشر شهراً أو سبعة عشر، وعلى كل حال الجمع بين هذه الروايات توجد في مثل شرح الحافظ ابن حجر على الصحيح في فتح الباري، والله اعلم.
هذه الرواية في الصحيح[2]، وجاء أيضاً أن أول صلاة كانت صلاة الفجر، وعلى كل حال الكلام على هذا والجمع بين هذه الروايات ليس هذا محله وإنما محله فتح الباري.
يُلاحظ أن رواية البخاري هذه صريحة في أن سبب نزول قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أنهم تساءلوا عن أولئك الذين ماتوا أو قتلوا - وأرضاهم- قبل أن تحوَّل القبلة في غزوة بدر مثلاً التي كانت في السنة الثانية للهجرة في شهر رمضان، أو في غزوة أحد التي كانت في السنة الثالثة للهجرة في شهر شوال، حيث قالوا: ما حال أولئك الذين ماتوا ولم يصلوا إلى الكعبة؟ هل كانت صلاتهم باطلة وكأنهم لم يصلوا، فقال الله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143].
والمقصود أنه حينما يذكر المفسر قضية ويعبر بعدها بمثل قوله: فأنزل الله قوله كذا فهذا يكون من قبيل الصريح لأسباب النزول، وعندما يقول: نزلت هذه الآية في كذا، فهذا غير صريح، وعرفنا الفرق بين الصريح وغير الصريح في درس سابق من تفسير هذه السورة.
قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:142]: هؤلاء السفهاء أثاروا بلبلة بسبب تحويل القبلة فقالوا: إن كان توجهكم قبلُ إلى بيت المقدس حق فأنتم الآن على باطل، وإن كان توجهكم إلى الكعبة حق فقبلتكم الأولى كانت باطلة.
والجواب عن هذه البلبلة أن يقال: قبلتهم الأولى كانت بأمر الله وتحولهم إلى الكعبة أيضاً بأمر الله، فالله هو الذي يتصرف فيهم كما يشاء، وهو الذي يشرع لهم تشريعاً موافقاً للحكمة، فيأمر بشيء في وقت تكون فيه المصلحة، ثم يحولهم عنه إلى أمر آخر تكون المصلحة فيه في الحال التي تعقبها، فهذا كله بأمر الله ففي الحالة الأولى كانوا على حق؛ لأنهم متبعون لأمر الله، ثم صاروا على الحال الأخرى أيضاً على الحق، لأنهم متبعون لأمر الله فالمؤمنون يدورون مع أمر الله حيث دار.
ومن سفه هؤلاء اليهود أنهم قالوا في النبي ﷺ: إن هذا التحول يدل على التذبذب والتردد وهذا لا يكون من نبي فهو متحير، تارة يتبع هذه الجهة، وتارة يتبع هذه الجهة.
والجواب عن ذلك أنه –عليه الصلاة والسلام- دائر مع أمر الله فهو متبع لأمره مطيع لربه -تبارك وتعالى- فهو ليس من عند نفسه بحيث يتبع تارة هذا وتارة هذا كما يزعمون.
ومن سفه المشركين أنهم استبشروا خيراً، وقالوا: تحول محمد إلى قبلتنا وترك قبلة اليهود وهذا مؤذن برجوعه إلى ديننا وملتنا، وهكذا رد الله عليهم جميعاً بقوله -تبارك وتعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142]، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- صحيح البخاري كتاب التفسير – باب قول الله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] (4222) (ج 4 / ص 1634) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (525) (ج 1 / ص 374).
- صحيح البخاري في كتاب التفسير - باب قول الله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] (4216) (ج 4 / ص 1631).