بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله تبارك وتعالى هنا: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152] أي: كما بعثت إليكم هذا الرسول، وفعلت بكم هذا الإفضال والإحسان فاذكروني.
والذكر: يكون باللسان والقلب والجوارح، ولهذا أورد الحديث هنا: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي.. إلى آخره، فهذا داخل تحت عموم قوله تبارك وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152] اذكروني بألسنتكم أذكركم في الملأ الأعلى، ويدخل فيه أيضاً ذكره تبارك وتعالى بالعمل بالجوارح، ويدخل أيضاً فيه ذكره بالقلب، فإن هذا الذكر تارة يكون بالإقرار بالنعمة باللسان، واستحضارها، وقيام ذلك في القلب مع العمل بالجوارح اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا [سورة سبأ:13].
ويكون أيضاً باللسان، بذكر الله بألوان الذكر، ويكون أيضاً بالقلب بقيام القلب بوظائفه التعبدية من محبة وشكر ورضاً وصبر وما إلى ذلك من أعمال القلوب، وكذلك بأعمال الجوارح من صلاة وحج.. إلى غير ذلك، فهذا كله داخل تحت قوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152] ولهذا يقول بعضهم كسعيد بن جبير: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، فالذكر يكون بالطاعة بجميع أنواعها منقسمة على اللسان والقلب والجوارح، اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، وكذلك أيضاً بذكره باللسان من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وهكذا.
على كل حال هذا مما يدخل في الذكر كما سبق، وقول سعيد بن جبير هو من أوضح ما عبّر به عن معناها: "اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة" وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله، فالآية تشمل هذه الأمور جميعاً.
الآن في قوله: وَاشْكُرُواْ لِي [سورة البقرة:152] هناك قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152] فالذكر يكون باللسان ابتداءً، ويكون بالقلب والجوارح، وأما الشكر فهو كما يقولون: يكون في مقابل النعمة، اشكروا لي على هذا الإنعام والإفضال تزدادوا عبودية لله ، وإتباعاً لنبيه ﷺ.
والشكر -كما مر في بعض المناسبات- أصله: من الظهور أو الزيادة، ولهذا يقال للعُسْلوج الذي يخرج من الشجرة -وهو الغصن الصغير الأخضر بعدما تقطع: شكير، ويقال للدابة إذا ظهر عليها أثر السمن: شكرت الدابة، بمعنى ظهر عليها أثر السمن، فهذا الشكر هو ظهور أثر النعمة على المنعم عليه باللسان والقلب والجوارح، ولهذا قال الشاعر[3]:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة | يدي ولساني والضمير المحجبا |
يقول: إنعامكم وإفضالكم أثّر عليَّ ونتج عنه شكر هذه الثلاثة: القلب واللسان والجوارح.
من شكر النعمة أن يقر الإنسان بها ولا يجحدها، لا يقول: هذا من عندي، أو إنما أخذته بعلمي وحذقي بألوان المكاسب مثلاً، أو يجحد ويقول: أنا لم أحصّل شيئاً، ولم أربح شيئاً، وهو لم يصدق في هذا الكلام، و مثله الطالب الذي يدخل في الاختبار ويقول للناس بعدما يخرج: أنا لم أعرف الجواب، ولم أحسن الإجابة، وهو غير صادق بهذا،فهذا من كفر النعمة.
وقوله: وَاشْكُرُواْ لِي [سورة البقرة:152] عدّيت باللام وهو الذي جاء في القرآن وهو الأشهر والأفصح، تقول: شكرت لك، اشكروا لله، وقد تتعدى بنفسها، ولم يرد في القرآن فيما يحضرني، لكنه ورد في كلام العرب.
إنكما إن أنظرتماني ساعةً | شكرتكما حتى أُغيّب في قبري [9] |
قال: شكرتكما، ولم يقل: شكرت لكما، ومنه قول الآخر [10]:
شكرتك إن الشكر حبلٌ من التقى | وما كل من أوليته نعمةً يقضي |
قال: شكرتك، ولم يقل: شكرت لك، وهذا موجود على كل حال ومعروف، لكن المستعمل في القرآن هو المعدى باللام "شكرت له".
أيضاً هذا الذي ذكره في هذا الانقسام إما أن يكون في نعمة فيشكر، وإما في نقمة فيصبر، وهناك ما يزيد على ذلك وهو أن يكون الإنسان في نعمة فيحتاج إلى الصبر مع هذه النعمة؛ لأن الإنسان يطغى في حال الغنى كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى [سورة العلق:6] فيحتاج إلى نوع من الصبر يَثبت فيه على طاعة الله .
ولذلك تكلم أهل العلم كثيراً في المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر، قالوا: الفقير ليس أمامه إلا الصبر أو الجدار، بينما الغني مباهج الدنيا أمام عينه، ويستطيع أن يصل إلى ما شاء من مطلوباته التي تهواها نفسه، ولذلك كان الغنى مظنة الطغيان، فإذا صبر، وحبس نفسه عن الاسترسال مع داعية الهوى فإن ذلك يكون أعظم مما يقع للفقير من الصبر، فهذا لون من الصبر في الواقع ممزوج بالشكر، ولا يتأتى الشكر إلا بهذا الصبر أصلاً.
وكذلك أيضاً النقمة، هل يشكر على النقمة؟ سيأتي في الكلام على الأعمال القلبية -إن شاء الله- أن الشكر له محل في هذا المقام، إذ إن الإنسان في مقابل النقم مطالب بالصبر وجوباً، فإن ارتقى درجة فالرضا، فإن ارتقى درجة فالشكر لله ، وسيأتي بيان وجه الشكر على هذه المصيبة، ونماذج من كلام السلف، وأحوال السلف في شكرهم إزاء النقم؛ لأن المتبادر أن الشكر يكون في محل النعمة أو بسبب النعمة، والصبر يكون بإزاء النقمة، ولكن فيه ما ذكرت أن هذا يأتي فيه هذا، وهذا يأتي فيه الآخر أيضاً.
يعني استعينوا بالصبر بمعنى حبس النفس بالنسبة للمصائب عن الجزع والتسخط، وفي حال النعمة حبس النفس عن البطر، يحبس الإنسان نفسه فيحملها على طاعة الله شكراًً على هذا الإنعام والإفضال، فالطاعة والعبادة والعمل الصالح يحتاج إلى صبر وإلا لصار الناس في أعلى درجات العبودية، ولكن لماذا هذا التفريط في حق الله ؟ بسبب قلة الصبر على الطاعة، وكذلك المعصية فإن النفس قد جبلت على محبة الشهوات زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [سورة آل عمران:14] فيحتاج الإنسان من أجل فطامها عن محبوباتها إلى صبر، وهذا أمر مشاهد لا يحتاج إلى تقرير، وبالتالي فالإنسان بحاجة إلى الصبر على الثلاثة.
فقوله: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ [سورة البقرة:45] لأنهما من أعظم ما يقوي الإنسان على لزوم طاعة الله ، وتحمل الأكباد والآلام والأتعاب فيسهُل على السالك سلوك الطريق الشاقة التي حفت بها طريق الجنة حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات[12] فهذا كله يحتاج الإنسان معه إلى استعانة بالصبر والصلاة.
فالصلاة تقوي قلبه وعزمه فيخف عليه السير إلى الله ، ويسهل عليه، فهذه المناجاة تؤثر فيه من ألوان صلاح القلب والحال والعمل، والإنكفاف عما لا يليق، إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [سورة العنكبوت:45]..إلى غير ذلك من آثارها، فيستعين بها، فيحصل له راحة القلب، وإلا فإن قلبه قد يتفلت عليه، يحتاج هذا القلب إلى ضبط وترويض، فالصلاة من أعظم ما يحصل به ذلك.
ولهذا لما نُعي إلى ابن عباس أخوه، نزل من راحلته -وهو بين مكة والمدينة- فصلى وقال: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45].
ونقل ذلك عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي زوج عبد الرحمن بن عوف -، لما مرض فأغمي عليه، فظنوا أنه قد مات، فخرجت إلى المسجد، وجعلت تصلي عملاً بهذه الآية: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ [سورة البقرة:45].
يعني: يسلم عليهم الملائكة وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [سورة الرعد:23-24] بما صبرتم على طاعة الله في الدنيا، وصبرتم عن معصيته، وصبرتم على أقداره المؤلمة، وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: إن الثاني أفضل، وهو الصبر على الطاعة، قال: لأنه المقصود، بمعنى أن الإنسان إنما خلق للقيام بوظائف العبودية بالعمل الصالح.
وأما الترك فإنه ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مقصود لغيره، فإذا ترك السرقة والقتل وما إلى ذلك فإن هذا ليس مقصوداً لذاته؛ لأن النفس ما خلقت للترك، فلو تُصور إنسان ما عنده شيء من الأعمال التي يقوم بها، وإنما هو الترك فقط، هو ما يفعل كذا، ولا يفعل كذا، ولا يفعل كذا، وبعدُ ماذا يفعل؟ ماذا عن صلاته، عن صيامه، عن ذكره لله ؟ هذه التي خُلق الإنسان للقيام بها، هذه وظائف العبودية، هذه التي يكون فيها بناء القلب، ويكون فيها الرقي في الدرجات عند الله ، ولهذا كان الترك لا يؤجر الإنسان عليه إلا إذا كان بنية، كما سيأتي -إن شاء الله- في الكلام على حديث: (الأعمال بالنيات) في أول عمدة الأحكام، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "فإن الترك ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مقصود لغيره" قاله في الكلام على مسألة إنكار المنكرات.
فمن الخطأ أن تربي الناس دائماً: احذروا، هذا بدعة، هذا ما يجوز، هذا فيه كذا، هذا لا تقرب منه، لا تفعل كذا، لا تقارف كذا، وبعد هذا؟ ماذا عمل هذا الإنسان؟ أعطه عملاً إيجابياً يقوم به، يشتغل به، بقلبه ولسانه وجوارحه، ما يعرف إلا فقط التحذير، هذا ينتهي ويتلاشى، يموت قلبه، فهو بحاجة إلى عمارة هذا القلب بالعمل الصالح، فهو المقصود، ولهذا كان الصبر على الطاعة أعظم من هذه الحيثية.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: نسمة المؤمن طائر تَعْلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه[14] ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضاً، وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفاً لهم وتكريماً وتعظيماً."
هنا يرد سؤالان: السؤال الأول: في وجه تخصيص بعض المؤمنين، أو أصحاب بعض الأعمال الصالحة بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون كالشهداء، مع أن الجميع في حال البرزخ إما ينعمون وإما يعذبون، وحياة الشهداء هي حياة برزخية، فالبرزخ: هو الحاجز، هو تلك المنزلة التي تكون بين الدنيا وبين الآخرة، ولا شك أن نعيم الشهداء ليس كنعيمهم حينما يدخلون الجنة بعد البعث والنشور والحساب، حيث يحاسب الناس، ثم بعد ذلك يدخل الناس الجنة، فالشهداء من جملة من يدخل الجنة آنذاك، فهذا دخول دون دخول في الحياة البرزخية، والحياة البرزخية يحصل فيها النعيم لروح الإنسان، أو العذاب لروحه، ويحصل على سبيل التبع من ذلك للبدن ما يحصل، فكما أن الغالب في هذه الحياة هو نعيم البدن، أو عذاب البدن والروح تبعاً له، فالحياة البرزخية على العكس، والحياة الآخرة يستوي فيها نعيم البدن ونعيم الروح.
فالمقصود ما وجه تخصيص بعض المؤمنين مع أن الجميع إما يعذبون وإما ينعمون؟ وهذا السؤال وارد، وقد أورده بعض أهل العلم كابن جرير الطبري -رحمه الله، فمنهم من يجيب كابن جرير: بأن أولئك قد خصوا بالذكر تنويهاً بشأنهم، وترغيباً بعملهم، ورفعاً لمقامهم، وإلا فالجميع يُنعم أو يعذب، على اختلاف درجاتهم في النعيم.
وربما يكون أدق في الجواب أن يقال: إن هؤلاء أحياء حياة تختلف عن حياة غيرهم في البرزخ، وإن كانت كلها حياة برزخية، فهم في أجواف طير خضر، تسرح في الجنة، كما أخبر الله -تبارك وتعالى، فهم أحياء وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [سورة آل عمران:169] فلما كان الذي يقال عادة لمن قُتل: إنه قد مات وقضى نحبه، أخبر الله أن هؤلاء أحياء، وإن كانت ماتت أجسادهم، ولهذا عوضهم الله بهذا، فجعل أرواحهم في جوف طير خضر بعد ما تخرقت أجسادهم حينما قتلوا في سبيل الله ، والحديث على ظاهره أن: أرواحهم في جوف طير خضر فصارت كالمراكب للأرواح، أو كأن الله عوضهم عن أجسادهم بهذه.
بينما الفرق بينه وبين الحديث الآخر -وهذا هو السؤال الثاني: ما الفرق إذاً بين الأمرين؟ بين الشهيد وبين عموم المؤمنين؟
فهنا الحديث ثابت صحيح نسمة المؤمن يعني روح المؤمن طائر تَعْلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه أرواح الشهداء في جوف طير خضر وبالتالي لا يصح أن يقال كما قال بعضهم: إن المقصود: على هيئة طير خضر، أي أن الأرواح تصور بهيئة طير خضر؛ لأن الحديث صريح وواضح أنها في جوف طير خضر، تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، وتسرح في الجنة، أي تطير في الجنة، بينما أرواح المؤمنين كما قال: نسمة المؤمن طائر فهي ليست في حواصل طير، وإنما تكون طائراًً يطير في الجنة، ولاحظ الفرق بينهما تلك -أرواح الشهداء- تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، تلك الطير التي فيها أرواح الشهداء، بينما أرواح المؤمنين تكون طائراً يَعْلق بشجر الجنة، أيهما أكمل؟
الشهيد أكمل، تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، هذه تعلق -تأتي بضم اللام وفتحها- تَعْلُق وتَعْلَق بشجر الجنة، وهذا اللفظ (تَعْلُق) يُشعر بمعنى، وهذا المعنى هو ما يحصل به قدر الكفاية من الأكل أو القوت، أو نحو ذلك، ويعرف هذا من استقراء النصوص التي وردت فيها هذه العبارة: تعلُق في شجر الجنة.
وعلى كل حال مسألة الكلام في الأرواح فيها كلام طويل، والأقوال والخلاف فيها كثير، والله يقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة الإسراء:85] ولكن الذي ينبغي أن يتفطن له الإنسان، ويحتاج إلى معرفته هو وجه الجمع بين النصوص، لو قال قائل: ما مزية الشهداء إذاً؟ نقول: إنها تطير في الجنة حيث شاءت، وهي في أجواف طير خضر، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، فما يحصل لهم من النعيم أكمل وأعظم مما يحصل لغيرهم.
والكلام على الروح -كما قلت- قضية غيبية، ولذلك لها اتصال بالأجساد، وجاء في الأحاديث أن المؤمن تفتح له نافذة في قبره، يرى منها مكانه في الجنة، ويأتيه من روْحها ونعيمها، والكافر يفتح له أيضاً كذلك، إلى قيام الساعة، ولهذا يقول المؤمن: رب أقم الساعة، والكافر يقول: رب لا تقم الساعة، فهذا يأتيه العذاب في القبر، وهذا يأتيه من الرَوْح ويوسع له في القبر.. إلى آخره.
فهذا يدل على أن الأرواح تعذب وتنعم في القبور، وهذه النصوص التي عندنا والتي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- تدل على أن النعيم يحصل في الجنة، وجاء في بعض النصوص وبعض الآثار عن السلف ما يشعر بغير ذلك، فعلى كل حال يقال -والله تعالى أعلم: إن الأرواح لها شأن أخر، ولها حركة وانتقال لا تقاس بحركة وانتقال الإنسان في هذه الحياة الدنيا، بل حتى في الرؤى تجد الإنسان نائماً، والله أخبر أنه يتوفى الأنفس حين موتها، فالأرواح تصعد ولكنه صعود دون صعود، يبقى تعلقها بالبدن، ويبقى الإنسان حياً، لا يقال: مات، فهي وفاة صغرى، لكن هذه الروح تحلق وربما التقت ببعض الأرواح من الموتى أو الأحياء، وربما رأى الإنسان نفسه في مقامات رفيعة في الملأ الأعلى، ورأى نفسه ربما في أماكن بعيدة من الأرض، فالأرواح لها تنقلات، ولها أحوال.
والنبي ﷺ رأى الأنبياء كل واحد منهم في مقامه في الملأ الأعلى، مع أنهم ينعمون في الجنة، يعني حال الأنبياء أكمل من حال الشهداء وعموم المؤمنين، فإذا كان هذا يحصل للشهداء فالأنبياء أعظم، ورآهم النبي ﷺ في السماوات، وأخبر أنه رآهم في الجنة، ورأى موسى ﷺ وهو يصلي في قبره، وصلى ﷺ بالأنبياء في بيت المقدس وهم في الملأ، وقد رآهم في الملأ الأعلى.
فالأرواح لا تقاس على هذا العالم المادي، فلها من التنقل والحركة ما لا ندركه، وتصل إليه عقولنا، وبالتالي نقول: أرواح المؤمنين تنعم وتعذب في القبر، وتنعم أيضاً في الجنة، وتنعم أيضاً ربما في غير ذلك، بعض السلف يقول: على أفنية القبور أرواح المؤمنين، ولكن تنعمها في الجنة لا يكون من قبيل دخول الجنة الذي هو دخولها حينما يستفتحونها، فيدخلون منازلهم، ولكنها تطير في شجر، تَعْلق في شجر الجنة، وما إلى ذلك، أما دخول المنازل فإن ذلك يكون بالدخول الأكبر، وهو ما يكون في الآخرة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، فهذا دخول دون دخول.
وكذلك النار فالله أخبرنا: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] لكن قال: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [سورة نوح:25] فهم يعذبون في قبورهم، والنبي ﷺ رأى أناساً في النار، رأى عمرو بن لحي الخزاعي في النار، ورأى رجالاً يعرفهم، فهذا دخول دون دخول، فهم يعذبون في قبورهم، وأرواحهم أيضاً لها تنقلات، وتعذب أيضاً في النار، ولكن هذا دخول دون دخول، فالدخول الأكبر حينما يؤتى بجهنم، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [سورة الفجر:23] ويرونها فيدعون بالويل والثبور، ويعطون كتابهم بشمالهم.. إلى آخره، ثم بعد ذلك يكبكبون فيها، وهم مقيدون بالسلاسل والأغلال، فهذا هو الدخول الأكبر -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها.
فهذا كلام مختصر في مسألة الأرواح بحيث يُدرك الجمع بين هذه الأحاديث، وأنه لا تخالف بينها.
وابن القيم -رحمه الله- يرى أن ذلك بحسب حال كل إنسان، فكما أنه في العموم تَعْلق في شجر الجنة، لكن منهم من تحبس روحه، كذلك الشهيد، الأصل أنه في جوف طير خضر لكن النبي ﷺ أخبر عن ذاك الذي غل الشملة حينما ذكر الصحابة بلاءه، وقالوا: هنيئاً له الشهادة، قال: إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا[15] فدل على أنه حبس، لم يكن في جوف طير خضر، وإنما هو في قبره يعذب بتلك الشملة، فابن القيم -رحمه الله- يقول: تختلف أحوال الناس فقد لا يكون في جوف طير خضر وهو شهيد، فيحبس بسبب عمل عمله، وكذلك أهل الجنة قد تكون روحه على فناء قبره، أو في قبره، أو نحو ذلك، تنعم مثلاً، وقد تكون تطير، وما ذكرته سابقاً لا يعارض هذا على كل حال، والله أعلم.
هذا الحد يكفي في الكلام على هذه المسألة، والاسترسال في هذا والزيادة عليه أمر لا حاجة إليه؛ لأن هذا من الغيوب...
- أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى(ج 8/ص67 – 7008).
- في المسند (ج3/ص138– 12428) وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وذكره البخاري عن أنس بن مالك عن أبي هريرة مختصراً في كتاب التوحيد باب ذكر النبي ﷺ وروايته عن ربه (ج6/ص2741 – 7099).
- ذُكر البيت غير منسوب لقائل في: ربيع الأبرار (ج1/ص472) وفي (نهاية الأرب في فنون الأدب) (ج1/ص332) وفي (نفح الطيب) (ج6/ص274) وغيرها.
- المُطْرَف: كمُكرم، بكسر الميم وضمّها مع سكون الطاء وفتح الراء فيهما، تقول تميم: مُطْرَف ومُصحَف، وأهل الحجاز يقولون: مِطْرَف ومِصْحَف، وهو واحد المطارف، وهي أردية من خز مربعة لها أعلام، وقيل: ثوب من خز مربع له أعلام، قال الفراء: المطرف من الثياب: ما جعل في طرفيه علمان، والأصل مُطرف بالضم؛ ليكون أخف كما قالوا: مِغزل كمنبر، وأصله مُغزل بالضم من أغزل أي: أدير، والميم زائدة. ينظر: لسان العرب والقاموس المحيط مادة (طرف) والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير(ج2/ص371) وجمهرة اللغة (ج1/ص414) وغيرها.
- الخز: هو ضرب من ثياب الإِبْرَيْسَم معروف، وفي هذا الحديث ما يدل على جواز لبسه، قال ابن حجر في فتح الباري (ج10/ص55) عند حديث: ليكونن من أمتي أقوامٌ يستحلون الحر والحرير: "ووقع عند الداودي بالمعجمتين –الخز- ثم تعقبه بأنه ليس بمحفوظ؛ لأن كثيراً من الصحابة لبسوه، وقال ابن الأثير:المشهور في رواية هذا الحديث بالإعجام -لأنه متناسب مع ذكر الحرير- وهو ضرب من الأبريسم كذا قال، وقد عُرف أن المشهور في رواية البخاري بالمهملتين -لأنه إذا حرم الحرير فالخز نوع منه فيكون تكراراً فالأنسب أن يكون تحريماً لشيء آخر- وقال ابن العربي: الخز بالمعجمتين والتشديد مختلف فيه والأقوى حله، وليس فيه وعيد ولا عقوبة بإجماع". لكن كونه بالمهملتين أرجح، وهو ما رجحه شراح البخاري منهم ابن حجر، وإن قال الصنعاني: إن إدخال الحديث في باب اللباس يرجح المعجمتين؛ لأن الخز من اللباس، لكن نقول: إنه وإن أدخله في باب اللباس فالراجح أنه بالمهملتين، وإدخاله في باب اللباس إنما هو من أجل ما عُطِف عليه وهو الحرير. وقد أورد مالك وابن أبي شيبة وغيرهما ما يدل على الترخص في لبس الخز.
- في المسند (ج4/ص438 – 19948) وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين غير فضيل بن فضالة القيسي فقد روى له النسائي وهو ثقة، وصحح الألباني لفظ: (على عبده) في صحيح الجامع انظر حديث رقم:1712.
- أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (ج4/ص650 – 2481)، وأحمد في المسند (ج3/ص439 – 15669)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (ج2/ص 337 - 718).
- أخرجه أبو داود في الترجل، باب النهى عن كثير من الإرفاه (ج4/ص125 – 4163)، وابن ماجهفي كتاب الزهد، باب من لا يؤبه له (ج2/ص1379 – 4118)، والطبراني في المعجم الكبير (ج1/ص271 – 788) معجم إياس بن ثعلبة أبو أمامة البلوي، والبيهقي في الشعب، الشعبة الأربعون من شعب الإيمان، وهو باب في الملابس والزي والأواني، وما يكره منها، فصل فيمن اختار التواضع في اللباس (ج5/ص155 - 6173)، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم:2879.
- البيت نسبه صاحب (تزيين الأسواق في أخبار العشاق) وصاحب (مصارع العشاق) (ج1/ص84) لجميل بن معمر من رائيته المشهورة (ج1/ص29) التي يقول فيها:
خليليّ عوجا اليوم حتى تسلما *** على عذبة الأنياب طيبة النشرِ
فإنكما إن عجتما لي ساعة *** شكرتكما حتى أُغيّب في قبري
وإنكما إن لم تعوجا فإنني *** سأصرف وجدي فأذنا اليوم بالهجرِ - هو أبو نُخيلة الراجز واسمه: يعمر بن حزن بن زائدة بن لقيط بن أبزى بن ظالم بن مخاشن بن حمان، وحمان هو عبد العزى بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وقيل له: حمان لأنه كان يحمم شفتيه، وهو شاعر راجز محسن متقدم في القصيد والرجز، والبيت من الطويل يمدح فيها مسلمة بن عبد الملك يقول فيها:
أمسلمةٌ يا نَجْلَ خير خليفةٍ *** ويا فارس الهَيْجَا ويا جبلَ الأرضِ
شكرتك إن الشكر حَبْلٌ من التقى *** وما كلُّ من أَوليته نعمةً يقضِي
وألقيتَ لما أن أتيتك زائراً *** عليَّ لحافاً سابغَ الطولِ والعرضِ
ونبهْتَ من ذكرى وما كان خاملاً *** ولكن بعض الذكر أنبَهُ من بعضِ.... إلى آخرها
وسمعه الرشيد فقال: "هكذا يكون شعر الأشراف! مدح صاحبه ولم يضع من نفسه" ينظر: (أمالي القالي (ج1/ص15) والتذكرة الحمدونية (ج1/ص448) و(المحكم والمحيط الأعظم) (ج3/ص 133) و(المؤتلف والمختلف) لابن القيسراني (ج1/ص87) و(الحيوان) (ج1/ص134) و(نهاية الأرب في فنون الأدب) (ج1/ص333) و(الجليس الصالح والأنيس الناصح) (ج1/ص42) و(بهجة المجالس وأنس المجالس) (ج1/ص66) و(زهر الآداب وثمر الألباب) (ج1/ص391). - الحديث من زيادات عبد الله على المسند [جزء 5- ص 24- 20298] بلفظ: لا يقضي الله له شيئاً قال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل ثعلبة بن عاصم، وباقي رجال الإسناد ثقات" وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة [جزء1-ص277-148)، وأصله في مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير [ جزء4- ص2295-2999).
- أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها [جزء4- ص2174– 2822).
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون [جزء3 - ص1502 – 1887).
- أخرجه مالك في الموطأ رواية يحيى الليثي [جزء1 - ص240 – 568) والنسائي في كتاب الجنائز باب أرواح المؤمنين [جزء4 - ص 108- 2073) وابن ماجه في كتاب الزهد باب ذكر القبر والبلى [جزء2 - ص 1428– 4271) وأحمد في المسند [جزء3- ص 455 – 15815) وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب لم يسمع هذا الحديث من جده كعب بن مالك، وأخرجه أيضاً ابن حبان في كتاب السير باب فضل الشهادة [جزء 10- ص 513 – 4657)، والطبراني في المعجم الكبير [جزء19- ص63– 119)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: حديث رقم:2373.
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر [جزء4- ص1547 – 3993)، وفي كتاب الأيمان والنذور، باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض والغنم والزروع والأمتعة [جزء6- ص2466 – 6329).