الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
[75] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 178إلى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآية 179
تاريخ النشر: ٢١ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 4076
مرات الإستماع: 3221

بسم الله الرحمن الرحيم        

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ﷺ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول تعالى: كُتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون، حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم، وغيروا حكم الله فيهم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُهَاْ الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [سورة البقرة:178].

أي: فرض عليكم أن تعدلوا في القصاص، وعبارة الحافظ ابن كثير -رحمه الله- تشير إليه، يقول: كتب عليكم العدل، وجعل كُتب عليكم القصاص مرتبطاً بقوله: الحر بالحر، والمعنى كُتب عليكم العدل في القصاص بألا تتجاوزوا حد الله فتخرجوا عن العدل، بقتل غير  القاتل، أو بقتل الحر بدلاً من الرقيق المقتول، وما إلى ذلك مما كانوا يفعلونه.

وقوله هنا: الْحُرُّ بِالْحُرّ ِوَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى مفهوم المخالفة فيها أنه إذا حصل التفاوت بين القاتل والمقتول في المرتبة فإنه لا ينفذ حكم القصاص في الواقعة، وقد ذكر العلماء عدة أجوبة على تقرير أن مفهوم المخالفة لا عبرة له في هذا الموطن فمن ذلك:

  • أن هذه الآية يمكن أن تكون قد نزلت في معالجة حال معينة واقعة، ذكرها الحافظ ابن كثير وذلك أن بني النضير كانوا يرون أنهم أشرف من قريظة، وكلهم من اليهود، فالرجل من النضير إذا قتله القرظي قُتل القرظي به، وإن كان القتل من النضير لأحد من قريظة فإنه لا يقتل به، ويقولون: لا يقتل به؛ لأنه لا يكافئه، فجاءت الآية تعالج هذه القضية.
  • أو أن ذلك فيما كان عليه الحال قبل النبي ﷺ فكان الناس لا يعدلون في القصاص، فإذا قتل الرجل رجلاً فإن أولياء الدم أو عشيرة المقتول يقتلون من وجدوا من عشيرة القاتل وقرابته، وربما رأوا أن القاتل لا يكافئ المقتول فعمدوا إلى غيره، فقتلوا بالواحد جمعاً من الناس لا علاقة لهم بقتله، وربما قتلوا فارس القبيلة، أو سيد القبيلة، أو الوجهاء من القبيلة، مع أنهم لا علاقة لهم بقتل هذا الإنسان، وإذا كان القاتل عبداً لم يقبلوا بالقصاص منه بل قتلوا حراً مكانه، وإذا كان القاتل امرأة لم يقبلوا بالقصاص منها بل قتلوا رجلاً من عشيرتها بدلا منها، فجاءت الآية تعالج هذا الواقع.
  • أو أن ذلك كان في مقتلة وقعت، فوقع قتلى من الطرفين رجال ونساء وأرقاء، فأصلح بينهم النبي ﷺ، فنظر في القتلى من الطرفين، فجعل النساء في مقابل النساء، والرجال الأحرار في مقابل الأحرار، والعبيد في مقابل العبيد، وأصلح بينهم بهذا الاعتبار فجاءت الآية وفاقا لواقع معين.

فهذه الروايات الواردة وإن ثبت في بعضها ضعف إلا أن جميعها تؤكد أنها نازلة في علاج واقع بعينه، ونزول الآية في علاج واقعة معينة يعد من المواضع التي لا عبرة فيها بمفهوم المخالفة.

والمقصود بمفهوم المخالفة: المعنى المسكوت عنه بكلام منطوق ومفهوم، فالمنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق مثاله: أكْرِم التقي، فالمنطوق إكرام التقي، ومفهوم المخالفة لا تكرم غير التقي.

ومفهوم الموافقة: يجاري المنطوق، لكنه مسكوت عنه، فمفهوم المخالفة حجة على قول الجماهير من أهل العلم، لكنه في بعض المواضع لا يكون حجة، ومنها هذا الموضع أن تكون الآية أو النص نزل لمعالجة واقع معين.

وعليه فقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ معناه: أنه إذا قتل الرجل امرأة فإنه يقتل بها، وإذا قتلت المرأة أحداً من الرجال فإنها تقتل به، والنبي ﷺ أخبر أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، ومن أهل العلم من يشترط التكافؤ في القصاص، ويطالب بالتفاوت في الدية بين الرجل والمرأة، وكثير من أهل العلم على خلافه، فعلى هذا تكون الآية على ظاهرها عندهم ولا نسخ فيها.

وبعضهم قال: إنها منسوخة، نسخها قول الله -تبارك وتعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [سورة المائدة:45]، وهذه الآية من سورة المائدة، وسورة المائدة هي آخر ما نزل في الأحكام، لم ينسخها شيء، ولكن هذه الآية التي ذكروا إنما نزلت في بني إسرائيل، فهي تخبر عما شرع لبني إسرائيل، ومعروف أن شرع من قبلنا لا يكون شرعاً لنا إن وجد في شرعنا ما يخالفه. 

فإذا قيل: إن هذه الآية ثابتة: الْحُرُّ بِالْحُرِّ... فتكون مخالفة لما شرع لبني إسرائيل في آية المائدة، فلو لم تنسخ فعندئذ يكون ذلك مخالفاً لما كتب على بني إسرائيل، وهذا توضيح لقوله سبحانه: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا ولقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى والله تعالى أعلم.

وسبب ذلك قريظة والنضير، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم، فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به، بل يفادي بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل به، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية قريظة، فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين المخالفين لأحكام الله فيهم، كفراً وبغيا.

معلوم أن بني إسرائيل كان لا يحل لهم أخذ الدية، وإنما حل ذلك لهذه الأمة تخفيفاً ورحمةً بها، وإيراد ابن كثير –رحمه الله- لهذه القضية في بني إسرائيل وما كان يحصل بينهم كأنه يريد أن يقول: إنها نزلت تصف حالاً معينةً منكرةً، فلا يكون للآية مفهوم مخالفة، ولا يفهم أن التفاوت والتكافؤ إذا لم يحصل لا يحصل القصاص، ودليله ما ذكره أنس بن مالك قال: "عدا يهودي في عهد رسول الله ﷺ على جارية فأخذ أوضاحاً كانت عليها، ورضَخَ رأسها، فأتى بها أهلُها رسول الله ﷺ وهي في آخر رمق، وقد أُصمتت، فقال لها رسول الله ﷺ: من قتلك؟فلان؟، لغير الذي قتلها فأشارت برأسها أن لا، قال: فقال لرجل آخر غير الذي قتلها فأشارت أن لا، فقال: ففلان؟ لقاتلها، فأشارت أن نعم، فأمر به رسول الله ﷺ فرُضخ رأسه بين حجرين[1]

وقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى منها منسوخة، نسختها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [سورة المائدة:45]، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال: قال رسول الله ﷺ: ولا يقتل مسلم بكافر[2]

القاعدة الثابتة: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فالأصل في الآية الإحكام وليس النسخ، ودعوى النسخ تكثر في كلام المفسرين والفقهاء -رحمهم الله- ولا بد له من دليل، والحكم بالنسخ بمجرد تعارض يلوح للمفسر أو الفقيه أمر غير سائغ؛ لأن النسخ فيه إهدار لأحد الدليلين، والأصل إعمال الدليلين ما أمكن، فإن تعذر ذلك لجأ إلى الترجيح ويبقى النسخ في الأخير، فالنسخ على كل حال إن لم يثبت بدليل يقوي القول به، وإلا فإنه لا يلجأ إليه، وهذه الطريقة التي مشى عليها ابن كثير -رحمه الله- في أول كلامه يقول: كتب عليكم العدل في قصاص القتلى الحر بالحر...، ولا تفعلوا كما فعلت قريظة، أو كما كان يفعله بعض العرب في الجاهلية، فلا نسخ.

لكنه قال بعد ذلك: هذا القدر من الآية منسوخ، وهو غريب ......

جاء في الأصل قوله:

"رواية عن سعيد بن جبير في قوله تعلى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ... [سورة البقرة:178] يعني: إذا كان عمداً الحر بالحر، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم فنزل فيهم: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى منها منسوخة نسختها النفس بالنفس."

من الكلام السابق تفهم أنه لابن كثير –رحمه الله، وظاهر كلام ابن كثير خلاف هذا فهو يرى أن الآية غير منسوخة بل يرى أن قوله سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ مرتبطة بما بعده من قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ... ثم ذكر القصة بعده، مما يدل على أنها نازلة تعالج واقعة معينة فلا مفهوم لها، فالقول بالنسخ عن ابن كثير لا يصح، إنما هذه رواية نقلها عن سعيد بن جبير، وفي آخرها أنه قال: إن هذاالقدر من الآية منسوخ، والنسخ يطلق عند السلف على كل ما يعرض للنص العام فتقييد المطلق، وتخصيص العام، وبيان المجمل، كل ذلك يقولون له نسخ كما قال ابن عباس في قوله تعالى:  وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [سورة آل عمران:97] قال: نسختها التي بعدها مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً فهذا من باب تخصيص العام قطعاً ولا يحتمل النسخ؛ لأن النسخ الاصطلاحي بمعنى الرفع ولم يُردْه، هذا إذا صحت الرواية عن سعيد بن جبير؛ لأن الروايات الواردة في سبب النزول فيها ضعف، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن غاية ما يقال: إن هذا رأي لسعيد بن جبير وخالفه غيره، والله أعلم.

لما ثبت في البخاري عن علي قال: قال رسول الله ﷺ: ولا يقتل مسلم بكافر[3] ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.

وهي قوله: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [سورة المائدة:45] وتوجيهه للآية: أن الكافر نفس والمسلم نفس فيقتل به لهذا الجامع، إلا أن الآية نزلت في بني إسرائيل، وعندنا أن النبي ﷺ قال: لا يقتل مسلم بكافر[4]، وقال: المسلمون تتكافأ دماؤهم[5] ومفهوم المخالفة أن غير المسلمين لا تتكافأ دماؤهم.

ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر بن الخطاب في غلام قتله سبعة فقتلهم....

أورد هذا القضية لأن الله قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى والمعنى كما تقدم العدل في القصاص الْحُرُّ بِالْحُرِّ.... ومن مقتضى العدل أنه إذا مجموعة قتلت واحدا، فإنهم يقتلون به.

قال عمر بن الخطاب في غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع، وحكي عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة.
وحكاه ابن المنذر عن معاذ، وابن الزبير -، وعبد الملك بن مروان، والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت.

ذكر عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف باعتبار أنه فقيه، معدود من أهل الفقه ومحسوب عليهم.

وقوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ فالعفو: أن يقبل الدية في العمد، وكذا روي عن أبي العالية، وأبي الشعثاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان.

وقال الضحاك عن ابن عباس -ا: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يعني فمن ترك له من أخيه شيء يعني: أخذ الدية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو.

القتل إذا كان بغير عمد فلا مجال للعفو عن القصاص؛ لأنه لا يحق له أصلاً أن يقتص منه، إذ الحكم بالقصاص إنما يكون في العمد، فمن عفا مقابل عوض وهي الدية فعند ذلك يقال: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ والقرينة التي تبين أنه المراد قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يعني إلى الدية من القصاص فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ العفو إما أن يكون بالتنازل عن الدية ففي هذه الحالة لا مجال للتوجيه بالاتباع بالمعروف والأداء بإحسان، وإما أن يكون إلى الدية إلى عوض، فهذا هو الذي دلت عليه الآية، والله أعلم.

فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ يعني: من القاتل من غير ضرر ولا معك، يعني: المدافعة.

قوله: فَاتِّبَاعٌ ورد في إعرابها مرفوعة حالتان:

أولها: أن تكون مرفوعة بفعل محذوف والتقدير: فليكن منه إتباع بالمعروف، يعني ولي الدم.

ثانيها: أنها خبر لمبتدأ محذوف، وتوجيه الآية بأن لولي الدم اتباع القاتل والمطالبة بالمعروف من غير تعنت ولا إضرار، بأن يدفع الدية على أقساط معلومة، خلال أزمنة محدودة تسقط الدية عنه، ولا ينبغي له أن يتصرف بما يلحق به الضرر بسبب مطالبته بهذه الدية فهذا أمر لا يسوغ.

والوجه الذي تعين عليه تسليم الدية قوله سبحانه: وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ وهذا فيه الاحتمالان السابقان من الناحية الإعرابية: فليكن منه أداء إليه بإحسان، أو فالأمر أداء، فهذا الإنسان الذي تعينت في حقه الدية ينبغي عليه أن يؤدي هذا الحق الذي عليه، ولا يماطل أولياء الدم ويؤخر التسليم بدون مبرر ولا دافع.

وقوله: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ يقول تعالى: إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفاً من الله عليكم ورحمة بكم، مما كان محتوماً على الأمم قبلكم، من القتل أو العفو، كما روى سعيد بن منصور عن ابن عباس –ا- قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك وأخرجه ابن حبان في صحيحه.

وقال قتادة: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش.

وهكذا روي عن سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، نحو هذا.

وقوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها، فله عذاب من الله أليم موجع شديد.

وهكذا روي عن ابن عباس –ا، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان: أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية.

وهذا هو المشهور والظاهر من الآية، أن من اعتدى بالقتل على القاتل بعد أخذ الدية منه فإنه متوعد بالعذاب الأليم، والعذاب الأليم يشمل عذاب الآخرة وما ينتظره من النكال فيها، وعذاب الدنيا بأن يقتص منه، ويطالب بإرجاع الدية إلى أولياء القاتل الأول، وهذا فيه نظر.

وذهب طائفة من السلف إلى أنه لا يقبل من هذا الذي اعتدى بعد ما قبل الدية، لا تقبل منه دية، ولا يقبل في حقه العفو؛ لأن الله قال: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فهو محمول على قتله، وأن لا لا يقر ولي الدم ويقبل بالعفو ولو طالب بالدية.

والحقيقة أن الله توعده بالعذاب الأليم إلا أنه لم يحدد، ولم يرد دليل في الكتاب ولا في السنة  يدل على أنه لا تقبل منه الدية، وإنما الذي ورد أنه يعامل كغيره من القتلة، والقول بأن الدية ترجع إلى أولياء قاتل الثاني ويكون هذا بهذا، بحاجة إلى نظر، والأقرب أنه يكون كغيره من القتلة، يخير أولياء الدم بين القتل، وبين الدية، وبين العفو.

وأما العذاب الأليم الذي توعده الله به فقد يعجل له في الدنيا، وقد يدخر له في الآخرة، ولكنه لا يفهم منه كما أسلفنا أنه لا تقبل منه دية، ولا يقبل في حقه عفو فلا يوجد دليل يقوم بذلك، وما نقل عن بعض السلف –- فإنه قد نقل ما يخالفه عن غيرهم.

وقوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [سورة البقرة:179] يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم -وهو قتل القاتل-حكمة عظيمة لكم، وهي: بقاء المهج وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل...

قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يأتي القصاص بمعنى المماثلة.

ويأتي بمعنى: اتباع الأثر كما في قوله -سبحانه: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [سورة القصص:11] يعني: اتبعي أثره، وهذا لا يعارض المعنى الأول؛ لأن متبع الأثر يفعل به كما فعل بغيره، حذو القذة بالقذة، هذا معنى اتباع الأثر، إلا إن كان بطريقة محرمة كالقتل بالمسكر، أو بالفاحشة، أو بالإحراق بالنار فلا، ولكن يقتل بمثل ما قتل على قول جماعة من أهل العلم، ويستدلون على هذا بأدلة: حديث أنس بن مالك "أن يهوديا رَضَخ رأس جارية بين حجرين، قيل من فعل هذا بك أفلان أفلان؟ حتى سمى اليهودي: فأومت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر به النبي ﷺ فرُضخ رأسه بين حجرين"[6]، وحديث النفر الذين قتلوا الراعي من العرنيين، فسمل النبي ﷺ أعينهم[7]

ومن أهل العلم من يقول: إنه يقتل بالسلاح فقط،  فإذا قتله بالسيف فإنه يقتل بالسيف، وإن قتله بطعن يطعن دون غيره، وبعضهم يقول: يقتل بالسيف مطلقاً؛ لأن النبي ﷺ قال: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة[8] وتفصيل مثل هذا الكلام في أحاديث الأحكام.

وفي شرع القصاص لكم -وهو قتل القاتل-حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المهج وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس، وفي الكتب المتقدمة...

في هذا الكلام إشارة إلى الحكمة العظيمة من القصاص، وهي ظاهرة في قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، فجاء بها مُنَكَّرة، وهذا التنكير يفهم منه التعظيم من وجهين:

الوجه الأول: أن القاتل أو القاصد للقتل عندما يغلي الدم في عروقه، ويبلغ به الغضب غايته، يتذكر أنه سيعرض على السيف، وأنه سيقتل بالمقتول فيردعه ويخذله ذلك عن الإقدام على القتل، فيكون بذلك حياة لنفسه أولاً، ثم حياة للآخرين فيقلّ القتل، ولهذا قالوا: القتل أنفى للقتل، ولا مقارنة بين قول الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ وبين قول العرب: القتل أنفى للقتل، وقد ذكر بعض أهل العلم سبعة أوجه، أو ثمانية أوجه، من الفروق البلاغية بين التعبيرين، فأين الثرى من الثريا!.

الوجه الثاني: أن العرب في جاهليتهم كانوا إذا قُتل لهم أحد، لا يكتفون بواحد بل يقتلون من وجدوا من عشيرة القاتل، وقد يصل بهم الحد إلى قتل رئيس العشيرة أو القبيلة؛ لأنهم يرون أن القاتل لا يعادل ولا يساوي المقتول في شيء، فلما شرع القصاص على ما أمر الله به أن يقتل القاتل في مقابل المقتول، بقيت النفوس الأخرى مصونة محفوظة لا يصل إليها عدوان ولا قتل، فصار عندنا حياة القاتل، ومن أراد القتل، وحياة الطرف الآخر الذي كان سيوجه إليه القتل، وحياة –أيضا-الآخرين الذين ربما كانوا يقتلون انتقاماً من القاتل، هذا هو المقصود من الحياة في القصاص والله أعلم.

وفي الكتب المتقدمة القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز.

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة.

هناك فرق بين القتل وبين القصاص، فالقتل: قد يكون بحق، وقد يكون بغير حق، وقد يكون بمثلة، وقد يكون بعدوان، ولذا جاء الأمر في آية الإسراء لمثل هذا، قال سبحانه: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ [سورة الإسراء:33]، وعليه فليس كل قتل يحصل به الحياة، إذ قد يتسبب القتل أحياناً في بلايا ورزايا، فالقتل ليس على إطلاقه أنه أنفى للقتل والواقع شاهد، ولك أن تتأمل أين هذا –أنفى للقتل- من قوله حياة؟ فالفرق شاسع والبون كبير، ولهذا خاطب به ذوي العقول فقال: يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ  أي: يا أصحاب العقول الراجحة؛ لأنهم هم الذين يعقلون هذه المعاني.

قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل، فتمنعه مخافة أن يقتل.

وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي مالك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان.

يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:179] يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه، والتقوى: اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.

فائدة:

الآية قد تفسر السياق، والسياق قد يفسره سياق آخر في موضع ثانٍ، وهذا في حالة ما إذا كان السياق متشابهاً،  فيفسر أحدهما بالآخر إذ قد يكون أوضح منه، وهذا مثل قوله -تبارك وتعالى: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:178] فإنه يشبه قوله -تبارك وتعالى- في التركيب: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم [سورة المائدة:95] فالآية نزلت في الصيد، وخاطب الله المؤمنين بحرمة قتل الصيد وهم حرم وقال: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء فجزاء أي: فالحكم جزاء، أو فالواجب جزاء، أو فعليه جزاء، أو فليكن جزاء.

وكذلك قوله في المطلقات: الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:229] فبعد الطلاق مرتان إن أراد أن يراجع فهو بالخيار بين واجبين: إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، إذ لا مجال لبقائها عنده بعد الثالثة.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

  1. رواه البخاري في كتاب الطلاق – باب الإشارة في الطلاق والأمور (4989) (5/2029)، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات – باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلات وقتل الرجل بالمرأة (1672) (3/1299).
  2. رواه الترمذي برقم (1413) (4/25)، ورواه ابن ماجه برقم (2659) (2/ 887)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (13710).
  3. سبق تخريجه.
  4. سبق تخريجه.
  5. رواه أبوداود برقم (2751) (2/89)، وابن ماجه برقم (2683) (2/895)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (11658).
  6. رواه البخاري في كتاب الخصومات – باب ما يذكر في ا لأشخاص والملازمة والخصومة بين  المسلم واليهودي(2282) (2/850)، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات – باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلاتوقتل الرجل بالمرأة (1672) (1299/3).
  7. رواه أحمد في مسند المكثرين من الصحابة – باب مسند أنس بن مالك (12690) (3/163)، وعلق عليه الأرنؤوط بأن إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  8. رواه مسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان –باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة (1955) (3/1548).

مواد ذات صلة