بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:183-184].
يقول تعالى مخاطباً للمؤمنين من هذه الأمة، وآمراً لهم بالصيام وهو: الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله ، لما فيه من زكاة النفوس، وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد.
فقوله -رحمه الله: الصيام هو: الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله ، هذا معنى الصيام الشرعي، وأصله في اللغة: الإمساك.
وكثير ممن يتحدثون عن المعنى الذي لأجله شرع الصيام، تجدهم يلفتون إلى حكم عجيبة وفوائد غريبة، تربط الناس وتشدهم شداً إلى ماديتهم ومصالحهم الدنيوية، فيعددون فوائد الصوم بالنسبة للدم، وبالنسبة للمعدة، وبالنسبة لأمور أخرى، والناس ليسوا بحاجة إلى مزيد من الإغراق فيها، وإن كانت هي وسيلة ناجعة في إقناع الناس وترويضهم على الطاعة، إلا أن الأولى أن لا يعلقوا الناس في الأمور التعبدية بهذه الماديات، وإنما يجعلونها رافدة ومعضدة، وإذا علقوا الناس بشيء فليعلقوه بما يصحح نياتهم ومقاصدهم، فيربطوهم بآخرتهم، وما أعد الله لهم من نزل، والعلم عند الله .
قوله سبحانه:كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ: ذكر الله أنه كما أوجبه علي هذه الأمة فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة، ولذا قال كُتب أي: فرض.
وقوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ الكلام في الكاف كلام طويل، والعلماء مختلفون في دلالة التشبيه اختلافاً كثيراً، هل هي تشبيه في أصل الفرضية؟ أو أنها تشبيه في الوقت والمقدار؟ أو أنها تشبيه في الصفة؟ هذه ثلاثة احتمالات، فإذا قلنا: إنها تشبيه في أصل الفرضية، صار المعنى أن الله فرض عليكم الصيام كما فرضه على الذين من قبلكم، أي: أنكم لستم الذين يفرض عليكم الصيام فحسب، بل كان مفروضاً على الأمم التي مضت، فلا يلزم من ذلك أن يكون الصوم عندهم في رمضان، وأنه كان لمدة شهر ثم زادوا عليه، أو أنه كان بصفة معلومة فكان ذلك فرضاً على هذه الأمة بتلك الصفة؛ حيث يحرم عليهم ليلة الصيام الوقاع مثلاً، أو أن الواحد إذا أفطر ثم حصل له نوم بعد ذلك فإنه يحرم عليه أن يأكل أو يشرب حتى يفطر في اليوم الآخر، فيلزمه مواصلة الصيام.
والصوم شرع تشريعاً متدرجاً لهذه الأمة، كان أهل الجاهلية يعرفون عاشوراء، ويصومونه، ربما يكون ذلك انتقل إليهم من بني إسرائيل، كانوا يعرفونه في مكة، ولما قدم النبي ﷺ المدينة ورأى اليهود، كما هي القصة المعروفة، قال: نحن أحق بموسى منكم فصامه ﷺ وأمر الناس بصيامه"[1]، فكان ذلك فرضاً، ثم بعد ذلك شرع للناس صيام رمضان، ولكنه كان على التخيير، من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم كما سيأتي في قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [سورة البقرة:184]، وذلك لأن الصيام عبادة شاقة إذا كانت النفوس ما اعتادت عليها فإنها تحتاج إلى التهيئة والترويض، ثم كان الصوم بهذه الكيفية.
وإذا قلنا إن التشبيه في الوقت والمقدار، بمعنى أنه كان يجب عليهم أن يصوموا شهراً كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:184]، فكان يجب عليهم شهراً ثم زادوا فيه وتلاعبوا بالصوم، وجعلوه في فصل الربيع، فزادوا فيه في مقابل ذلك، بمعنى أنه يصوم في شهر رمضان ولمدة شهر كامل، فعلى هذا لا نسخ في الوقت والمقدار.
وعلى القول بأن التشبيه في الصفة فتكون الآية بهذا الاعتبار قد تخللها النسخ، فيحرم عليهم في ليلة الصيام الوقاع والأكل والشرب إذا حصل منهم نوم، أو كما جاء في بعض الآثار كان يفطر إلى العشاء، ولا يحل له بعد العشاء أن يأكل، أو يشرب، أو يواقع، إلى اليوم الثاني حتى أنزل الله قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ [سورة البقرة:187]، وقال أيضاً: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ فألغى الحكم الأول، والقول بالنسخ هو مذهب جمع من أهل العلم منهم الحافظ ابن كثير، وأبو عبيد القاسم بن سلام، والعلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان، فالناسخ أحل لكم ليلة الصيام، فيكون هذا هو النسخ الأول في آية الصيام، والنسخ الثاني وليس محل اتفاق أيضاً هو في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [سورة البقرة:184] بناء على أن التشبيه في الصفة، وليس في أصل الفرضية، أو في الوقت والمقدار، والله أعلم.
وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ [سورة المائدة:48] الآية.
ولهذا قال هاهنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183]؛ لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء[2].
وإيراده لمثل هذا الكلام إصرار منه على تأكيد مذهبه في حكمة مشروعية الصوم، على خلاف ما ذهب إليه ابن جرير من أن معنى قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أي: تتقون المفطرات من أكل، وشرب، ووقاع، مثلما اتقوا.
تهوين فرض الصيام وتخفيفه عنهم يكمن في أمور:
الأول أنه قال: أنتم لستم وحدكم من فرض عليكم الصيام، وإنما هو طريق مسلوك، وشرع معهود، وفعل معروف، ودرب سلكه سالكون قبلكم فأنتم على أثرهم.
ثانياً: قال لهم: إن ذلك شرع من أجل تحقيق التقوى.
ثالثاً: أنه حصره في فترة محددة فقال: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ.
رابعاً: ذكر التخفيف فيه، على المريض والمسافر، مع التخيير للمطيق.
خامساً: أنه بين حكمته في هذا التخفيف، وأنه يريد اليسر بعباده، لا يريد بهم المشقة الخارجة عن طوقهم، كل هذه التلطف وهو غني عنهم .
وفي نصب أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ إعرابان: الأول: أن يكون منصوباً بناءً على أنه مفعول ثانٍ لكتب، إذ الصيام في الأصل هو المفعول الأول، لكن لما حذف الفاعل صار نائباً للفاعل، والتقدير: كتب أيام.
الثاني: النصب على اعتبار أنه ظرف زمان مقطوع.
وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة -ا- أنها قالت: "كان عاشوراء يصام، فلما نزل فرْض رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر".
وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله.
وقع في الصوم ثلاثة من النسخ، نسخ فرض صوم عاشوراء ليصير بعد ذلك مستحباً، ثم نسخ وقع في صفة الصوم من جهة ما ذكرت فيما يتعلق بليلة الصيام، وثالث أيضاً وقع فيما يتعلق بالترخيص للمطيق، أن يتحول إلى البدل وهو الإطعام.
قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ يطيقونه هذه القراءة المتواترة، وجاء عن ابن عباس أنه قرأ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُوْنَهُ وهي قراءة ليست متواترة، وفي رواية: يَطّيّقُونَه ومعناها على الراجح أي: الذين يطيقون الصيام لهم أن يتحولوا إلى بدل وهو الإطعام، إذ ليس بلازم لكل أحد أن يصوم في أول الأمر، بل هو بالخيار بين الصيام، وبين الإطعام، وهذه الشهور في معنى هذه القراءة، وبناءً عليه تكون هذه الآية أيضاً منسوخة بقوله: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [سورة البقرة:185]، فصار ذلك لازماً لكل مطيق، إلا أن يكون مسافراً أو مريضاً يرخص له الفطر.
وقيل: إن قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ بمعنى يتكلفونه، ومنه قراءة "يُطَوَّقُونَه"، أو قراءة "يَطّوَّقونَه" أو "يَِطّيّقُونَه" فكلها بمعنى يتكلفون الصوم ويشق عليهم، فمثل هؤلاء الذين ضعفت قواهم فإنه يرخص لهم أن يتحولوا إلى البدل وهو الإطعام، وعليه فلا يكون في الآية نسخ، والله أعلم.
قوله: يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ أهل الشام والمدينة يقرءونها بالإضافة، فتكون وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعَامِ مِسْكِينٍ، ومسكين أيضاً على قراءة أهل المدينة والشام تقرأ بالجمع "مساكين"، والمعنى واحد؛ لأن المسكين جنس يطلق على الواحد والكثير، فدية طعام مسكين أو طعام مساكين، فيمكن أن يعطى طعام من أيام متعددة لمسكين واحد، أو لمساكين متعددين، فيحتمل الوجهين بخلاف ما إذا ذكر العدد بأن قال: عشرة مساكين، أو ستين مسكيناً، أو نحو هذا فلابد من استيعاب العدد من المساكين على الراجح.
وقوله: فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ الفدية: بمعنى الجزاء
كما قال معاذ -: كان في ابتداء الأمر من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً.
وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [سورة البقرة:184]، كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها[3].
وروي أيضاً من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر -ا- قال: هي منسوخة.
وقال السدي عن مرة عن عبدالله......
الراجح في هذه الآية أنها منسوخة بقوله سبحانه: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [سورة البقرة:185]، وبه قال كثير من أهل العلم كابن جرير، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وآثارهم صريحة في ذلك، ومن المعاصرين محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.
بمعنى يشق عليهم الصيام لزمانة أو لتقدم في العمر.
قال عبد الله: فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً.
فَمَن تَطَوَّعَ يقول: أطعم مسكيناً آخر.
قوله: فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا وفي قراءة حمزة والكسائي فَمَن يَطّْوع، والمراد أطعم مسكيناً آخر وهذا الأقرب.
وقيل معناه: يزيد في إطعام المسكين الواحد على أي تقدير، وبعضهم يقول: تَطَوَّعَ خَيْرًا بالجمع بين الصوم والإطعام، وبعض أهل العلم يقول: بما أن الله لم يحدد شيئا دون شيء فإنه يحمل على هذه الزيادة التطوعية، فيكون ذلك من الزيادة التي يحبها الله، وهي خير للإنسان؛ لأنها تزيد في تقربه.
بناء على أنه مخير بين الفدية والصيام هذا على قول الجمهور بأن الآية منسوخة بالآية الأخرى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وعلى القول بأنها ليست منسوخة، والتخيير للقادرين لم يثبت، فالمعنى وأن تصوموا في السفر الذي ليس فيه مشقة كبيرة عليكم، والمرض الذي لا يفضي بكم إلى العطب أو الضرر هو خير وأفضل لكم؛ لأنه أبرء للذمة، وإيقاع لهذا العبادة الشريفة في وقتها الأصلي، وهو وقت شريف لا يجد عنه عوضاً، ولهذا كان عمر بن الخطاب يحب أن يقضي رمضان في العشر من ذي الحجة؛ لأنها أفضل الأيام عند الله .
لكن الراجح أنها منسوخة، وأن قوله: وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ، سائر على التخيير بين الإطعام والصيام.
وصلىالله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه وسلم.
- رواه البخاري في كتاب الصوم –باب صيام يوم عاشوراء برقم (1900) (2/704).
- رواه البخاري في كتاب النكاح –باب قول النبي ﷺ من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج برقم (4778) (5/1950) ، ورواه مسلم في كتاب النكاح –باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم برقم (1400) (2/1018).
- رواه البخاري في كتاب التفسير –باب سورة البقرة برقم (4237) (4/1638)، ورواه مسلم في كتاب الصيام –باب بيان نسخ قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ بقوله: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ برقم (1145) (2/802).