السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {الر} الآية 1 إلى قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} الآية 10.
تاريخ النشر: ٠٢ / جمادى الأولى / ١٤٢٨
التحميل: 3871
مرات الإستماع: 3039

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

تفسير سورة يوسف وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ۝ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۝ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [سورة يوسف:1-3].

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقوله: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ أي: هذه آيات الكتاب وهو القرآن المبين أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدأ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان فكمل من كل الوجوه؛ ولهذا قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن.

وقد ورد في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن جرير عن ابن عباس -ا- قال: قالوا: يا رسول الله ﷺ لو قصصت علينا؟ فنزلت: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ يقول الحافظ -رحمه الله: ”وهو القرآن المبين، أي: الوضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها“، وهذا ظاهر الآية، ويحتمل أن يكون من أبان أو من بان بمعنى أنه ظاهر أمره؛ لأن الله -تبارك وتعالى- أنزله مبيناً، أو أنه مبينٌ لما فيه من الأحكام، وهذه المعاني جميعاً تحتملها هذه الجملة، وكلها صحيحة -والله تعالى أعلم، فالقرآن مبينٌ لمن قرأه أو سمعه أنه من عند الله وليس من كلام البشر، كما أنه مبين للأحكام، وأنه في غاية الوضوح، ليس فيه إلغاز ولا غموض، كما قال -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [سورة القمر:17].

وسبب نزول هذه الرواية التي ذكرها في قوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ عن ابن عباس -ا، لما سألوا النبي ﷺ لا تخلو من ضعف، لكن ورد بسياق أطول من هذا عن سعد بن أبي وقاص أنهم سألوا النبي ﷺ أن يحدثهم، فنزلت.

ثم سألوه أن يحدثهم فنزل قول الله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [سورة الزمر:23].

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4].

يقول تعالى: اذكر لقومك يا محمد في قصصك عليهم من قصة يوسف إذ قال لأبيه، وأبوه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام، وقال ابن عباس -رضي لله تعالى عنهما: رؤيا الأنبياء وحي، وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام أن الأحد عشر كوكباً عبارة عن إخوته وكانوا أحد عشر رجلاً سواه، والشمس والقمر عبارة عن أمه وأبيه، روي هذا عن ابن عباس -ا- والضحاك وقتادة وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة، وقيل: ثمانين سنة، وذلك حين رفع أبويه على العرش -وهو سريره- وإخوته بين يديه وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [سورة يوسف:100].

قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة يوسف:5].

يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لابنه يوسف -عليهما السلام- حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي تعبيرها خضوع إخوته له، وتعظيمهم إياه تعظيماً زائداً، بحيث يخرون له ساجدين إجلالاً واحتراماً وإكراماً، فخشي يعقوب أن يحدّث بهذا المنام أحداً من إخوته فيحسدوه على ذلك فيبغوا له الغوائل حسداً منهم له، ولهذا قال له: لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا أي: يحتالوا لك حيلة يُرْدُونك فيها، ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله ﷺ قال: إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر وليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من شرها ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره[1]، وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن من رواية معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: قال رسول الله ﷺ: الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعبر فإذا عُبرت وقعت[2].

هذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم، وقال البعض: إنه من قبيل الحسن لغيره، ثم قالوا: إن أبا بكر طلب من النبي ﷺ أن يعبر الرؤيا، والنبي ﷺ أذن له بهذا، فعبرها ثم سأل النبي ﷺ هل أصاب أو أخطأ؟ فأخبره أنه أصاب بعضاً وأخطأ في بعض، فلو كانت تقع بحسب ما حصل من تعبيرها فإن ذلك خلاف ظاهر الحديث، يعني لو كان كذلك فإن النبي ﷺ لا يقره على هذا التعبير ولا يأذن له فيه؛ لئلا تقع على غير الوجه، ويحتمل أنها تقع على ما هي عليه ولو أخطأ المعبر في تفسيرها، ويحتمل أن تكون تقع بحسب ما فسرت، هذه بعض الروايات، وكلام بعض أهل العلم عليها في هذا الحديث.

قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى: حدثنا هشيم قال: أخبرنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين قال: قال رسول الله ﷺ: الرؤيا على رجل طير ما لم تُعبر فإذا عُبرت وقعت، قال: والرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، قال: وأحسبه قال لا يقصها إلا على وادٍّ أو ذي رأي[3]، له شاهد من حديث أنس عند الحاكم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرؤيا تقع على ما تعبر، ومثل ذلك مثل رجُل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً[4] وصحح إسناده ووافقه الذهبي.

وآخر من حديث عائشة -ا- عند الدارمي بسند حسنه الحافظ في الفتح، قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف -يعني في التجارة- فأتت رسول الله ﷺ فقالت: إن زوجي غائب وتركني حاملاً، فرأيت في المنام أن سارية بيتي انكسرت، وأني ولدت غلاماً أعور، فقال: خيرٌ يرجع زوجك إن شاء الله صالحاً وتلدين غلاماً برّا، فذكرت ذلك ثلاثا، فجاءت ورسول الله ﷺ غائب، فسألتها فأخبرتني بالمنام، فقلت: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك وتلدين غلاماً فاجراً، فقعدت تبكي، فجاء رسول الله ﷺ فقال: مه يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فاعبروها على خير، فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها[5].

وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن عطاء كان يقال: الرؤيا على ما أولت. قال السندي: قوله على رجل طير بكسر الراء، أي: كأنها معلقة برجل الطير، قيل هذا مثل، والمراد أنها لا تستقر قرارها ما لم تعبر، فإن الطير في غالب أحواله لا يستقر، فكيف ما يكون على رجله؟

قوله: ما لم تُعْبَر، على بناء المفعول من عبَر كنصر، ويجوز التشديد، وقوله: جزء إلى آخره.

هذا المعنى الذي ذكر من كون الطائر لا يستقر وأنها لا تستقر إلى آخره، يعني أنها لا تقع بحسب التعبير، فلو أخطأ المخطئ في تعبيرها كما أخطأ أبو بكر في بعض ما عبر فيه تلك الرؤيا، فهؤلاء يقولون: إنها تقع بحسب معناها وليس بحسب ما عُبرت به.

وقوله: جزء إلى آخره: حقيقة التجزؤ لا تدرى، والروايات أيضاً مختلفة، والقدر الذي أريد إفهامه هو أن الرؤيا لها مناسبة بالنبوة من حيث إنها اطلاع على الغيب بواسطة الملَك إذا كانت صالحة، فعن النبي ﷺ قال: الرؤيا معلقةٌ برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها، فإذا حدث بها وقعت ولا تحدثوا بها إلا عالماً أو ناصحاً أو لبيباً، والرؤيا الصالحة جزءٌ من أربعين جزءاً من النبوة[6].

قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- في التمهيد: اختلاف آثار هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا من النبوة ليس ذلك عندي باختلاف تضاد وتدافع -والله أعلم-؛ لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على ستة وأربعين جزءاً، أو خمسة وأربعين جزءاً، أو أربعة وأربعين جزءاً، أو خمسين جزءاً أو سبعين جزءاً على حسب ما يكون الذي يراها من صدق الحديث وأداء الأمانة والدين المتين وحسن اليقين، فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد -والله أعلم، فمن خلصت له نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه كانت رؤياه أصدق، وإلى النبوة أقرب، كما أن الأنبياء يتفاضلون، والنبوة كذلك -والله أعلم.

وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة يوسف:6].

يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لولده يوسف -عليهما السلام: إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك، وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أي: يختارك ويصطفيك لنبوته، وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ قال مجاهد وغير واحد: يعني تعبير الرؤيا وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أي: بإرسالك والإيحاء إليك؛ ولهذا قال: كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وهو الخليل وَإِسْحَقَ ولده ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: هو أعلم حيث يجعل رسالته، كما قال في الآية الأخرى.

في قوله -تبارك وتعالى: وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ يحتمل أن يكون المراد كما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهو الظاهر المتبادر، وهو الذي دلَّ عليه القرآن، فالله علم يوسف ﷺ تعبير الرؤى كما قال -تبارك وتعالى: وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [سورة يوسف:21]، وهكذا قوله ﷺ في هذه السورة فيما ذكره الله : وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [سورة يوسف:101]، ومعلوم ما وقع له مع صاحبيه في السجن، قال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ... [سورة يوسف:41] إلى آخر ما ذكر، وفي رؤيا الملِك قال لهم: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا... [سورة يوسف:47] الآية، فهذا هو الظاهر الذي دلت عليه هذه الآيات في هذه السورة.

ويحتمل أن يكون المراد بتعبير الأحاديث أي الكلام -والله وصف كتابه بقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [سورة الزمر:23]- وما جاء في سنن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فتعليمه لتأويل الحديث يعني ما نزل من كتب الله وما جاء أيضاً من سنن الأنبياء، فهذا معنى تحتمله الآية والله قال: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا[سورة يوسف:22].

والمعنى الأول هو الظاهر والأقرب وعليه عامة أهل العلم، بل إن من أهل العلم من نقل على هذا الإجماع، ولكن هذا الإجماع قد يقصد به قول أكثر المفسرين، وإلا فإن منهم من قال غيره، والعلامة الشنقيطي -رحمه الله- ذكر المعنيين وقال: إن الآية تحمل عليهما، فالآية التي تحتمل معنيين ويدل على كل واحدٍ منهما دليل من القرآن فأكثر، لا يوجد مانع من حملها على هذه المعاني، فتحمل عليها.

لكن قوله -تبارك وتعالى: آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا قد لا يكون دليلاً واضحاً فيما ذكر من أن المقصود بتأويل الأحاديث تفسير الكتب التي أنزلها الله  أو كلام الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

فالأقرب -والله تعالى أعلم- أن يحمل ذلك على المعنى الأول.

لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ۝ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ۝ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ۝ قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ [سورة يوسف:7-10].

يقول تعالى: لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته آيات أي عبرة ومواعظ للسائلين عن ذلك المستخبرين عنه، فإنه خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه، إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا أي: حلفوا فيما يظنون: والله ليوسف وأخوه يعنون بنيامين وكان شقيقه لأمه.

القسم ينقسم إلى قسمين: ظاهر، ومضمر، فالمضمر من القسم هو ما حذف منه فعل القسم وحرف القسم والمقسم به، هذا يقال له مضمر، ويستدل عليه باللام مثلاً إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ والتقدير أنهم قالوا: والله ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا.

وقوله: لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ أي: للسائلين عن خبره، بعضهم يقول: هذا في النبي ﷺ، وبعضهم يقول: لكل من سأل عنه أو طلب هذا، وبعضهم يذكر بعض المرويات التي لا تصح من أن بعض اليهود سألوا النبي ﷺ عن خبره اختباراً له، فالله أطلق هذا آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ بما تضمنته هذه السورة من الأمور العجيبة والعواقب الحميدة، وما يدبره الله لأوليائه وما يحصل لهم من الابتلاء، ونقلهم من حال إلى حال، ومن طورٍ إلى طور، حتى يبلغوا ألوان الكمالات، إلى غير ذلك من العجائب الموجودة في هذه السورة.

قوله عن بنيامين: ”وكان شقيقه لأمه“، هذا جاء في بعض الروايات وهي متلقاة عن بني إسرائيل، كان شقيقه لأمه بمعنى أن شقيقه لأمه هو شقيقه لأمه وأبيه، ويقصد أن بقية الإخوة كانوا من أم أخرى، وبعض الروايات فيها غير هذا، -فالله تعالى أعلم.

أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي جماعة، فكيف أحب ذيْنك الاثنين أكثر من الجماعة؟ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ يعنون في تقديمهما علينا ومحبته إياهما أكثر منا.

الضلال في القرآن يأتي لمعنيين، المعنى الأول هو الغالب في الاستعمال وهو الذهاب عن الحق، هذا أكثر ما ورد فيه الضلال في القرآن غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7]، ورَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا [سورة الأعراف:38]، وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [سورة الصافات:71]، وهم لا يقصدون هذا؛ لأنهم لو قصدوا هذا كفروا، كيف يقولون عن نبي كريم: إنه في ضلال، وإنما يقصدون المعنى الآخر الذي ربما يكون هو أصل معناه في لغة العرب، وهو الذهاب عن حقيقة الشيء مطلقًا، فهو في ضلالٍ مبين، وكما قالوا أيضًا: لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95]، يعني الذهاب عن الحق في حقيقة ما وقع ليوسف -عليه الصلاة والسلام- هكذا، إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ، أي: في ذهابٍ عن الحق في هذا التصرف والنظر، حيث آثر اثنين على هؤلاء العصبة، والعصبة أكثر نفعًا ودفعًا، وهؤلاء صغار، فكيف يؤثرهم على البقية؟.

هذا هو المقصود وهذا معنىً معروف في كلام العرب، كما جاء كثيرًا في أشعارهم، ومن ذلك قولهم: ضل اللبن في الماء، يعني ذهب، أو ضل الماء في اللبن يعني ذهب، واختلط به، ولم يتميز، وهكذا يقال عن دفن الميت: إنه إضلال له؛ لأن هذا الميت يغيب في التراب.

فآبَ مُضلِّوه بعينٍ جليةٍ وغودر بالجولان حزمٌ ونائلُ

يعني بمضلوه أي دافنوه.

وقول الشاعر عندما يذكر الأطلال

ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا

فالحي العرب، والمضلل يعني الذاهب، أين ساروا يعني الذين ذهبوا.

فالمقصود بقوله: لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ أي: ذهابٍ عن الحق في هذه القضية بعينها.

 قوله: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي: ونحن جماعة، البعض يقول هم العشرة فما فوق، وقيل: من العشرة إلى الخمسة عشر هؤلاء يقال لهم عصبة.

اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يقولون: هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم أعدموه من وجه أبيكم ليخلو لكم وحدكم، إما بأن تقتلوه أو تلقوه في أرض من الأراضي تستريحوا منه وتخلوا أنتم بأبيكم.

قوله: اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ربما يكون هذا باعتبار اختلاف الأقوال، وليس باعتبار أن القائل واحد يقول اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا، وإنما هذا مجموع الأقوال، والمعنى: اطرحوه أرضًا بعيدة لا يحصل له الرجوع بعد ذلك؛ لأن هذا الأب قد شغل عن هؤلاء الأولاد العصبة بهذين الولدين، هكذا في نظرهم، وأن هؤلاء قد استحوذوا على اهتمامه، شغلوا قلبه عنهم، فهم يقولون: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ إذا تخلصتم من هؤلاء لم يكن لهذا الأب سواكم، فتستحوذوا على همه، وهذا كله من العجائب التي في قصة يوسف -عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء ليسوا بأناسٍ صغار، هؤلاء رجال كبار، وقيل: إنهم كانوا أنبياء، وهذا فيه بعد.

يعني قد يكون حصلت لهم نبوة بعد ذلك، لكن كيف يقع من أنبياء محاولة قتل، أو التفكير في قتل أخ لهم، وهذا العقوق العظيم للأب، والكذب، هذا لا يقع من أنبياء، وإن قال بهذا بعض أهل العلم، فمهما يكن هؤلاء أولاد نبي كريم، وابن نبي ابن نبي، نسب ممتد بأنبياء، وجدهم إبراهيم ﷺ هو أبو الأنبياء، ومع ذلك يقع منهم مثل هذا، نبي قام بتربيتهم ومع ذلك وصل بهم الأمر إلى هذا الحد، محاولة القتل أو الإلقاء في البئر، فلا يمكن للإنسان أن يفعل عشر معشار هذا بأبعد الناس إليه، فكيف يفعله بأقرب الناس إليه؟ وصغير يريدون قتله أمر عظيم وشنيع، فهذه الغيرة وقعت من هؤلاء مع اجتماع هذه الأمور، ليسوا بأطفال، فهذا يدل على أن مثل هذه الأمور يجب مراعاتها في تربية الأولاد، أو التعامل مع الناس المشتركين في شيء واحد؛ لأن هذا يحرك الغيرة في نفوسهم، سواء كانوا صغارًا أو كبارًا، إذا رأوا إيثارًا لأحدٍ منهم.

وهذه الأشياء التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- عنهم بأنهم يريدون أن يفعلوا كل هذا، ثم يريدون أن يكونوا من بعده صالحين، على القول بأن المراد بذلك التوبة، كيف يقدم الإنسان على هذا ويرجو لنفسه التوبة بعده؟ وقول يعقوب ﷺ منذ البداية لولده: لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا وهذا لم يكن مستبعدًا عند يعقوب -عليه الصلاة والسلام؛ لذلك من الخطأ أن الإنسان يتحدث عن أمورٍ حباه الله بها واختصه بها عند كل أحد، يعني من الناس من يتحدث عن أشياء كثيرٌ من الناس قد فقدوها، من حاله وما حصل له من التوفيق في تجارته، وفي زواجه وفي دراسته وفي كذا، فهذا يحرك كثيرًا من النفوس.

والتحدث بنعمة الله  يمكن أن يحصل على سبيل الإجمال، لا يجحد ولا ينكر كما يفعل بعض الناس، والله المستعان.

وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ فأضمروا التوبة قبل الذنب.

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- اختاره جماعة، منهم كبير المفسرين ابن جرير أنهم أرادوا أن يفعلوا الذنب ويتوبوا من بعده، فيكونوا قومًا صالحين، يعني بالتوبة، وبعضهم يقول وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ يعني في أمور دينكم، وقيل: في دنياكم، تَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ يعني تصلح لكم الحياة وأمور المعاش والعلاقة بالأب، فلا تبقى حالكم بهذه المثابة من اشتغال قلب أبيكم بيوسف وأخيه، فهذا الذي قد شغله عنكم يذهب، وبعد ذلك يكون نظره إليكم، فأفكارهم يحركها الحسد والضغائن التي تقع في نفوسهم وتتجدد كلما رأوا هذا الوالد قد اهتم به وأولاه عنايةً.

قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ قال قتادة ومحمد بن إسحاق: وكان أكبرهم واسمه روبيل، وقال السدي: الذي قال ذلك يهوذا، وقال مجاهد: هو شمعون الصفا.

هذا من الإسرائيليات التي لا فائدة من ذكرها، والتي كان ينبغي أن يخلو عنها هذا المختصر.

لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ أي: لا تصلوا في عداوته وبغضه إلى قتله، ولم يكن لهم سبيل إلى قتله؛ لأن الله تعالى كان يريد منه أمرًا لا بد من إمضائه وإتمامه من الإيحاء إليه بالنبوة ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب، وهو أسفله.

الغيابة: كل شيء غيّب غيره يقال له غيابة؛ ولهذا جاء في سورة البقرة وآل عمران: كأنهما غيابتان[7] وفي صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهلى قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: اقرءوا القرآن فإنه يأتى يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة[8]، فكل شيء غيّب غيره فإنه يقال له غيابة، وغَيَابَةِ الْجُبِّ الجب هو البئر العميقة جدًا، بحيث إذا نظرت إلى قعرها فإنك لا تبصرها؛ لعمقها.

يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي: المارة من المسافرين فتستريحوا منه بهذا ولا حاجة إلى قتله.

السيارة من السير، الجمع الذين يسيرون مع بعضهم يقال لهم سيارة، يسيرون في الطريق فيأخذونه، وبعضهم يفسر الالتقاط بمعنىً أخص من مجرد الأخذ، وهو أخذ الشيء من مضيعة، الشيء المشرف على الضياع يقال له التقاط، والتقط؛ ولهذا يقال لقطة، ولقيط.

إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ أي: إن كنتم عازمين على ما تقولون.

قال محمد بن إسحاق بن يسار: لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد وقلة الرأفة بالصغير الضَّرَع الذي لا ذنب له، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل، وخطره عند الله مع حق الوالد على ولده؛ ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه، مع مكانه من الله فيمن أحبه طفلًا صغيرًا، وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه.

يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين فقد احتملوا أمرًا عظيمًا، رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل عنه.

  1. رواه البخاري برقم (6637)، كتاب التعبير، باب إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها، ومسلم برقم (2261) عن أبي سلمة بلفظ قال: " إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني، قال فلقيت أبا قتادة فقال: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت رسول الله ﷺ يقول: الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ من شر الشيطان، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره، كتاب الرؤيا.
  2. رواه أبو داود برقم (5020)، كتاب الأدب، باب ما جاء في الرؤيا، من حديث أبي رزين ، وابن ماجه برقم (3914)، كتاب تعبير الرؤيا، باب الرؤيا إذا عبرت وقعت فلا يقصها إلا على وادّ، وأحمد في المسند (26/100)، برقم (16182)، وقال محققوه: حديث حسن لغيره، من حديث أبي رزين ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3535).
  3. رواه أحمد في المسند (26/100)، برقم (16182)، وقال محققوه: حديث حسن لغيره.
  4. رواه الحاكم في المستدرك (4/433)، برقم (8177)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (120)، وصححه في صحيح الجامع (1612).
  5. رواه الدارمي في سننه (2/174)، برقم (2163)، وقال محققه حسين سليم أسد: إسناده رجاله ثقات غير أن ابن إسحاق قد عنعن، ومع ذلك فقد قال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، قلت: وكذا قال الأرنؤوط ان في تحقيق زاد المعاد: إسناده حسن.
  6. رواه أحمد في المسند من حديث أبي رزين (26/103)، برقم (16183)، وقال محققوه: حديث حسن لغيره.
  7. صححه الألباني في صحيح الجامع برقم (13954)، من حديث النواس بن سمعان .
  8. رواه مسلم برقم (804)، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.

مواد ذات صلة