الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[3] من قوله تعالى: {وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} الآية 19 إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الآية 22.
تاريخ النشر: ٠٥ / جمادى الأولى / ١٤٢٨
التحميل: 3523
مرات الإستماع: 2337

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ۝ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [سورة يوسف:19، 20].

يقول تعالى مخبراً عما جرى ليوسف حين ألقاه إخوته وتركوه في ذلك الجب وحيداً فريداً، فمكث في البئر ثلاثة أيام فيما قاله أبو بكر بن عياش، وقال محمد بن إسحاق: لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك ينظرون ماذا يَصنع وما يُصنع به، فساق الله له سيارة فنزلوا قريباً من ذلك البئر وأرسلوا واردهم وهو الذي يتطلب لهم الماء، فلما جاء ذلك البئر وأدلى دلوه فيها تشبث يوسف فيها فأخرجه واستبشر به وقال: يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ.

وقال العوفي عن ابن عباس -ا- قوله: وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً يعني: إخوة يوسف أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، واختار البيع، فذكره إخوته لوارد القوم فنادى أصحابه يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ يباع فباعه إخوته.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ [سورة يوسف:19]، السيارة هم المجموعة من الرفقاء المسافرين السفر، وقول ابن كثير –رحمه الله: "فمكث في البئر ثلاثة أيام" هذه الرواية مما أخذ عن بني إسرائيل.

وقد قصد إخوة يوسف وضْعه في مكانٍ يمر عليه المسافرون؛ لأنهم قالوا: وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [سورة يوسف:10]، فهو في مكانٍ يأتيه الناس من أجل أن يستقوا منه الماء، والله تعالى أعلم.

قوله –تبارك وتعالى: فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ [سورة يوسف:19]، أي: أرسلوا الذي يستقي لهم الماء فَأَدْلَى دَلْوَهُ والدلو هو ما يستقى به، قال: يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وقرأ الجمهور يا بشرَايَ.

والنداء في قوله: يَا بُشْرَى هو للبشرى وهذا معروف في كلام العرب، خلافاً لمن زعم أن قوله: يَا بُشْرَى نداء لرجل اسمه بشرى، وهذا القول وإن قال به بعض السلف إلا أنه بعيد غاية البعد، وهو من غرائب التفسير ولا يدل عليه السياق.

قوله: وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً [سورة يوسف:19] أي: أسروه حال كونه بضاعة، ومعنى أسروه أي: أنهم كتموا أمره، والضمير في قوله: وَأَسَرُّوهُ، يحتمل أن يكون راجعاً إلى إخوة يوسف، وهذا هو اختيار ابن كثير –رحمه الله- وقد ذكر رواية العوفي عن ابن عباس –مع ضعف هذه الرواية- فقال: "يعني: إخوة يوسف أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته واختار البيع فذكره إخوته لوارد القوم فنادى أصحابه يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ يباع فباعه إخوته"، وقد جاء في بعض الروايات الإسرائيلية أنهم قالوا: هذا مملوكٌ لنا آبق، فلما استُخرج من البئر باعوه من المسافرين، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً راجعاً إلى الوارد المستقي وأصحابه من التجار، وهذا اختيار ابن جرير –رحمه الله.

قوله –تبارك وتعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [سورة يوسف:20] يحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى إخوة يوسف، وهو اختيار ابن جرير –رحمه الله- ومعنى وَشَرَوْهُ أي: باعوه، ويرجح هذا المعنى قوله: وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، وهم إخوة يوسف، أما الذين وجدوه فقد حرصوا عليه غاية الحرص، ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الذين وجدوه في غيابة الجب.

وقوله: وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ أي: عليم بما يفعله إخوة يوسف ومشتروه، وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه، ولكن له حكمة وقدر سابق، فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:54].

قوله: وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ، أي: عليمٌ بمكر إخوة يوسف، فهو عليم بكل شيء، وقد تجلى هذا العلم في هذه القضية عن هذه العواقب العظيمة، وما وقع ليوسف -عليه الصلاة والسلام- من ألوان البلاء من إلقائه في البئر، ودخوله في السجن بتهمة سيئة في غاية السوء، ويبقى في هذا السجن هذه السنوات الطويلة.

وقد قال بعض أهل العلم: إن نعمة خروج يوسف ﷺ من السجن أعظم من نعمته عليه بخروجه من البئر.

وفي هذا تعريض لرسوله محمد ﷺ وإعلام له بأنّي عالم بأذى قومك لك وأنا قادرٌ على الإنكار عليهم، ولكني سأملي لهم ثم أجعل لك العاقبة والحكم عليهم كما جعلت ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته.

وقوله: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ [سورة يوسف:20]، يقول تعالى: وباعه إخوته بثمن قليل، قاله مجاهد وعكرمة، والبخس: هو النقص، كما قال تعالى: فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا [سورة الجن:13] أي: اعتاض عنه إخوته بثمن دونٍ قليلٍ، ومع ذلك كانوا فيه من الزاهدين أي ليس لهم رغبة فيه بل لو سُئلوه بلا شيء لأجابوا، قال ابن عباس -ا- ومجاهد والضحاك: إن الضمير في قوله: وَشَرَوْهُ عائد على إخوة يوسف.

قوله: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي: بثمنٍ قليل، وقال بعض أهل العلم: أي بثمنٍ يحرم عليهم أخذه، فقد باعوا حراً كريماً نبياً وهو أخٌ لهم بثمنٍ بخس، كما قال الشاعر:

بدلتُ بالجمة رأساً أزعرا
وبالثنايا الواضحات الدردرا
كما اشترى المسلم إذا تنصرا

قوله: دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ الدراهم هي التي توزن، أما إذا كانت قليلة فالعادة أنها تعد ولا توزن فإذا بلغت أربعين درهماً فإنها توزن.

وكانوا قد باعوه بأنقص الأثمان ولهذا قال دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ فعن ابن مسعود -: باعوه بعشرين درهماً.

وكذا قال ابن عباس -ا- ونوف البكالي والسدي وقتادة وعطية العوفي وزاد: اقتسموها درهمين درهمين، وقال الضحاك في قوله وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وذلك أنهم لم يعلموا نبوته ومنزلته عند الله .

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ۝ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [سورة يوسف:21، 22].

يخبر تعالى بألطافه بيوسف أنه قيض له الذي اشتراه من مصر حتى اعتنى به وأكرمه وأوصى أهله به وتوسم فيه الخير والصلاح، فقال لامرأته: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا.

معنى أَكْرِمِي مَثْوَاهُ أي: أكرمي منزله بالطعام الطيب واللباس الحسن، وهيئي له ما يحتاج إليه من أطايب اللباس والطعام.

وكان الذي اشتراه من مصر عزيزها وهو الوزير بها، وقال أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، والمرأة التي قالت لأبيها يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [سورة القصص:26] الآية، وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب -ا.

يقول تعالى: كما أنقذنا يوسف من إخوته وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يعني بلاد مصر، وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ قال مجاهد والسدي: هو تعبير الرؤيا.

تأويل الأحاديث هو تعبير الرؤى، وذكر بعض السلف أن الأحاديث هي الكتب التي أنزلها الله –تبارك وتعالى- على أنبيائه –عليهم الصلاة والسلام- ولذلك سمى الله –- القرآن حديثاً، قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا [سورة الزمر:23]، ولكن السياق يدل على أن المقصود بتأويل الأحاديث هو تفسير الرؤى، وقد قال الله في آخر هذه السورة: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ [سورة يوسف:100].

وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ أي إذا أراد شيئاً فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف بل هو الغالب لما سواه، قال سعيد بن جبير في قوله: وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ: أي فعَّالٌ لما يشاء، وقوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يقول: لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد، وقوله: وَلَمَّا بَلَغَ أي يوسف أَشُدَّهُ أي استكمل عقله وتم خلقه.

قول ابن كثير "أَشُدَّهُ أي استكمل عقله وتم خلقه" هو تفسير حسن، وقد قال بعض أهل العلم: إذا بلغ الإنسان الثامنة عشرة فقد بلغ الأشد، وقال بعضهم: بلوغ الأشد ببلوغ الحلم، وقال بعضهم: ببلوغ الخامسة والعشرين، وقال بعضهم: بلوغ الأشد ببلوغ الأربعين، وقيل خمسين سنة، واختار ابن جرير أن بلوغ الأشد من الثامنة عشرة إلى الستين.

آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا يعني: النبوة أنه حباه بها بين أولئك الأقوام.

قال بعضهم: الحكم والعلم هما النبوة، وقال بعض أهل العلم: الفهم والعلم، وبعضهم يقول: يعني الحكم بين الناس، والأقرب -والله أعلم- أن الحكم والعلم هما النبوة

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي إنه كان محسناً في عمله عاملاً بطاعة الله تعالى.

ليس معنى ذلك أن من كان محسناً يعطى النبوة، وإنما النبوة هي موهبة إلهية لا يصل إليها الإنسان مهما كان عمله وجدّه واجتهاده وتهذيبه، وهذا قول المسلمين، ويوجد من قال من الفلاسفة: إن النبوة قضية كسبية، وإن الإنسان إذا ترقى في مدارج الكمال والتهذيب فإنه يصل إلى هذا بكسبه، وهذا الكلام من أبطل الباطل، فالله يصطفي من عباده ما شاء لهذا الأمر اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحج:75].

ومعنى قوله: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: بما يدبره الله لهم، ويجعل العاقبة الحميدة لهم دائماً، وينجيهم، ويحصل لهم من ألوان الكرامات والمنح الإلهية، ومن أهل العلم كابن جرير من خصه بالنبي ﷺ فقال: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: النبي ﷺ كما فعلنا ذلك بيوسف كذلك نفعل بك، ونجعل العاقبة لك، وننصرك على قومك ونظهرك عليهم، والراجح –والله أعلم- أن الآية عامة.

(مسألة)

ابتداء يوسف بدعوة من كان في السجن إلى توحيد الله لم يكن بوحي؛ لأن يوسف كان قد نشأ وتربى على التوحيد فهو ابن نبي، ولهذا قال: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [سورة يوسف:37].

مواد ذات صلة