الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ} الآية 6 إلى قوله تعالى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} الآية 9.
تاريخ النشر: ٠٩ / شوّال / ١٤٢٨
التحميل: 2321
مرات الإستماع: 5705

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الرعد:6].

يقول تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ أي: هؤلاء المكذبون، بِالسّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي: بالعقوبة كما أخبر عنهم في قوله: وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ۝ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ۝ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ [سورة الحجر:6-8]، وقال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [سورة الحـج:47]، [سورة العنكبوت:53] الآيتين.

وقال تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [سورة المعارج:1]، وقال: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [سورة الشورى:18]، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [سورة ص:16]، أي: عقابنا وحسابنا، كما قال مخبراً عنهم: وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ... [سورة الأنفال:32] ، فكانوا من شدة تكذيبهم وعنادهم وكفرهم يطلبون من الرسول أن يأتيهم بعذاب الله، قال الله تعالى: وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ [سورة الرعد:6] أي: قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

قوله -تبارك وتعالى: وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ [سورة الرعد:6]، المثلات: جمعٌ يراد به العقوبات، ومن أهل العلم كابن الأنباري من خصه بنوع من العقوبة وهي العقوبة التي تبقي أثراً في المعاقب، ومن ذلك المثلة والتمثيل فإن ذلك يكون بإبقاء آثار على الجسد، من بقر بطن، وجدع أنف، وسمل عين، وعامة أهل العلم يفسرون المثلات بالعقوبات، وما وقع لقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط هو من المثلات.

ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة، كما قالوَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ [سورة الرعد:6] أي: إنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار، ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ليعتدل الرجاء والخوف، كما قال تعالى: فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأنعام:147]، وقال: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأعراف:167]، وقال: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [سورة الحجر:49-50]، إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف.

فهم بعض أهل العلم من هذه النصوص وأمثالها أن الواجب على الإنسان هو الاعتدال بين الخوف والرجاء، أنهما كالجناحين للطائر، لا يطير إلا بهما، وقال بعض أهل العلم: على الإنسان أن يغلب جانب الخوف في حال القوة والعافية والصحة والنشاط ليكون ذلك رادعاً له عن مقارفة ما لا يليق، وأما عند الموت فعليه أن يغلب جانب الرجاء، بدليل قول النبي ﷺ: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه[1].

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [سورة الرعد:7] ، يقول تعالى إخباراً عن المشركين أنهم يقولون كفراً وعناداً: لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون، كما تعنتوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يزيح عنهم الجبال، ويجعل مكانها مروجاً وأنهاراً، قال تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ [سورة الإسراء:59] الآية، قال الله تعالى: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [سورة البقرة:272]، وقوله: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: أي ولكل قوم داعٍ. كقوله: وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ [سورة فاطر:24]، وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد.

قول –تبارك وتعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ المقصود بذلك الآيات التي كانوا يقترحونها على النبي ﷺ وهذه الآية كقوله –تبارك وتعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ [سورة الإسراء:59]، ولو جاءتهم هذه الآيات التي اقترحوها على النبي ﷺ فلن يؤمنوا.

وقوله -تبارك وتعالى- إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [سورة الرعد:7] أي: لك قوم دليل يدلهم، ومتبوع يتبعونه، وقائد يقتدون به وهو الرسول الذي يرسله الله إلى قومه وقد قال –تبارك وتعالى: وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ [سورة فاطر:24]، وقال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15]، وقال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ [سورة يونس:47]، فمن أهل العلم من فسر الهادي هنا بالرسول، وهو اختيار الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

وقال بعض أهل العلم: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ،أي: داعٍ يدعوهم، وهذا وهو اختيار ابن جرير –رحمه الله- ولم يحدد –رحمه الله- هذا الداعي من هو، فجائز أن يكون الرسول، وجائز أن يكون داعية بعد الرسول، وجائز أن يكون هذا الهادي يهديهم إلى النار، كما قال الله : وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ [سورة القصص:41].

قوله: اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ۝ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [سورة الرعد:8-9].

يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات، كما قال تعالى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ أي: ما حملت من ذكر أو أنثى، أو حسن أو قبيح، أو شقي أو سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كقوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ [سورة النجم:32] الآية، وقال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ [سورة الزمر:6] أي: خلقكم طوراً من بعد طور، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ۝ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ۝ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [سورة المؤمنون:12- 14]

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وعمره، وعمله، وشقي أو سعيد[2]، وفي الحديث الآخر: فيقول الملك: أي رب أذكر أم أنثى؟ أي رب أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيقول الله، ويكتب الملك[3].

قوله –تبارك وتعالى: اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى، يحتمل أن تكون "ما" موصولة بمعنى الذي، ويكون المعنى: الله يعلم الذي تحمله كل أنثى، ويحتمل أن تكون "ما" مصدرية، أي: ويعلم حمل كل أنثى.

وقوله: وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ [سورة الرعد:8] روى البخاري عن ابن عمر -ا: أن رسول الله ﷺ قال: مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله[4]، وقال العوفي: عن ابن عباس -ا: وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ يعني: السقط، وَمَا تَزْدَادُيقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومن تحمل تسعة أشهر، ومنهن من تزيد في الحمل، ومنهن من تنقص، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى.

قوله: وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ الغيض: معناه النقص، ويقابله الزيادة، فمن أهل العلم من قال النقص يحصل بخروج الدم، والزيادة هو الدم الذي لا يخرج، ومن أهل العلم من قال: وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ يعني: حيض الحامل فما يحصل لها من خروج الدم فإن ذلك يكون نقصاً في نمو الجنين، فإذا خرج من المرأة الدم في أيام حملها، مثلاً عشرة أيام فإن الحمل يزداد عشرة أيام تعويضاً.

وقال بعض أهل العلم: وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ أي: ما ينقص فيه الحمل عن تسعة أشهر، وما تزيد فيه في الحمل فقد يكون في عشرة أشهر، وقد يكون في عامين، كما قال الضحاك: بأنه ولدته أمه لعامين، بل ذكر أن بعضهم أن أمه حملت به خمس سنوات، فجعلوا الزيادة في المدة.

ومن أحسن ما ذكر في معنى هذه الآية ما قاله ابن القيم –رحمه الله: "والتحقيق في معنى الآية أنه يعلم مدة الحمل وما يعرض فيها من الزيادة والنقصان، فهو العالم بذلك دونكم كما هو العالم بما تحمل كل أنثى هل هو ذكر أو أنثى، وهذا أحد أنواع الغيب التي لا يعلمها إلا الله ... فهو سبحانه المنفرد بعلم ما في الرحم، وعلم وقت إقامته فيه، وما يزيد من بدنه وما ينقص، وما عدا هذا القول فهو من توابعه ولوازمه كالسقط والتام ورؤية الدم وانقطاعه والمقصود ذكر مدة إقامة الحمل في البطن وما يتصل بها من زيادة ونقصان"[5].

وأوضح منه ما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي –رحمه الله- بأن مرجع هذه الأقوال كلها إلى شيء واحد وهو أنه تعالى عالم بما تنقصه الأرحام وما تزيده؛ لأن معنى تغيض تنقص وتزداد أي تأخذه زائداً فيشمل النقص المذكور، نقص العدد، ونقص العضو من الجنين، ونقص جسمه إذا حاضت عليه فتقلص، ونقص مدة الحمل بأن تسقطه قبل أمد حمله المعتاد، كما أن الازدياد يشمل زيادة العضو، وزيادة العدد، وزيادة جسم الجنين إن لم تحض وهي حامل، وزيادة أمد الحمل عن القدر المعتاد، والله جل وعلا يعلم ذلك كله والآية تشمله كله[6].

وقال قتادة: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ أي: بأجل، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم، وجعل لذلك أجلاً معلوماً.
  1. رواه الإمام أحمد (22 / 366)، برقم: (14481).
  2. رواه البخاري، كتاب القدر (6 / 2433)، برقم (1226)، مسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4 / 2036)، برقم (2643).
  3. رواه البخاري، كتاب الحيض، باب مخلقة وغير مخلقة (1 / 121)، برقم (312).
  4. رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة الرعد (4 / 1733)، برقم (4420).
  5. تحفة المودود (1 / 268).
  6. أضواء البيان (2 / 226).

مواد ذات صلة