الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
[7] من قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} الآية 18 إلى قوله تعالى: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} الآية 24.
تاريخ النشر: ١٤ / شوّال / ١٤٢٨
التحميل: 2497
مرات الإستماع: 2862

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- تعالى في تفسير قوله تعالى:

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [سورة الرعد:18].

يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء فقال: لِلّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ أي: أطاعوا الله ورسوله، وانقادوا لأوامره، وصدقوا أخباره الماضية والآتية، فلهم الْحُسْنَىَ وهو الجزاء الحسن، كقوله تعالى مخبرًا عن ذي القرنين أنه قال: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا، وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ.

وقوله: وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ أي: لم يطيعوا الله، لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أي: في الدار الآخرة لو أن يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبًا ومثله معه لافتدوا به، ولكن لا يتقبل منهم؛ لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا، أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ أي: في الدار الآخرة، أي: يناقشون على النقير والقطمير، والجليل والحقير، ومن نوقش الحساب عذب، ولهذا قال: وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:

قوله -تبارك وتعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى [سورة الرعد:18]، الحسنى: يمكن أن تفسر بالجنة، كما قاله طائفة من السلف، ويؤيد هذا القول قوله -تبارك وتعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [سورة يونس:26]، فالحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم.

قوله: وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [سورة الرعد:18]، سوء الحساب هذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الحساب السيئ، كما تقول: عظيم الأجر، عظيم الثواب، أي: الثواب العظيم، الأجر العظيم.

قوله -تبارك وتعالى: وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [سورة الرعد:18]، أصل المهاد هو ما يوطأ للصغير فيكون فراشًا ممهدًا، فهؤلاء يكون مهادهم في النار.

أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [سورة الرعد:19]، يقول تعالى: لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ يا محمد مِن رَبّكَ هو الحق الذي لا شك فيه، ولا مرية، ولا لبس فيه، ولا اختلاف فيه، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضًا، لا يضاد شيء منه شيئًا آخر، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [سورة الأنعام:115] أي: صدقًا في الإخبار، وعدلًا في الطلب، فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد، ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه، ولو فهمه ما انقاد له ولا صدقه ولا اتبعه.

كقوله تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ، وقال في هذه الآية الكريمة: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى أي: أفهذا كهذا؟ لا استواء.

وقوله: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ أي: إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة، جعلنا الله منهم.

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ۝ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ۝ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ۝ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ [سورة الرعد:20-23].

يقول تعالى مخبرًا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة بأن لهم عقبى الدار، وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وليسوا كالمنافقين الذين إِذا عاهد أحدهم غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من صلة الأرحام والإحسان إليهم، وإلى الفقراء والمحاويج، وبذل المعروف، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي: فيما يأتون وما يذرون من الأعمال، يراقبون الله في ذلك، ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة؛ فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم، وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية.

قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [سورة الرعد:20]، الفرق بين العهد والميثاق: أن الميثاق عهد ولكنه مؤكد، فهو أخص من مطلق العهد.

وقد فسر بعض أهل العلم قوله –تبارك وتعالى: يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ بالعهد الذي بينهم وبين الله –تبارك وتعالى- وما يتبع ذلك من العهود بينهم وبين الناس، وأما الميثاق فهو العهود المؤكدة بالأيمان.

وقال بعض أهل العلم: العهد هو جميع العهود التي تكون لله وهي أوامره ونواهيه، ويدخل في ضمن ذلك ما التزمه العبد من عند نفسه كالنذر، وكالمعاهدة التي يجعلها بينه وبين الله، وأما الميثاق فهو ما أخذه الله على عباده حينما استخرجهم من ظهر أبيهم آدم -عليه الصلاة والسلام- فقد قال –تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [سورة الأعراف:172].

والله لا يحاسب بهذا الميثاق الذي أخذه على عباده لما أخرجهم من ظهر أبيهم آدم –عليه الصلاة والسلام- بل أودع فيهم الفطرة، أرسل إليهم الرسل، وقال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [سورة الإسراء:15]، وهذا من كمال عدله .

وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ [سورة الرعد:21]، قال ابن كثير: "من صلة الأرحام والإحسان إليهم، وإلى الفقراء والمحاويج، وبذل المعروف" ويدخل في هذه الآية كل ما يمكن أن يحتمله، كالتقرب إلى الله –تبارك وتعالى- وطاعة النبي ﷺ وتوقيره وتعزيره، وصلة الوالدين وبرهم، وصلة الأرحام والقرابات، والقيام بحق كالزوجات والجيران، وغيرها.

وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ [سورة الرعد:22] أي: عن المحارم والمآثم، ففطموا أنفسهم عنها لله ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، وَأَقَامُوا الصَّلاةَ بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها، على الوجه الشرعي المرضي، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ أي: على الذي يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب من فقراء ومحاويج ومساكين، سِرًّا وَعَلانِيَةً.

قوله: وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ [سورة الرعد:22]، أي: أن صبرهم لله، ووجه التقييد بقوله: ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ؛ لأن البعض يصبر تجلدًا أمام الناس، حتى يثنوا عليه ويطروه بأنه صابر على المصيبة، ومن المعلوم أن الصبر عبادة قلبية، يقع فيها ما يقع في غيرها.

سِرًّا وَعَلانِيَةً أي: في السر والجهر، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال، آناء الليل وأطراف النهار وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي: يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرًا واحتمالًا وصفحًا وعفوًا، كقوله تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [سورة فصلت:34، 35]؛ ولهذا قال مخبرًا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار، ثم فسر ذلك بقوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ والعدن الإقامة.

قوله: وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ، أي: يدفعون القبيح بالحسن، وهذه الآية كقوله –تبارك وتعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سورة فصلت:34].

وقال بعض أهل العلم: وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي: يدفعون المعصية بالتوبة، وقال بعضهم: يدفعون الشر بالخير، ومنهم من قال: يدفعون المنكر بالمعروف، ومنهم من قال: يدفعون المعصية بالطاعة، وقد قال –تبارك وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [سورة هود:114].

ولهذا قال مخبرًا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار، ثم فسر ذلك بقوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ والعدن الإقامة، أي جنات إقامة يخلدون فيها.

وقوله: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [سورة الرعد:23] أي: يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين، لتقر أعينهم بها حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى امتنانًا من الله وإحسانًا من غير تنقيص للأعلى عن درجته، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [سورة الطور:21] الآية.

وقوله: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ۝ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [سورة الرعد:23، 24] أي: وتدخل عليهم الملائكة من ههنا ومن ههنا للتهنئة بدخول الجنة، فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلِّمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام والإقامة في دار السلام في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.

وروى الإمام أحمد -رحمه الله- عن عبد الله بن عمرو بن العاص -ا- عن رسول الله ﷺ أنه قال: هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء ونسلم عليهم؟ فيقول: إنهم كانوا عبادًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ[1].

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: فجمع لهم مقامات الإسلام والإيمان في هذه الأوصاف فوصفهم بالوفاء بعهده الذي عاهدهم عليه، وذلك يعم أمره ونهيه الذي عهده إليهم بينهم وبينه وبينهم وبين خلقه.

ثم أخبر عن استمرارهم بالوفاء به بأنهم لا يقع منهم نقضه، ثم وصفهم بأنهم يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويدخل في هذا ظاهر الدين وباطنه وحق الله وحق خلقه.

فيصلون ما بينهم وبين ربهم بعبوديته وحده لا شريك له والقيام بطاعته والإنابة إليه، والتوكل عليه وحبه وخوفه ورجائه والتوبة إليه، والاستكانة له والخضوع والذلة له، والاعتراف له بنعمته وشكره عليها، والإقرار بالخطيئة والاستغفار منها، فهذه هي الوصلة بين الرب والعبد، وقد أمر الله بهذه الأسباب التي بينه وبين عبده أن توصل، وأمر أن نوصل ما بيننا وبين رسوله ﷺ بالإيمان به وتصديقه وتحكيمه في كل شيء، والرضا لحكمه والتسليم له، وتقديم محبته على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين صلوات الله وسلامه عليه.

فدخل في ذلك القيام بحقه وحق رسوله، وأمر أن نصل ما بيننا وبين الوالدين والأقربين بالبر والصلة، فأنه أمر ببر الوالدين وصلة الأرحام، ذلك مما أمر به أن يوصل، وأمر أن نصل ما بيننا وبين الزوجات بالقيام بحقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف وأمر أن نصل ما بيننا وبين الأرقاء بأن نطعمهم مما نأكل، ونكسوهم مما نكتسي، ولا نكلفهم فوق طاقاتهم، وأن نصل ما بيننا وبين الجار القريب والبعيد بمراعاة حقه، وحفظه في نفسه وماله وأهله، بما نحفظ به نفوسنا وأهلينا وأموالنا، وأن نصل ما بيننا وبين الرفيق في السفر والحضر، وأن نصل ما بيننا وبين عموم الناس بأن نأتي إليهم بما نحب أن يأتوه إلينا، وأن نصل ما بيننا وبين الحفظة الكرام الكاتبين بأن نكرمهم ونستحي منهم كما يستحى الرجل من جليسه ومن هو معه ممن يجله ويكرمه.

فهذا كله مما أمر الله به أن يوصل ثم وصفهم بالحامل لهم على هذه الصلة وهو خشيته وخوف سوء الحساب يوم المآب، ولا يمكن لأحد قط أن يصل ما أمر الله بوصله إلا بخشيته، ومتى ترحلت الخشية من القلب انقطعت هذه الوصلة، ثم جمع لهم سبحانه ذلك كله في أصل واحد هو آخية ذلك وقاعدته ومداره الذي يدور عليه وهو الصبر فقال: وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ [سورة الرعد:22] فلم يكتف منهم بمجرد الصبر حتى يكون خالصًا لوجهه.

ثم ذكر لهم ما يعيينهم على الصبر وهى الصلاة فقال: وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ، وهذان هما العونان على مصالح الدنيا والآخرة، وهما الصبر والصلاة، فقال تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:153].

ثم ذكر سبحانه إحسانهم إلى غيرهم بالإنفاق عليهم سرًا وعلانية، فأحسنوا إلى أنفسهم بالصبر والصلاة وإلى غيرهم بالإنفاق عليهم، ثم ذكر حالهم إذا جهل عليهم وأوذوا أنهم لا يقابلون ذلك بمثله بل يدرأون بالحسنة السيئة، فيحسنون إلى من يسيء إليهم فقال: وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ، وقد فسر هذا الدرء بأنهم يدفعون بالذنب الحسنة بعده، كما قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [سورة هود:114]، وقال النبي ﷺ: اتبع السيئة الحسنة تمحها[2]، والتحقيق أن الآية تعم النوعين.

والمقصود أن هذه الآيات تناولت مقامات الإسلام والإيمان كلها، اشتملت على فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور، وقد ذكر تعالى هذه الأصول الثلاثة في قوله: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ [سورة آل عمران:125]، وقوله: إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ [سورة يوسف:90].

وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200]، فكل موضع قرن فيه التقوى بالصبر اشتمل على الأمور الثلاثة فإن حقيقة التقوى فعل المأمور وترك المحظور[3].

(مسألة)

جَنَّاتِ عَدْنٍ أي: جنات إقامة، فهم لا يخرجون منها ولا يموتون ولا يفارقونها، وقال بعض أهل العلم: في الجنة جنة يقال لها: جنة عدن، كما يوجد جنة يقال لها: جنة المأوى، وجنة الفردوس، والقول الأول هو الأقرب –والله تعالى أعلم.

  1. رواه أحمد (11 / 131)، برقم (6570).
  2. رواه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب معاشرة الناس (4 / 355)، برقم (1987)، وأحمد (35 / 284) برقم: (21354).
  3. عدة الصابرين (1 / 20).

مواد ذات صلة