السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[5] من قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} الآية 23 إلى قوله تعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} الآية 26
تاريخ النشر: ٢٦ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 3818
مرات الإستماع: 38584

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.قال المصنف -رحمنا الله تعالى وإياه- في تفسير قوله تعالى:

 

وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ۝ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [سورة الكهف:23، 24].

هذا إرشاد من الله تعالى لرسول الله ﷺ إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله ، علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: قال سليمان بن داود -عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة -وفي رواية: تسعين امرأة وفي رواية: مائة امرأة- تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له -وفي رواية: قال له الملك- قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعون[1].

وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي ﷺ لما سئل عن قصة أصحاب الكهف: غداً أجيبكم[2] فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً، وقد ذكرناه بطوله في أول السورة فأغنى عن إعادته.

وقوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ سورة الكهف:24] قيل: معناه إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له، قاله أبو العالية والحسن البصري.

وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس -ا: في الرجل يحلف؟ قال: له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ سورة الكهف:24] في ذلك.

قيل للأعمش: سمعته عن مجاهد؟ قال: حدثني به ليث بن أبي سليم، يرى ذهب كسائي هذا.

ومعنى قول ابن عباس -ا: أنه يستثني ولو بعد سنة، أي: إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء الله، وذكر: ولو بعد سنة، فالسُّنة له أن يقول ذلك ليكون آتياً بسُنَّة الاستثناء حتى ولو كان بعد الحنث، قاله ابن جرير -رحمه الله تعالى، ونص على ذلك، لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة.

وهذا الذي قاله ابن جرير -رحمه الله- هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه، والله أعلم.

وقال عكرمة: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ سورة الكهف:24] أي: إذا غضبت. وهذا تفسير باللازم.

وروى الطبراني عن ابن عباس -ا- في قوله: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ۝ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [سورة الكهف:23، 24] أن تقول: إن شاء الله.

وقوله: وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [سورة الكهف:24] أي: إذا سُئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك، والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: غداً أجيبكم فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً، ذكرنا من قبل أن هذا لا يثبت.

قوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [سورة الكهف:24] "قيل: معناه إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له"، وكثير من الأصوليين والفقهاء ينقلون عن ابن عباس -ا– "يستثني ولو إلى سنة" وفي بعض الروايات أكثر من هذا، ونقل عن بعض السلف كذلك بعض الأقوال القريبة، وبعضهم يفهم من هذا أن الاستثناء في اليمين يؤثر في اليمين ولو بعد حين.

وهناك كلام للعلماء على مسائل متعددة للاستثناء:

- مسألة الاستثناء بإلا، هل يصح أن يكون المستثنى أكثر من جنس المستثنى منه أو لا؟ وهل الاستثناء يعود إلى جميع المذكورات قبله سواء كانت جملاً أو كانت مفردات؟

كما أنهم يتكلمون أيضاً على الاستثناء، هل يشترط أن يكون من متكلم واحد، أو أنه يصح لو أن الاستثناء كان من آخر؟ كما قال النبي ﷺ حينما حرم مكة، وأنه لا يقطع شجرها، أو لا يعضد، فقال العباس: إلا الإذخر[3].

-  مسألة اشتراط الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه، وقد تكلم العلماء على قضايا دقيقة فيما لو أنه استثنى وعرض له عارض طبيعي، -سعال أو عطاس- فهل يؤثر هذا أو لا يؤثر؟

- لو أنه استثنى بعد سكتة، فلو قال: لك عليّ مائة، ثم سكت، ثم قال: إلا عشرة، هل ينفع هذا أو لا؟ ولو أنه نوى ذلك بقلبه هل تنفع هذه النية أم لا؟

وقد ذكر ابن كثير وابن جرير –رحمهما الله- أن مقصود ابن عباس -ا- ليس من جهة أنه لا يحنث، بمعنى: لو أنه حلف على شيء ثم قال: إن شاء الله بعد سنة، ولم يفعل هذا الشيء الذي حلف على فعله لا يحنث، فلو قال: إن شاء الله بعد سنة فإنه تجب عليه الكفارة، وإنما المقصود أن يتأدب بما أدبه ربه  -تبارك وتعالى- وهو أن يعلق ذلك بمشيئته، فلا يكون شيء إلا بمشيئة الله ، فإذا تذكر بعدُ غفلته عن الاستثناء فإنه يقول: إن شاء الله، وإن كان هذا لا يؤثر من جهة الحكم، فهذا مقصود ابن عباس -ا، وبهذا الاعتبار يكون القول بوجوب الاتصال في الاستثناء بين المستثنى والمستثنى منه متوجهاً لا إشكال فيه إلا للعوارض الطبيعية فإن ذلك لا يؤثر.

وقد تكلم العلامة ابن القيم –رحمه الله- على الأثر الوارد عن ابن عباس –ا، فقال رحمه الله: "وتفسير الآية عند جماعة المفسرين أنك لا تقل لشيء أفعل كذا وكذا حتى تقول: إن شاء الله، فإذا نسيت أن تقولها فقلها متى ذكرتها، وهذا هو الاستثناء المتراخي الذي جوزه ابن عباس، وتأول عليه الآية، وهو الصواب.

فغلط عليه من لم يفهم كلامه، ونقل عنه: أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، أو قال: نسائي الأربع طوالق ثم بعد سنة يقول: إلا واحدة، أو إلا زينب أن هذا الاستثناء ينفعه، وقد صان الله عن هذا من هو دون غلمان ابن عباس بكثير فضلاً عن البحر حبر الأمة وعالمها الذي فقهه الله في الدين، وعلمه التأويل، وما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة، ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال جداً، وإن ساعد الله أفردنا له كتاباً.

والذي أجمع عليه المفسرون: أن أهل مكة سألوا النبي ﷺ عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، فقال: أخبركم غداً ولم يقل: إن شاء الله، فتلبث الوحي، ثم نزلت هذه الآية، قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم: معناه: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثنِ، قال ابن عباس -ا: ويجوز الاستثناء إلى سنة، وقال عكرمة -رحمه الله: واذكر ربك إذا غضبت، وقال الضحاك والسدي: هذا في الصلاة، أي: إذا نسيت الصلاة فصلِّها متى ذكرتها"[4].

وقال -رحمه الله: "وقد قال الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ۝ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [سورة الكهف:23، 24] وهذا ليس بيمين.

ويشرع الاستثناء في الوعد والوعيد، والخبر عن المستقبل، كقوله: غداً أفعل إن شاء الله، وقد عتب الله على رسوله ﷺ حيث قال لمن سأله من أهل الكتاب عن أشياء: غداً أخبركم ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه شهراً، ثم نزل عليه: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ۝ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [سورة الكهف:23، 24] الآية، أي: إذا نسيت ذلك الاستثناء عقيب كلامك فاذكره به إذا ذكرت، هذا معنى الآية، وهو الذي أراده ابن عباس -ا- بصحة الاستثناء المتراخي، ولم يقل ابن عباس قط ولا من دونه: إن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق أو لعبده أنت حر، ثم قال بعد سنة: إن شاء الله أنها لا تطلق، ولا يعتق العبد، وأخطأ من نقل ذلك عن ابن عباس، أو عن أحد من أهل العلم ألبته، ولم يفهموا مراد ابن عباس".

لو أن قائلاً قال بأنه يصح الاستثناء المتراخي ويؤثر ذلك حكماً، فمعنى ذلك أنه لا كفارة يمين ولا نذر ولا شيء، وكل من نذر ولو بعد سنة قال: إن شاء الله، ثم بعد ذلك لا يلزمه الكفارة ولا الوفاء بالنذر، فهذا ما يقول به أحد؛ فلماذا شرعت كفارة الأيمان ووجب الوفاء بالنذور؟

فالمقصود: أن الإنسان إذا قال في اليمين أو في النذر: إن شاء الله، فإن ذلك لا يلزم معه الكفارة لو وقع الحنث، لا يلزمه كفارة، لكن إذا قال الإنسان: سأفعل الشيء الفلاني غداً، فمن الأدب المتعين أن يقول: إن شاء الله، فإذا نسي أن يقول: إن شاء الله فتذكر بعد حين فإنه يراجع نفسه ويقول: إن شاء الله؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله، هذا من حيث الأدب اللائق في الكلام ورد الأمور إلى مشيئة الله -تبارك وتعالى- لا من حيث ترتب الأحكام الشرعية عليه.

قوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [سورة الكهف:24] أي: الاستثناء، وكثير من الناس يفهم من هذه الآية من ظاهرها أنه إذا نسي شيئاً أو نسي كلاماً أراد أن يقوله قال: لا إله إلا الله، وبعض الناس يقول: اللهم صل على محمد.

وليس هذا هو المراد، بل المعنى وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ سورة الكهف:24] إذا نسيت أن تقول: إن شاء الله فقل ذلك تأدباً بأن ترجع الأمور إلى مشيئته -تبارك وتعالى، هذا هو المعنى.

وقوله: وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [سورة الكهف:24] "أي: إذا سُئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك"، وهذا التفسير جيد، وهو لا يخالف قول من قال: وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [ سورة الكهف:24] أي: من خبر أصحاب الكهف ونبئهم لأقرب من هذا رشداً، وذكر الله طرفاً من خبرهم، واختلاف الناس فيهم، وعددهم، والمدة التي بقوا فيها في الكهف، وأحال العلم إليه : قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] فيعلّم نبيه ﷺ هذا الأدب، وبعضهم يقول: وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا [سورة الكهف:24] يعني: عسى أن يعطيني من الآيات والبينات والحجج على النبوة ما يكون أقرب في الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف، هكذا قال بعض المفسرين، والآية تحتمل المعنيين.

قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ۝ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [ سورة الكهف:25، 26].

هذا خبَر من الله تعالى لرسوله ﷺ بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم، منذ أرقدهم الله إلى أن بعثهم، وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة، تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين؛ فلهذا قال بعد الثلاثمائة: وَازْدَادُوا تِسْعًا [ سورة الكهف:25].

يعني الذي يُنقل في كتب أهل الكتاب أنهم بقوا ثلاثمائة سنة، وفي القرآن هنا قال: ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [سورة الكهف:25] المفسرون يقولون: إن الذي في كتبهم ثلاثمائة سنة بناء على السنة الشمسية، والذي ذكره الله هو بناء على السنة الهلالية بحسابها، فتزيد كل مائة سنة ثلاث سنوات، فثلاثمائة سنة فيها تسع سنوات، يعني: بالحساب الهلالي -السنة القمرية- وهو الحساب المعتبر في الشريعة.

وسبق الإشارة إلى أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كان العمل عندهم على السنة القمرية الهلالية.

ويمكن أن يكون الذي في كتبهم مما أحدثوه إذا قيل: إن المعمول به عندهم هو السنة القمرية، وسبق الكلام على هذا في بعض هذه الدروس، وذكْر كلام ابن القيم -رحمه الله، وما يحتج به لهذا -وهو اختيار شيخ الإسلام- ما ورد في عاشوراء، يوم نجى الله فيه موسى، فهذا ثابت من جهة السنة الهلالية بالعد، العاشر من محرم، فجاء النبي ﷺ واليهود يصومونه، يقولون: هذا يوم نجى الله فيه موسى، فلم يعتبر فيه الحساب الشمسي.

وقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] أي: إذا سُئلت عن لبثهم، وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة الكهف:26] أي: لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه الله عليه من خَلْقه، وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد، وغير واحد من السلف والخلف.

وقال قتادة في قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ [سورة الكهف:25] الآية، هذا قول أهل الكتاب، وقد رده الله تعالى بقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] قال: وفي قراءة عبد الله: {وقالوا ولبثوا} يعني: أنه قاله الناس، وهكذا قال مُطرَف بن عبد الله.

وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر، فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنين من غير تسع، يعنون بالشمسية، ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال: وَازْدَادُوا تِسْعًا [ سورة الكهف:25] والظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم، وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله- والله أعلم.

بعدما أعلمه الله بمدة مكثهم، ثلاثمائة وتسع سنوات، قال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26].

وقد ذكر ابن جرير –رحمه الله: أي: أنك إن سئلت عن عددهم، وليس عندك توقيف، قبل أن تُخبَر بهذا، باعتبار أنهم سألوه قبل ذلك فـ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26].

قوله: "وقال قتادة في قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ [سورة الكهف:25] الآية، هذا قول أهل الكتاب، وقد رده الله تعالى بقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] قال: وفي قراءة عبد الله: {وقالوا ولبثوا} يعني: أنه قاله الناس، وهكذا قال مُطرَف بن عبد الله".

هذا خلاف ظاهر القرآن، فظاهر القرآن أن هذا من كلام الله، ومن إخباره لنبيه ﷺ، فيحتجون بهذه القراءة، وهي بطبيعة الحال ليست من القراءات المتواترة.

تكلموا في مدة مكثهم من غير علم {وقالوا ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة} ثم قال الله له: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] ليس كما يقولون.

لكن هذا القول بعيد، والقراءة المتواترة لا تشعر بهذا لا من قريب ولا من بعيد، فالله يخبر عن مدة مكثهم، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26]، وعليه فكلام ابن كثير أنك إن سئلت عن عددهم قبل أن ينزل عليك في ذلك من العلم بالمدة التي بقوها ففوض العلم إلى الله، فقل: الله أعلم بما لبثوا.

ومن أهل العلم من يقول: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] المدة التي بقوها في الكهف في نومهم كانت هذه المدة ثلاثمائة وتسع سنوات، لكن كم بقوا بعدها؟

ابن جرير -رحمه الله- يقول: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] هذه ليست في مدة نومتهم، وإنما فيما هو أوسع من هذا، وهو ما كان من مدة بقائهم وحياتهم بعد استيقاظهم.

فهل حينما ذهب هذا يتسوق لهم ورجع وتبعه الناس كما في بعض الروايات الإسرائيلية، واكتشفوا خبره، وجاءوا معه إلى الكهف، فدخل ثم عُمِّي خبرهم على الناس، ولا يدرون أين ذهب، أو أنه الملِك جاء وجلس معهم؟ ثم بعد ذلك ودّعوه، ثم أخلدوا إلى النوم، ثم بعد ذلك قبضوا وماتوا، كم جلسوا بعد استيقاظهم هذا؟ هل رجعوا إلى المدينة مع الناس؟ مع أن هذا خلاف الظاهر؛ لأنهم قالوا: ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ [سورة الكهف:21] فيدل على أنهم ما غادروا هذا الكهف، لكن كم كانت مدة البقاء بعد هذا؟

ابن جرير يقول: هذا هو المراد بقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] ذكر لهم مدة النومة، ثم قال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] يعني: بعدها.

وبعضهم كابن عطية يقول: المراد: قل الله أعلم بما لبثوا بمدة بقائهم إلى زمن النبي ﷺ حيث أعلمه الله بخبرهم، وما وقع لهم من هذه الواقعة العجيبة. وهذا فيه بعد، في مدة لبثهم إلى زمن النبي   ﷺ، كم للواقعة من قرن؟!

قوله:وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [سورة الكهف:21] بعدما استيقظوا كم جلسوا ثم عثر عليهم ساعات أو يوماً؟ كم بقوا؟ فقال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] والكلام الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- هنا له وجه جيد من النظر، والله تعالى أعلم.

وبعضهم يقول: إن المراد بذلك: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] المراد هذه التسع التي ازدادوها على الثلاثمائة: وَازْدَادُوا تِسْعًا [سورة الكهف:25] هل هي تسع سنوات أو تسع ليالٍ أو تسع ساعات أو تسعة أشهر؟ وهذا لا يخلو من بعد -والله أعلم، فإذا ذُكرت السنوات: ثلاثمائة سنة وذكرت زيادة التسع عليها فالأصل أن ذلك في عداد السنين.

وقوله: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [ سورة الكهف:26] أي: أنه لبصير بهم، سميع لهم.

قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه! وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع! لا يخفى عليه من ذلك شيء.

ثم روي عن قتادة في قوله: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [سورة الكهف:26] فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع.

وقوله: مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [سورة الكهف:26] أي: أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر الذي لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير، تعالى وتقدس.

في قوله: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [سورة الكهف:26] يعني: ما أعظم سمعه وما أنفذ بصره ! يسمع جميع الأصوات الخفيات والجليات، ويرى جميع المبصرات كذلك؛ ولما قال الله : أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [ سورة مريم:38] يعني: ما أعظم السمع الذي يسمعونه، والبصر الذي يبصرونه، وهذا كما قال الله : وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [سورة النساء:108] معهم يعني: بسمعه وإحاطته: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [سورة المجادلة:7].

  1. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب من طلب الولد للجهاد (4/ 22 -2819) (6639) وفي كتاب الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي ﷺ (8/ 130)، (6639 )، ومسلم في كتاب الأيمان، باب الاستثناء (3/ 1276- 1654).
  2. انظر: فتح الباري 11/603، وذكره ابن كثير في تفسيره 5/132-133 قال "وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة، قال: حدثني شيخ من أهل مصر، قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر قصة اجتماع اليهود بالنبي ﷺ وسؤالهم عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح. وتأخر الوحي عنه ثم نزول جبريل بسورة أصحاب الكهف. كما أورد السيوطي في الدر المنثور 5/376-377 عن مجاهد هذه القصة، وفيه "فأنزل الله هذه الآية ". وقد عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.
  3. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الإذخر والحشيش في القبر (2/92)، برقم (1349)، ومسلم،  كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، إلا لمنشد على الدوام (2/986)، برقم: (1353)..
  4. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/403).

مواد ذات صلة