بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قال تعالى: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [سورة الكهف:37-41]
يقول تعالى مخبرًا عما أجابه صاحبه المؤمن، واعظًا له، وزاجرًا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ الآية، وهذا إنكار عظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، كما قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أي: كيف تجحَدُون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه؟ فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدومًا ثم وجد، وليس وجوده من نفسه ولا مستندًا إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله، لا إله إلا هو، خالق كل شيء؛ ولذا قال: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي أي: أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
ثم قال: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا هذا تحضيض وحث على ذلك، أي: هلّا إذ أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك، وقلت: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ؛ ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة.
وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله ﷺ قال: ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله[1].
وقوله: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ أي: في الدار الآخرة وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا أي: على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، ومالك عن الزهري: أي: عذابًا من السماء.
والظاهر أنه مطر عظيم مزعج، يقلع زرعها وأشجارها؛ ولهذا قال: فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أي: بلقعاً تراباً أملس، لا يثبت فيه قَدم.
وقال ابن عباس: كالجُرز الذي لا ينبت شيئًا.
وقوله: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا أي: غائرًا في الأرض، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض، فالغائر يطلب أسفلها كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ أي: جارٍ وسائح، وقال هاهنا: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا والغور: مصدر بمعنى غائر، وهو أبلغ منه.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ الآية، هنا سماه صاحباً له، وهذا كما سبق في بعض المناسبات أن ذلك يكون لملابسة واشتراك في أمر من الأمور، فهنا هذا صاحب له باعتبار أنه نصحه وسمع منه هذا الكلام ودخل معه في الجنة وجرى بينهما هذا الحوار، يقول: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ، وقد يكون ذلك يقال لملازمة، كما قال الله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، أَصْحَابُ النَّارِ، وقد يكون هذا الملازم مذموماً لكنه لما حصلت هذه الملازمة قيل: هذا صاحب، وتجدون في بعض المواضع من الأحاديث ما يشبه هذا.
والمقصود من ذلك أن من الناس من يتوهم ويسبق إلى ذهنه من إطلاق هذه اللفظة أنها تدل على نوع من المصافاة والمؤاخاة، وذلك ليس بلازم، هذا هو المقصود، ولهذا جاء في حديث القسامة أن النبي ﷺ قال للمطالبين بالدم، لما وجههم إلى الحلف -أن يحلفوا خمسين يميناً- قال: وتستحقون صاحبكم[2] «وتستحقون صاحبكم»، تستحقون صاحبكم يعني الدية، صاحبكم القتيل، أو تستحقون صاحبكم يعني الذي قتله، بمعنى يسلم إليهم فيُقتص منه، فالذين قالوا عنه صاحب نظروا إلى ما يتبادر إليه الذهن قالوا: المقصود القتيل هو صاحبهم، وذاك عدوهم، ومن نظر إلى أن ذلك يطلق لملابسةٍ ما قال: تستحقون صاحبكم يعني: القاتل، وفي حديث معاذ بن عفراء قال عبد الرحمن بن عوف: هذا صاحبكم، وهو عدو، وإنما أرادوا قتله، وهنا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ هذا مؤمن وهذا كافر.
لكن ذلك يوجد لنوع من الملابسة، وهذا لا يشكل، وهكذا ما يقال في الأخوة ونحو ذلك، كما في قوله تعالى في سورة الأحزاب: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18]، وكان القائلون هم أهل النفاق وليسوا بضعفاء الإيمان، فقالوا ذلك للمنافقين فهم إخوانهم، أو أنهم قالوه للمؤمنين، فتكون المؤاخاة هنا إما بالنسب كما قال بعضهم، وإما بالقبيلة بحيث يرجع إلى قبيلة من الأوس أو من الخزرج، وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا، وإما أن يكون الاشتراك في البلد، وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا، وبهذا الاعتبار يمكن أن يقال ذلك للكافر.
قال: لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي يقول: أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية، لَّكِنَّاأصلها "لكن أنا"، ويدل على هذا قراءة أُبيّ {لكن أنا هو الله ربي}، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم من أصحاب المعاني وغيرهم من المفسرين، وهذا بمعنى كلام ابن كثير، أي لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية.
وقوله: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ يقول: أي هلّا إذ أعجبتك حين دخلت ونظرت إليها، هلا هذه، وَلَوْلَا هي للتحضيض، وهي على نوعين: إن كان في أمر يمكن استدراكه كما في هذا الموضع فإنها تكون للتحضيض، كقولك: هلا اجتهدت، هلا حافظت على الصلوات، هلا أقبلت على كتاب الله، فهذا للتحضيض، وأحياناً تكون للتبكيت، كقولك: لولا حافظت على الصلاة، لولا أقبلت على كتاب الله، وأحياناً تكون للتبكيت في الأمر الذي لا يمكن استدراكه، فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ... [سورة هود:116]، هلكت تلك الأمم، فهذا يكون للتبكيت.
ووَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ يقول: ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل: ما شاء الله، إلى آخره، وهذا من الأدب في هذا المقام، فالإنسان يخرج من حوله وطوله ومشيئته، بمعنى أنه لا يعجب ولا يغتر إذا رأى شيئاً من ماله أعجبه، أو من قدراته أو من ذكائه أو من قواه البدنية أو نحو ذلك، يخرج من حوله وطوله، ويوقن أن القوة لله ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لا لدفع العين كما يظنه كثير من الناس، وإنما للخروج من الحول والطول والقوة؛ ليندفع عنه الغرور والعجب والتكبر والتعالي والتعاظم، فإن أزمّة الأمور بيد الله ، وليس المقصود بذلك دفع العين؛ لأن هذا الرجل لم يُقل له هذا من أجل أن يدفع العين، وليس الذي أصاب هذه الجنة كان بسبب العين، وإنما تعاظم واغتر بهذه الجنة فعوقب بهذه العقوبة.
وأما دفع العين فقد علّمنا النبي ﷺ كيف يقال، فقال: فليبرّك عليه[3]، يعني يدعو له بالبركة، ولهذا كثير من العامة يخطئون إذا رأوا شيئاً، أو رأوا أحداً تخوفوا منه العين قالوا له: قل: ما شاء الله، أو قل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أو هو يبادر ويقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ليس هذا هو المراد، وإنما يدعو له بالبركة، يقول: أسأل الله لك البركة، بارك الله لك، بارك عليك، بارك فيك، أسأل الله أن يبارك لك في هذا، بهذا تندفع العين، فلا يخلط بين هذا وهذا، فهذا المقام ليس المقصود به ما يتعلق بالعين.
مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا، يعني: يعبر بعبارة لائقة مناسبة، قال: فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ "عسى" هنا على بابها من الترجي، و"عسى" من الله واجبة، وذلك إذا كانت صادرة من الله ، يعني هذا القرآن كلام الله، فحينما يقول الله : عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً [سورة الممتحنة:7]، فهذه متحققة الوقوع، عسى من الله واجبة، فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ [سورة المائدة:52]، أما التي ذُكرت من أقوال الناس فإنها على بابها من الترجي فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ، وفي هذا فائدة وهو أنه يجوز الدعاء على الكافر بعينه، المجرم والجاحد للإيمان والتوحيد وما أشبه ذلك، وهذا الرجل يقول: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ اغتر بماله، تقول: أسأل الله أن يهلك ماله، أو يهلكه أو نحو ذلك، فدعا عليه بهذا الدعاء.
قال: وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء، يقول هنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله: أي عذاباً من السماء، والظاهر أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها، الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذا التفسير سواء الأول أو الثاني هو تفسير على المعنى، وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء، يعني: عذاباً، لكن لو أردت تفسيره على اللفظ، فيمكن أن يقال: إن الحسبان من الحساب، يعني أصل هذه اللفظة من الحساب، وهو مقدار قدره الله، مقدار يعني هذا يرجع إلى الحساب، مقدار قدره الله عليها، ووقع في حسابه سبحانه، حُسْبَانًا صَعِيدًا زَلَقًا بلقعاً ليس فيها شيء، فهذا أصل هذه المادة أو تفسيرها على اللفظ، أما ما ذكر من أنه العذاب أو أنه المطر العظيم فهذا تفسير على المعنى، يعني هذا الشيء المقدر عذاب، سواء كان مطراً عظيماً أو غيره، والذي جعل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يذكر خصوص المطر العظيم حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أن هذا بالعادة هو آفة الزرع، فيهلكها ويقتلع أشجارها ويتلف ثمارها، فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أي: تراباً أملس من الانزلاق، تنزلق فيه الأقدام.
ظاهر قوله: وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا أن هذا ليس في الآخرة، وإن كان اللفظ يحتمله، فالرجل يقول: وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا فقال له: فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ يحتمل أن يكون في الآخرة، باعتبار أن ذاك ذكر الآخرة، وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي قال: فَعَسَى رَبِّي، ولكن المتبادر -والله تعالى أعلم- أن ذلك في الدنيا؛ لأنه قال بعده: وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء، فهذا انتقصه واحتقره واستصغره؛ لأنه لا يملك مثل هذه الجنة، فقال ما قال، فهذا يقول: فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا، يبدل الحال من الجهتين، من جهتي ومن جهتك أنت، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ وتفاصيل، فمثل هذا يدل ظاهره على أن هذا قد وقع، وليس المقصود به مجرد التمثيل، ولولا أن بعض السلف ذكر هذا لم أذكره.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [سورة الكهف:42-44].
يقول تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ بأمواله، أو بثماره على القول الآخر، والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر، مما خَوَّفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته، التي اغتر بها وألهته عن الله : فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وقال قتادة: يُصفّق كفيه متأسفًا متلهفًا على الأموال التي أذهبها عليه يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ اختلف القراء هاهنا، فمنهم من يقف على قوله: وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ أي: في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله، فلا منقذ منه، ويبتدئ بقوله: الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ومنهم من يقف على: وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ويبتدئ بقوله: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ.
ثم اختلفوا في قراءة الْوَلايَةُ فمنهم من فتح الواو، فيكون المعنى: هنالك الموالاة لله، أي: هنالك كل أحد من مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب، كقوله: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [سورة يونس:90، 91].
ومنهم من كسر الواو من الْوَلايَةُ أي: هنالك الحكم لله الحق.
ثم منهم من رفع الْحَقِّ على أنه نعت للولاية، كقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [سورة الفرقان:26].
ومنهم من خفض القاف، على أنه نعت لله ، كقوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ الآية [سورة الأنعام:62]؛ ولهذا قال تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا أي: جزاء وَخَيْرٌ عُقْبًا أي: الأعمال التي تكون لله -، ثوابها خير، وعاقبتها حميدة رشيدة، كلها خير.
قال: وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يعني: قد سقطت الأشياء التي تحتاج إلى أن تكون معروشة مثل الأعناب مثلاً، تكون خاوية ساقطة على عروشها، ويُعبَّر بذلك بشيء من التوسع عن الخراب والهلاك والدمار، فتقول عن البلاد التي قد خربت، أو المحال التي قد اضمحلت: وجدتها خاوية على عروشها، ليس بها ما ينتفع به، ولا تصلح محلاً للإقامة أو السكنى، وإنما صارت خراباً يباباً، خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا.
ويقول: هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا، اختلاف القراء في موضع الوقف هو باعتبار المعنى، يعني في كثير من المواضع التي يحدد القراء فيها الوقف هو بناء على ما يلوح من المعنى، ولكن هذا قد يتأتى على معنى وقد تحتمل الآية معنى آخر، ولذلك تجدون بعض المصاحف تختلف في مواضع الوقف، وربما تجد الوقف في موضع قد لا يكون مناسباً، أو يحتمل على الأقل أن يكون في موضع آخر، كقوله تعالى مثلاً: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء [سورة الأحزاب:32]، موضع الوقف هنا في الطبعة المنتشرة عندنا، ثم قال: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، فالتفضيل باعتبار التقوى، بشرط التقوى ليس لمجرد القرابة من رسول الله ﷺ، ثم قال بعده: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم.
وقل مثل ذلك في قوله مثلاً: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:1، 2]، ويمكن أن يقال: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ثم تقف بعد "فيه"، ثم تقول: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وهذا الذي عليه علامة الوقف في المصاحف التي بين أيدينا، وهذا أبلغ؛ لأنه بهذا الاعتبار يكون كل القرآن هدىً للمتقين، وعلى الموضع الثاني في الوقف ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، فالمعنى يتغير، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ يتضمن الهدى للمتقين، وإذا وقفت على الموضع الآخر ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ، وجعلت الوقف هنا فيكون نفيت عنه الريب، ثم تقول: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، كله هدى للمتقين، وهذا أبلغ.
وقل مثل ذلك مثلاً في قوله: مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ إلى أن قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ، فالوقف هنا يصح، وهو الذي عليه علامة الوقف في المصاحف التي بين أيدينا، ويمكن أن تصل وتقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا [سورة الكهف:1]، وهنا كذلك قال: وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ في ذلك المقام، لما نزل العذاب لم يستطع الخلاص لما نزل به، ويمكن أن يكون وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ثم قال: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ وهذا هو المتبادر، وهو الأصل باعتبار رءوس الآي، ثم قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [سورة يونس:90].
والمعنى الثاني: هنالك الوِلايةُ على القراءة الأخرى الوِلاية السلطان، للهِ الحقِّ ، أو {هنالك الوِلايةُ لله الحقُّ} يعني: السلطان الحق والثابت الذي لا يزول، ويضمحل دونه كل سلطان.
وقال: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا [سورة الكهف:45، 46].
يقول تعالى: وَاضْرِبْ يا محمد للناس مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في زوالها وفنائها وانقضائها كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ أي: ما فيها من الحَبّ، فشب وحسُن، وعلاه الزهر والنَّور والنضرة..
الزهر معروف، والنَّور هو الزهر أيضاً، ظهر نَوره يعني زهره، وبعضهم يقول: يختص بالزهر الأبيض، وأما الأصفر فيقال له: زهر، هذا مما ينبت بسبب المطر، فتخرج هذه النباتات فتخرج أزهارها فيكون ذلك زينة تستهوي الناظرين، كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ يحتمل أن النبات اختلط بالماء حيث تغذى به، وصار ذلك نماءً له، ويحتمل فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ أي: اختلط بسبب الماء نبات الأرض، تشابك وظهرت ألوان النباتات مشتبكة متداخلة، بِهِ أي: بسببه بسبب هذا المطر، فالمعنى الأول اختلط به نبات الأرض، اختلط النبات بالماء، يعني أنه داخله ونما به وتغذى عليه، والمعنى الثاني هو المشهور، اختلط به أي اختلط النبات، نفس النبات هو الذي اختلط بسبب المطر، تشعب النبات وتشابك، والله أعلم.
فَأَصْبَحَ هَشِيمًا قال: يابساً وهكذا عبارة من عبر أن الشيء الهشيم هو الضعيف أو المتكسر، كل ذلك يرجع إلى شيء واحد، فَأَصْبَحَ هَشِيمًا أي: يابساً بمعنى أنه تهشم، تفتت هذا النبات بعدما كان في غاية الجمال والطراوة والخضرة، وأصبح متكسراً متفتتاً يطير في الرياح يمنة ويسرة، تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ.
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا أي: هو قادر على هذه الحال، وهذه الحال، وكثيرًا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما في سورة يونس: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إذَا أَخَذَت الأرْضُ زُخْرُفَهَاالآية [سورة يونس:24]، وقال في سورة الزمر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُالآية [سورة الزمر:21]، وقال في سورة الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ الآية [سورة الحديد:20]، وفي الحديث الصحيح: الدنيا حلوة خضرة[4].
وقوله: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كقوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ [سورة آل عمران:14]، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [سورة التغابن:15] أي: الإقبال عليه والتفرغ لعبادته خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم، والشفقة المفرطة عليهم؛ ولهذا قال: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ الصلوات الخمس.
وقال عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وهكذا سُئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان عن: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ما هي؟ فقال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. رواه الإمام أحمد.
وروى الإمام أحمد عن مولى لرسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ قال: بخ بخ، لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده، وقال: بخ بخ، لخمس من لقي الله مستيقنًا بهن، دخل الجنة: يؤمن بالله، واليوم الآخر، وبالجنة وبالنار، وبالبعث بعد الموت، وبالحساب[5].
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ قال: هي ذكر الله، قول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصيام، والصلاة، والحج، والصدقة، والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات. وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة، ما دامت السموات والأرض.
وقال العوفي، عن ابن عباس: هي الكلام الطيب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها، واختاره ابن جرير -رحمه الله..
قوله: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ هذه الأقاويل المنقولة عن السلف هي أشبه ما تكون بالتفسير بالمثال، وهذا كله من اختلاف التنوع وليس من اختلاف التضاد، والباقيات الصالحات تشمل ذلك جميعاً، فهي كل ما يبقى للإنسان من العمل الصالح من الأقوال والأفعال والمقاصد والنيات، فإنّ عرض الدنيا يزول ويضمحل، وإنما يبقى ما أريد به وجه الله -تبارك وتعالى، فهذه خير عند الله ، خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا أجراً وجزاءً وَخَيْرٌ أَمَلاً أي خير أملاً لأهلها، وأفضل مما يؤمله أهل المال والبنين، خير لأهلها من الأمل، يعني أفضل مما يؤمله أهل الدنيا من دنياهم؛ لأن أهل الإيمان ينالون بهذه الأعمال في الآخرة أفضل مما كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا، ماذا يؤملون في الدنيا؟ يقولون: تأمين مستقبلهم والتوسع في المعايش، وملابسة وتعاطي اللذات ونحو ذلك مما يؤمله أربابها ، وأما هذه الأعمال الصالحة فإن أهل الإيمان يؤملون منها ما لا يؤمله غيرهم، يؤملون بالأعمال الطيبة الزاكية، فيؤملون الثواب العظيم من الله والجنة التي عرضها السماوات والأرض، والله المستعان.
- رواه البخاري، كتاب القدر، باب لا حول ولا قوة إلا بالله، برقم (6236)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، برقم (2704).
- رواه مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب القسامة، برقم (1669)، والنسائي، كتاب القسامة، باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر سهْل فيه، برقم (4712)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (5625).
- رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة، باب ما يقول إذا رأى من أخيه ما يعجبه، برقم (205)، وصححه الألباني في تحقيق الكلم الطيب، برقم (244).
- رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء، برقم (2742).
- رواه أحمد في المسند، برقم (15662)، وقال محققوه: حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، وصحح إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1204).