بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [سورة الكهف:52، 53].
يقول تعالى مخبرًا عما يُخاطب به المشركين يوم القيامة على رءوس الأشهاد تقريعًا لهم وتوبيخًا: نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي: في دار الدنيا، ادعوهم اليوم ينقذونكم مما أنتم فيه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة الأنعام:94].
وقوله: فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ كما قال: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ الآية، وقال: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ الآيتين، وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا[سورة مريم:81، 82].
وقوله: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا قال ابن عباس -ا، وقتادة وغير واحد: مَهْلكًا.
والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير.
وأما إن جعل الضمير في قوله: بَيْنَهُمْ عائدًا إلى المؤمنين والكافرين، كما قال عبد الله بن عمرو -ا: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به، فهو كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ[سورة الروم:43]، وقال تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ[سورة يس:59]، وقال تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ[سورة يونس:28-30].
وقوله: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا أي: إنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، ورأى المجرمون النار تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها، ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز.
وقوله: وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا أي: ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولابد لهم منها.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء، وهم ليسوا بشركاء ولا شفعاء، ولكن هذا يرِد استعماله في القرآن مراعًى فيه حال المخاطَب، وإن كان المخاطِب لا يقر به، ولا يعترف بصحته، وهذا كثير وهو أنواع، وهذا أحد هذه الأنواع.
وقوله -تبارك وتعالى: فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا، هذا الموضع يحتاج فيه إلى معرفة ثلاثة أمور:
الأمر الأول: معنى البين.
الأمر الثاني: مرجع الضمير وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ.
الأمر الثالث: المراد بالمَوْبِق.
وكل ذلك مما لم يتفق عليه المفسرون، فقوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ قد يفسر على ظاهره المتبادر، إذ قيل بأن الموبق هو العداوة، وجعلنا بينهم العداوة، كما قال الله : وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء [سورة المائدة:64]، والعداوة تكون بين الناس، وتكون بين العابدين والمعبودين من دون الله في الآخرة، فإذا قيل: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا إن الموبق هو العداوة فهذا يكون له وجه في تفسير البين، ولكن تفسير الموبق بالعداوة ليس هو الأرجح والأقرب في هذا الموضع، وإن قال به بعض السلف -.
ويحتمل أن يكون المراد بالبين وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ هو الوصل، وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [سورة الأنفال:1] أي ذات الوصل، وجعلنا بينهم أي: الصلة والوصل الذي بينهم هلاكاً، بمعنى أن الروابط والعلائق التي كانت بينهم صارت عذاباً وشؤماً عليهم، وكبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- يقول: وجعلنا فعلهم ذلك مهلكاً.
وعلى هذا المعنى يكون تواصلهم الذي كان في الدنيا سبباً لهلاكهم، ويكون مهلكاً لهم يوم القيامة، بعضهم يقول: جعلنا الهلاك بينهم، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا؛ لأن كلاً منهم معين للآخر على إشراكه وباطله ومعصيته وضلاله وانحرافه.
والضمير في قوله: بَيْنَهُمْ يحتمل أن يكون بين العابدين والمعبودين، وهذا الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله.
ويقول: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، تقطع بينكم يعني الصلة الوشيجة التي كانت بينهم، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [سورة البقرة:166]، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على هذا المعنى، وهذا القول هو الأقرب، والسياق يدل عليه؛ لأن الله يقول: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا، بين العابدين والمعبودين، فالضمير يرجع إلى ما ذكر قبله، ويحتمل أن يكون وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ أي: بين الكافرين في الآخرة جعلنا بينهم موبقاً.
وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا بعض ما يشهد له أيضاً، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [سورة الروم:43]، يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ[سورة الروم:43]، فيتفرق هؤلاء الكفار.
والاحتمال الثالث: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ أي: بين المؤمنين والكفار، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا، يفصل بينهم، وهذه ثلاثة معانٍ أرجحها أن ذلك يكون بين العابدين والمعبودين، وهذا الذي يدل عليه ظاهر السياق، والله تعالى أعلم.
والمَوبِق المشهور من أقوال السلف أنه: الهلاك، جعل بينهم هلاكاً، فإذا قلت بين العابدين والمعبودين أي: جعل بينهم هلاكاً، سواء قلت بأنها الصلة التي كانت بينهم، أو قلت بأن المراد جعل بينهم أي بين هؤلاء وهؤلاء هلاكاً، وبعضهم يقول: أي موعداً، وابن الأعرابي -رحمه الله- يقول: كل شيء حاجز بين شيئين فهو موبق، فإذا قلت مثلاً: هذا بين العابدين والمعبودين، بينهم موبق أي لا يستطيعون الوصول إليهم، ويدعونهم ولا يستجيبون لهم، ولا ينفعونهم ولا يغنون عنهم من الله شيئاً، وبينهم هلاكاً، بينهم عذاباً يحيط بهم، وكما قال الله : لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [سورة الزمر:16].
قوله -تبارك وتعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا، هنا قال: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ كما أخبر أيضاً أن النار تراهم فقال: إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [سورة الفرقان:12]، فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا الظن في كلام العرب بمعنى اليقين وهو المراد هنا، ظنوا أنهم مواقعوها أي: أيقنوا وعلموا؛ لأن الله -تبارك وتعالى- أخبر عن حالهم في الآخرة بأنهم يكونون في غاية الإدراك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [سورة ق:22]، والمعرفة، فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا، يعني: ما أسمعَهم وما أبصرَهم!، فتذهب عنهم تلك الغشاوة، والحجب التي تحول بينهم وبين السماع والإبصار في الدنيا، فيعاينون الحقائق ويتيقنون المصير، أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [سورة السجدة:12]، فالظن هنا بمعنى اليقين.
فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا، علموا أنهم داخلون فيها لا محالة، ويأتي الظن أيضاً في كلام العرب بمعنى طرف الرجحان؛ لأن القسمة ثلاثية: إذا أبعدنا اليقين فيكون الطرف الراجح والمرجوح والمستوي، فالراجح يقال له: ظن والمرجوح يقال له: وهم، والمستوي الذي استوى فيه الطرفان يقال له: شك، فكثيراً ما يطلقون، وهذا الذي يطلقه الأصوليون، والفقهاء تبعاً لهم، يطلقون الظن على طرف الرجحان، والراجح يقال له: ظن، يقولون: حكم العمل بالظن، يعني الظن الراجح، وإذا قالوا: إن الحكم الفلاني حكم ظني يقصدون أنه لا يفيد القطع لكنه هو الطرف الراجح وليس بوهم، بمعنى أنك إذا أخذت الطرف المرجوح وتركت الطرف الراجح تكون متبعاً للوهم، وهو ما يسمى عند الأصوليين أيضاً في الدلالة إذا لجأ إليه يقال له: التأويل، وهو المعنى الضئيل الذي يحتمله اللفظ احتمالاً ضعيفاً، وهذا اللجوء يقال له: التأويل، وذاك يقال له: المؤول، يعني الطرف الضعيف.
فظنوا أنهم مواقعوها يعني: أيقنوا وعلموا أنهم مواقعوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًاأي: ليس لهم طريق يعدل بهم عنها.
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا[سورة الكهف:54].
يقول تعالى: ولقد بينا للناس في هذا القرآن، ووضحنا لهم الأمور وفصلناها، كيلا يضلوا عن الحق، ويخرجوا عن طريق الهدى، ومع هذا البيان وهذا الفرقان، الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة.
روى الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب أن رسول الله ﷺ طرقه وفاطمةَ بنت رسول الله ﷺ ليلة، فقال: ألا تصليان؟، فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بَعَثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ولم يرجع إلي شيئًا، ثم سمعته وهو مولّ يضرب فخذه ويقول: وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا [1]أخرجاه في الصحيحين.
قوله تعالى: لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ المثل يمكن أن يقال: إنه يقصد به المعنى، المثل يطلق بإطلاقات متعددة، لكن يمكن أن يقال: صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: من كل معنىً هو كالمثل في غرابته وحسنه، صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ومرجع الأمثال أو المثل يكون بالبيان بالنظير، هو الذي يعبرون عنه أحياناً بأنه إبراز المعنى بصورة حسية، كما يقولون، ولكن المثل هنا لا يراد به الأمثال التي تكون عند الأدباء والبيانيين وإنما المقصود أن الله -تبارك وتعالى- جلى لهم المعاني وأوضحها بألوان من التصريف الواضح، وكررها ونوعها بحيث لا تترك في الحق لبساً.
وقوله: وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا، أكثر شيء مما يوصل بالجدل، فالإنسان أكثره جدلاً، وكثير من أهل العلم يقولون: هذا من العام المراد به الخصوص، وأن المراد بالإنسان الإنسان الكافر، قالوا: يدل على ذلك أن الله ذكره بعد قوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، فالكافر هو الذي يجادل بهذه القضايا، ويكابر ويردها، يجادل في الإيمان والتوحيد، ويجادل في البعث والآخرة، ويجادل في الوحي والنبوة.
ثم من الآيات التي تدل على هذا قوله -تبارك وتعالى: وَكَانَ الإنْسَانُ أي: الكافر فإن هذا لا يمنع من استعمال العموم الذي في الآية، وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا، فإذا قيل: إن سياق الآية في الكافر فيكون النبي ﷺ قد استعملها في الأعم مما يدل عليه ظاهر اللفظ، فوجَّه ذلك فيما وقع إلى علي -، وذلك في جوابه ورده أن هذا من الجدال، وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا.
وظاهر اللفظ العموم فيمكن أن يؤخذ هذا العموم ويجرى هذا اللفظ على كل ما يصدق عليه من جهة عمومه، كما سبق في أمثلة متنوعة، وكما في قوله: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[سورة النحل:43]، فهي في الرجوع إلى أهل الكتاب الذين يعرفون الكتب والنبوات فاسألوهم عن هذا إن كنتم لا تعلمون به، وتعرفون أن ما جاء به الرسول ﷺ حق، ولكن يؤخذ من ظاهر اللفظ معنىً أعم من هذا وهو الرجوع إلى أهل الاختصاص وسؤالهم والأخذ عنهم في أي فن من الفنون، فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، الرجوع إلى العلماء في الفتيا، والرجوع إلى صاحب الصنعة في صنعته، ونحو ذلك.
والجدل في قوله: وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا، المراد به الذم، وهذا هو الغالب في القرآن؛ لما يحصل فيه من حضور النفس وطلب الانتصار، وما يقع بسبب ذلك من أمور لا تخفى، وغالب ما ورد في القرآن من ذكر الجدل فإنما هو على سبيل الذم، إلا في مواضع قليلة يسيرة وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[سورة النحل:125]، فهو مقيد بهذا؛ لأن الجدال في الغالب لا يسلم، وأصل معناه يدل على هذا في كلام العرب، حيث قيل: إنه مأخوذ من الجدالة وهي الأرض الصلبة.
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا [سورة الكهف:55، 56].
يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات والدلالات الواضحات، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانًا، كما قال أولئك لنبيهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سورة الشعراء:187]، وآخرون قالوا: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سورة العنكبوت:29]، وقالت قريش: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال:32]، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سورة الحجر:6، 7] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
ثم قال: إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا أي: يرونه عيانًا مواجهة ومقابلة، ثم قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي: قبل العذاب مبشرين مَن صدقهم وآمن بهم، ومنذرين مَن كذبهم وخالفهم.
ثم أخبر عن الكفار بأنهم يجادلون بالباطل لِيُدْحِضُوا بِهِ أي: ليضعفوا به الْحَقَّ الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم، وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا أي: اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب هُزُوًا أي: سخروا منهم في ذلك، وهو أشد التكذيب.
يقول: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا، وفي الموضع الآخر إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً[سورة الإسراء:94]، فهذا في المانع العادي أنهم استغربوا كيف يكون الرسول بشرياً، ولا يكون ملَكاً؟ فهنا في هذه الآية إلا أن قالوا هذا في المانع الحقيقي، إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ يعني: بالعذاب المستأصل، كما ذكر الله -تبارك وتعالى- بعده إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أي: عادته -تبارك وتعالى- في المكذبين للرسل -عليهم الصلاة والسلام، قِبَلاً، ويمكن أن تفسر -والله تعالى أعلم- قراءة قِبَلاً أي: معاينة ومواجهة ومقابلة، وتفسر القراءة الأخرى قُبُلاً أي: متفرقاً، يتبع أو يتلو بعضه بعضاً، ويكون المعنى أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا أي: متتابعاً ليس باستئصال، متتابعاً يتلو بعضه بعضاً، هذا على قراءة قِبَلاً هي التي يمكن أن يربط بها، أو يحمل عليها التفسير الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله، أي معاينة ومواجهة، والله تعالى أعلم.
والقراءتان إن كان لكل واحدة معنى يخصها فهما بمنزلة الآيتين.
يقول: وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [سورة غافر:5] قال: ليضعفوا به الحق، يدحضوه أي ليبطلوه، ليضعفوه، وأصل الدحض يقال للشيء الزلق، فالذي لا تثبت عليه الأقدام والحوافر وما إلى ذلك يقال له: زلق، تنزلق عليه، ليدحضوا أي ليبطلوا، وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، وهذا في الكلام على الجدل أن غالبه يكون بهذه المثابة، ولهذا جاء على سبيل الذم في أكثر المواضع.
والله المستعان.
- رواه البخاري، كتاب التهجد، باب تحريض النبي ﷺ على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، برقم (1075)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، برقم (775).