بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأخرى فقال: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] فجمعت هذه الدعوةُ كلَّ خير في الدنيا وصرَفت كلّ شر؛ فإن الحسنة في الدنيا تشملُ كلّ مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا.
وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العَرَصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام.
وقال القاسم بن عبد الرحمن: "من أُعطي قلبا شاكراً، ولساناً ذاكراً، وجسداً صابرًا، فقد أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار"، ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء.
روى البخاري عن أنس بن مالك قال: "كان النبي ﷺ يقول: اللَّهم ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار[1].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا اللون من التفسير هو من أحسن ما يقال في تفسير هذه الآية، وإذا جرى المفسر على هذا النمط في كثير من المواضع التي يمكن فيها أن تجمع الأقوال سواء كانت من خلاف التنوع أو خلاف التضاد فإن هذا هو التحقيق في التفسير، وهذا تجده كثيراً في تفسير ابن كثير -رحمه الله- وتجده أيضاً في تفسير ابن جرير، وتجد ذلك أيضاً في كلام الحافظ ابن القيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأيضاً في أضواء البيان، وأمثال هذه الكتب التي كتبها أئمة محققون، وهذا بخلاف بعض الكتب التي أولع أصحابها بتشقيق الأقوال وتعدادها فلا تجد فيها مثل هذا، ولهذا إذا قرأ في تلك الكتب من لا بصر له في التفسير ربما لا يزيده ذلك إلا حيرة في معرفة الراجح من هذه الأقوال الكثيرة.
وعلى كل حال فهذا مثال على هذا النوع من التحقيق، وذلك أن الله لم يخصص حسنة دون حسنة، وإنما قال: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً فيدخل فيه كل ما ذكره المفسرون مما يصدق عليه أنه حسنة.
والمعنى الذي ذكره أيضاً في قوله: وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ مما يتعلق باتقاء الشبهات والمحرمات إلى آخره، هذا كله مما يذكر قد بُني على ما يذكر في الأصول من أن النص تسلط عليه أنواع الاستنباط المأخوذة من أنواع الدلالة المعروفة، فيؤخذ منه ومن معناه المطابق والمتضمن واللازم، ودلالة الإشارة، ودلالة الإيماء والتنبيه، فإذا قال: وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ فإن لازم ذلك أن يقيه أسباب دخول النار.
وروى أحمد عن أنس أن رسول الله ﷺ عاد رَجُلاً من المسلمين قد صار مثل الفَرْخ، فقال له رسول الله ﷺ: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إيَّاه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله! لا تطيقه -أو لا تستطيعه- فهلا قلت: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قال: فدعا الله، فشفاه" [انفرد بإخراجه مسلم][2].
وروى الحاكم في مستدركه عن سعيد بن جبير قال: جاء رَجُل إلى ابن عباس -ا- فقال: إني أجرت نفسي من قوم على أن يحملوني، ووضعت لهم من أجرتي على أن يدعوني أحجَّ معهم، أفيجزي ذلك؟ فقال: أنت من الذين قال الله: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:202]، ثم قال الحاكم: [صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه][3].
سبق الكلام في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198] عن الذي يكري نفسه في الحج، وهذه الرواية مفسِّرة لتلك الرواية، فهو يكري نفسه بالحج ويضع من أجرته على أن يمكنوه من الحج.
واسم الإشارة في قوله -تبارك وتعالى: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ [سورة البقرة:202] يرجع كما قال بعض أهل العلم إلى الذي أراد الدنيا بقوله: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [سورة البقرة:200] وإلى الذي أراد الدنيا والآخرة بقوله: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201].
والأقرب -والله أعلم- أن اسم الإشارة يرجع إلى المذكور الآخِر وهو قوله: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] وهذا على قاعدة أن اسم الإشارة يرجع إلى أقرب مذكور، وهذا الذي عليه كثير من المحققين سلفاً وخلفاً وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وابن كثير لم يتعرض لهذه المسألة.
وسريع الحساب من قوله تعالى: وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:202] يحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن مجيءَ اليوم الآخر الذي يقع فيه الحساب وهو يوم القيامة سريع وقريب، ومعلوم أن كل ما هو آت قريب، والله أخبر عن أمر الساعة أنه كلمح البصر أو هو أقرب، وأن هذه الدنيا قصيرة وسريعة الانقضاء والزوال.
والمعنى الثاني المتبادر والأشهر وهو الذي عليه كثير من المفسرين، وهو اختيار ابن جرير الطبري -رحمه الله: أن ذلك الحساب لا يطول لكثرة الخلق الذين يحاسبهم الله، بخلاف حال المخلوقين فإنهم إذا كثر ذلك عليهم فإن هذا يقتضي طول الوقت الذي تستغرقه تلك المحاسبة، والله لا يحتاج إلى إحصاء وعد وضبط بيدٍ أو آلة يضبط فيها هذا الحساب؛ فحساب النفوس جميعاً عنده سبحانه كحساب نفس واحدة، والله تعالى أعلم.
وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة البقرة:203].
قال ابن عباس -ا: "الأيام المعدودات" أيام التشريق و"الأيام المعلومات" أيام العَشْر، وقال عكرمة: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ يعني التكبير في أيامَ التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر، الله أكبر.
هذا القول بأن الأيام المعلومات هي أيام العشر، والمعدودات هي أيام التشريق هو الذي عليه السواد الأعظم، وهو يشبه الإجماع، وإن وجد من خالف في ذلك باعتبار أن الله قال: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [سورة الحـج:28]، فقالوا: إنما يكون ذلك في أيام الذبح والنحر ابتداءً من يوم النحر وثلاثة أيام بعده -على خلاف في العدد- فقالوا: هذه قرينة تدل على أن الأيام المعلومات أيضاً هي تلك الأيام، وهذا القول فيه نظر؛ لأن الله يقول: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203] وهذا دليل واضح أن المراد بهذه الأيام أيام التشريق إذ لا تعجل في أيام العشر، ولأن ذِكر اسمه -تبارك وتعالى- على ما رزق من بهيمة الأنعام لا يعني أنها أيام ذبح وأنها هي المقصودة.
ولكن الناس يذكرونه في تلك الأيام التي هي مقدمة لأيام أخرى شريفة منها أعظم يوم عند الله وهو يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر على قول كثير من أهل العلم وهو الراجح، ثم أيام التشريق التي تأتي بعد يوم النحر، وهي أيضاً أيام عيد، ثم إن كثيراً من الذين جاءوا للحج هم ممن يسوقون الهدي فناسب ذلك ذكر بهيمة الأنعام عند الحديث عن أيام العشر فهي إذن الأيام المعلومات، والله أعلم.
قوله: قال عكرمة: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:203] يعني التكبير في أيامَ التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر، الله أكبر، هذا ورد عن جماعة من الصحابة وعن التابعين أن الذكر في هذه الأيام المعدودات يكون بالتكبير الذي بعد الصلوات، وهو الذي يسميه الفقهاء التكبير المقيد، ويكاد يتفق هؤلاء الفقهاء -رحمهم الله- على أن هذا التكبير المقيد يكون في الأيام المعدودات، وإن اختلفوا في ابتدائه هل يكون من فجر يوم عرفة أو من يوم النحر أو غير ذلك، فهم مختلفون في هذا كثيراً.
ولكنهم يكادون أن يتفقوا على أن ذلك التكبير يكون بعد الصلوات في أيام التشريق، ولا يعني هذا أنه يكبر بعد الصلوات ولا يكبر باقي الوقت، بل يكبر مطلقاً أيضاً؛ لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى، وإذا ذكروا التكبير الذي ذكره الله في الأيام المعلومات التي هي أيام العشر لا يذكرون أن ذلك يكون بعد الصلاة، ولذلك قال الفقهاء -رحمهم الله- عن هذا التكبير: إنه التكبير المطلق، وهذه المسألة وإن لم يوجد فيها نص صريح يحدد ذلك بدقة إلا أنّ تتبع مثل هذه الآثار ربما يكون مستنداً لهذا التفريق بين التكبير المطلق والتكبير المقيد، والله أعلم.
وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: يوم عَرَفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدُنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب[4].
وروى أحمد أيضًا عن نُبَيشة الهذلي قال: قال رسول الله ﷺ: أيام التشريق أيامُ أكل وشرب وذكر الله ورواه مسلم أيضًا[5].
وتقدم حديث جبير بن مطعم -: عَرَفَة كلها موقف وأيام التشريق كلها ذبح.
وتقدم أيضًا حديث عبد الرحمن بن يَعْمَر الدِّيلي -: وأيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه[6].
وروى ابن جرير عن أبي هريرة -: أن رسول الله ﷺ قال: أيام التشريق أيام طُعْم وذكر الله[7].
وروى ابن جرير أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ بعث عبد الله بن حُذافة يطوف في منى: لا تصوموا هذه الأيام؛ فإنها أيام أكل وشرب، وذكر الله [8].
وقال مِقْسَم عن ابن عباس -ا: "الأيام المعدودات أيام التشريق أربعة أيام، يوم النحر وثلاثة بعده".
ورُوي عن ابن عمر، وابن الزبير، وأبي موسى وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وأبي مالك، وإبراهيم النخَعي، ويحيى بن أبي كثير، والحسن، وقتادة، والسدي، والزهري، والربيع بن أنس، والضحاك، ومقاتل بن حيّان، وعطاء الخرساني، ومالك بن أنس وغيرهم مثل ذلك.
وعليه دل ظاهر الآية الكريمة، حيث قال: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203] فدل على ثلاثة بعد النحر.
المشهور الذي عليه عامة أهل العلم أن أيام التشريق التي هي أيام الذبح والذكر هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، أي أنها تنتهي بغروب شمس اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وفي كلها يكون الذبح سواء في ليلها أو نهارها لا فرق، وإنْ فرّق بعض أهل العلم إلا أن هذا هو الذي عليه عامة أهل العلم وهو التي تدل عليه الأدلة، والله أعلم.
يقصد بهذا أن أيام التشريق يجتمع فيها الذكر المطلق في كل وقت والذكر المقيد أدبار الصلوات، وقد جاء عن عمر أنه كان يكبر بقبته بمنى فيكبر الناس.
هذا نوع من وجه المناسبة بين موضوع الآية وخاتمة الآية، فتارة تكون فيما يتعلق بالمذكور في آخرها من الأسماء الحسنى، مثل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة المائدة:38]، فالمناسبة بذكر هذين الاسمين من بين سائر الأسماء ظاهرة، لكن إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118]، المناسبة هنا تحتاج إلى استنباط.
ومن هذه المناسبات التي بين موضوع الآية وخاتمتها هذا المثال، فهنا ذكر النفْر فقال: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [سورة البقرة:203]، ثم قال: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة البقرة:203]، فوجه المناسبة أن الله ذكّرهم بتقواه مع شيء من الوعيد والتهديد غير الصريح حيث قال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فإنه إذا علم أنه سيحشر إلى الله -تبارك وتعالى- خاف واستعد لذلك الحشر، فالله تعالى ذكر هذا الحشر بعد ذكر التفرق، فهم ينفرون بعد حجهم من كل وجه فيتفرقون في أرض الله فناسب ذكر الحشر بعده.
قوله سبحانه: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203]: التعجل إنما يكون في يوم ونصف؛ لأنه ينفر بعد أن يرمي في اليوم الثاني عشر بعد الزوال، والعرب تكمل الكسر وبقية اليوم أو العام أو الشهر أو الأسبوع، فذكر الله اليومين هنا من هذا الباب، والله أعلم.
وبالنسبة لنفي الله للإثم في الموضعين حين قال: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فإن بعض أهل العلم يقول: إن من العرب من كان يعتقد أن التعجل أمر مذموم، ومنهم من كان يعتقد أن التأخر أمر مذموم، فالله بيَّن بطلان ذلك الاعتقاد وأن التعجل لا إشكال فيه، وأن التأخر لا إشكال فيه، ولهذا قال: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203]، فبعد أن كان المتبادر أنه من يتعجل لا إثم عليه لئلا يتوهم أن عمله ناقص ذكر أن الذي يتأخر لا إثم عليه وتبين أن السبب هي هذه العلة التي ذكرها أهل العلم، والله تعالى أعلم.
وفي قوله: وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [سورة البقرة:203] من أهل العلم من يقول: إن النفي في قوله: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ المقصود به أن ذنوبه تغسل جميعاً في حجته هذه، وليس المقصود فلا إثم عليه في تأخره وتعجله، وبهذا القول لا نحتاج إلى جواب عن نفي الإثم مع التعجل والتأخر؛ لأنه على هذا القول الذي اختاره ابن جرير الطبري -رحمه الله- وقال به جماعة من السلف يكون المعنى أن هذا الإنسان الذي حج واتقى الله في حجه قد حُطت ذنوبه، فهو إن تعجل في يومين فلا إثم عليه؛ فقد حُطت ذنوبه، وإن تأخر فلا إثم عليه؛ لأن ذنوبه قد حُطت؛ فقد قال النبي ﷺ: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[10] وقال -عليه الصلاة والسلام: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه[11] وبالتالي لا إشكال في نفي الإثم في التأخر والتعجل؛ لأن المقصود حطُّ الخطايا والذنوب جزاءً للحج المبرور لمن اتقى فلم يرفث ولم يفسق في حجه ذلك.
ويمكن أن يقال: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إن كان متقياً لله في تعجله وتأخره، وهذا معنى قريب جداً ومتبادر ولا يبعد أن يكون هو المراد بالآية، فذلك سائغ وإن كان التأخر أفضل، وهو لا يعارض قول من قال: إن من العرب من كان يتوهم أن التعجل غير محمود أو أن التأخر غير محمود فيمكن أن تجمع بين هذا وهذا، لكنه قول يختلف عن قول ابن جرير -رحمه الله.
ويكون الإنسان محصلاً لهذا المعنى بحيث يكون متعجلاً لم يتق الله إن حمله تعجله على تعدي حدود الله كأن يرمي قبل الزوال، فهذا لم يتق وعليه إثم، ورميه قبل الزوال لا يجزئه، ومثله من حمله تعجله على تضييع الرَّمل مثلاً، ومن ذلك ما يقع من بعض الناس حيث يوكل من يرمي عنه ويذهب بحُجة أن عنده حجزاً في الطائرة، ويوجد في الشباب -وللأسف الشديد- من يفتيه ويقول له: الشريعة جاءت بنفي الحرج، فاذهب ولا إشكال عليك، والحقيقة أن هذا تلاعب بالحج وإلا فلماذا الحجز في ذلك الوقت الضيق ومعلوم أن للحج رمياً في اليوم الثاني عشر، فلماذا هذا العبث الذي نسمعه والفتاوى العجيبة الغريبة.
فالمقصود أن هذا من التعجل الذي لم تصاحبه تقوى الله تعالى، ومن حاله كهذا فقد لا يسلم من الإثم، فيجب على المسلم أن يتقي الله في تعجله إن تعجل.
ويكون الإنسان محصلاً لمعنى التأخر مع الإثم إذا حمله تأخره على معصية الله أيضاً، ومن صور ذلك أن منطقة منى تكون قد خلت من الناس ولم يبق فيها إلا أناس قليل فربما يجترئ بعض من يتأخر على بعض الأمور السيئة كملاحقة النساء، وأمور أخرى غير لائقة، إضافة إلى أنه قد يستطيل مدة المكث فربما يحصل له من الانبساط مع قلة الزحام فيقع في أمور من المخالفات والمحرمات من غيبة وتهكم بالناس وتعليق وما أشبه ذلك، والخلاصة أن من تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى، ومن تأخر بلا إثم فهو أفضل ممن تعجَّل.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب قول الله: وعلم آدم الأسماء كلها (4250) (ج 4 / ص 1644) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار(2690) (ج 4 / ص 2070) واللفظ للبخاري.
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا (2688) (ج 4 / ص 2068).
- أخرجه الحاكم في المستدرك (3099) (ج 2 / ص 305).
- أخرجه أبو داود في كتاب الصوم - باب صيام أيام التشريق (2421) (ج 2 / ص 295) والترمذي في كتاب الصوم - باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق (773)(ج 3 / ص 143) والنسائي في كتاب مناسك الحج - باب النهي عن صوم يوم عرفة (3004) (ج 5 / ص 252) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2419).
- أخرجه مسلم دون قوله: وذكر الله في كتاب الصيام - باب تحريم صوم أيام التشريق (2421) (ج 2 / ص 295) وأحمد (20741) (ج 5 / ص 75) واللفظ له.
- أخرجه أبو داود في كتاب المناسك - باب مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ (1951) (ج 2 / ص 141) والترمذي في كتاب الحج عن رسول الله ﷺ - باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889) (ج 3 / ص 237) والنسائي في كتاب مناسك الحج - باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة (3044) (ج 5 / ص 264) وابن ماجه في كتاب المناسك - باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015) (ج 2 / ص 1003) وصححه العلامة الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2714 ).
- أخرجه أحمد (7134) (ج 2 / ص 229) وقال شعيب الأرنؤوط: "صحيح لغيره وهذا إسناد حسن ".
- أخرجه أحمد (10674) (ج 2 / ص 513) وقال شعيب الأرنؤوط: "صحيح وهذا إسناد ضعيف لضعف صالح بن أبي الأخضر".
- أخرجه أبو داود في كتاب المناسك - باب فِي الرَّمَلِ (1890) (ج 2 / ص 118) وأحمد (24396) (ج 6 / ص 64) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (2056).
- أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب وجوب العمرة وفضلها (1683) (ج 2 / ص 629) ومسلم في كتاب الحج - باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349) (ج 2 / ص 983).
- أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب قول الله تعالى فلا رفث (1723) (ج 2 / ص 645) ومسلم في كتاب الحج - باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1350) (ج 2 / ص 983).